الحراك المدني فتح نافذة أمل على امكانية الخروج من حلقة التدهور السياسي والاجتماعي. فهو اظهر ان لبنان ما يزال يضم من يتنفس وينبض قلبه خارج البنى الاجتماعية الطائفية التي ترسخت في الحياة اللبنانية بشكل مدروس وراسخ. والسمة الشبابية التي ميزت الحركة الاعتراضية في الشارع لم تكن الوحيدة، بل بدت السمة المدنية والحقوقية عنصرين مميّزين لها اذا ما قيست باحتجاجات مطلبية تركزت في قطاعات محددة او قضايا تخصّ فئة من المواطنين.
لقد فتح الحراك نافذة ضوء لامكانية مكافحة الفساد والحدّ منه، ولاحداث هزة في معادلة السلطة لجهة الالتزام بالدستور والقانون. وهو حقق نجاحات مهمة على صعيد فرض مقاربة جديدة على جدول أعمال الحكومة في ما يتصل بموضوع النفايات حتى الآن. وهو الى ذلك ايضاً أثار مخاوف لدى السلطة السياسية مجتمعة من ظاهرته ومن احتمال تطورها. مخاوف لم تصل الى حدّ يجعل السلطة السياسية تتحسس مخاوف وجودية. وهذا ما دفع طرفي الانقسام في السلطة عفويا الى التشكيك بالحراك وإلصاق الاتهامات بالناشطين فيه. فتقاسم الطرفان التصويب على الحراك كل من زاوية اختارها وبنى عليها وسيلة دفاعه الذي تطور الى هجوم غايته انهاء الحراك.
وفي الدلالة على هذا التضام تفادى الطرفان، في زخم الحراك، الهجومات المتبادلة والمعتادة التي ملّها اللبنانيون. اذ لم تشهد المنابر الاعلامية والسياسية ايّ فتح لملفات الفساد المتبادلة، وتحولت المنابر الاعلامية الحزبية الى منابر للتصويب على الحراك المدني بطريقة خبيثة، عبر التسليم بمطالب المتظاهرين المحقة، لكن مرفقة بتشكيك بالاهداف وبالغايات المضمرة وما الى ذلك من اطلاق سهام تحاول ان توقع الحراك… ولو في اذهان الناس، في موقع اللعبة التآمرية على البلد.
قوة السلطة تكمن في المحاصصة التي لا يخل بها الانقسام وتجذيره بين اطراف المعادلة السياسية، بل ربما هو شرط استمرار نظام المحاصصة وقوته ومصدر من مصادر الاستقطاب وحصر اللعبة السياسية بين ثنائية تستبد ودولة تتجوف. من هنا كان الحراك المدني ردة فعل على عبثية الانقسام السياسي القائم وعلى دائرته المغلقة والمدمرة للدولة، عبر محاولة دخولها كطرف جديد على هذه المعادلة. من هنا بدأت معركة جرّ الحراك الى هذه الدائرة ومحاولة تطويعه بمحاولة إيقاعه في لوثة الانقسام السياسي، لأنه شكل بداية لتأسيس خطاب سياسي جديد مرشح أن يفرض مفرداته في المرحلة المقبلة. فقد بدت مخيفة مكافحة الفساد والشفافية، ومحاولة جادة لاثبات حضور لبناني في المجال العام وفي الشارع خارج القيد الطائفي او الآذاري.
على أنّ الحراك المدني لم ينجُ تماما من امراض الانقسام السياسي. ولأن تحالف اطراف السلطة هو تحالف موضوعي، نجح اطرافه بمنع انزياح جزء من الجمهور باتجاه الحراك. فقد بدا للكثيرين ان معايير الشعارات التي رفعت في الحراك وفي مسيراته لم تكن على قدر واحد من الجرأة. لذا طرحت في وجهه مقولات من قبيل “انكم تتجرؤون على السراي وتخافون من الاقتراب من مجلس النواب، تستطيعون ان تنالوا من كل رموز 14 آذار فيما تحاذرون المسّ بكل رموز 8 اذار“. وفيما كان التصعيد في لغة الشعارات يأخذ منحى على حساب تهميش منحى آخر لا سيما في تناول ملفات الفساد، سهُل افقاد الحراك القدرة على اجتذاب فئات مترددة استسلمت الى الشكوك وتبنت اتهامات اطراف السلطة له.
في يوم جلسة الحوار الثانية الاربعاء جمعت السلطة كامل اوراقها التي تملكها وانقضت على المتظاهرين في محاولة للقضاء على الحراك، مستفيدة من تراجع الالتفاف الشعبي حوله. فوجهت ضربتين في آن واحد: واحدة من خلال القمع المباشر واعتقال اكثر من ثلاثين شاباً، والثانية بمحاولة اظهار عجز الحراك عن مواجهة الميليشيوية المحمية من السلطة، من خلال الاعتداء الذي قام به انصار الرئيس نبيه بري على المعتصمين امام وزارة البيئة. اعتداء بذريعة تعرض بعض المعتصمين في شعاراته لشخص الرئيس بري، وتمّ ذلك تحت انظار القوى الامنية وربما اشرافها.
هذه الحادثة تجعل الحراك امام تحدي إعادة الثقة مع جمهور 29 آب وغيرهم، وسط مؤشرات تدل على ان اقطاب السلطة لن يسمحوا باستمراره ونموه. فاللبنانيون الذين حفظوا عن ظهر قلب ان الفساد في الدولة هو اساس نظام المحاصصة، يتوقعون من الحراك المدني ان يبقى محصّنا من الانزلاق في متاهة الانقسام السياسي في السلطة. وهذا بالضرورة يتطلب بداية اعادة الاعتبار الى شعار “كلن يعني كلن”… وسوى ذلك سيبدو الحراك في احسن الأحوال وكأنه يستقوي على طرف فيستطيع ان يكيل له الشتائم ويوجه له سهام الاتهام، ويقف مذعورا أمام طرف آخر يحاذر منه خوفا من بطشه.. يعنيى باختصار “فساد بسمنة وفساد بزيت”، فيما السلطة تظهر كل يوم تضامنها حول نظام مصالحها على حساب الدولة والدستور والقانون.
alyalamine@gmail.com
البلد