ساهم مجرى الأحداث المحتدمة في تسليط الضوء على أسلوب ماكرون وقدرته على تحقيق اختراق دبلوماسي في إقليم مأزوم، ولا شك في أن موضوع العلاقة مع إيران سيشكل الاختبار المركزي للوسطية الماكرونية في سياق التخبط الدولي.
يبدو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وكأنه يسابق الزمن منذ وصوله إلى قصر الإليزيه في مايو 2017، ويكرّس الكثير من الجهد لإعادة الحيوية للدور الفرنسي حول العالم وخصوصا بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط من خلال طروحات وسطية على طريقة “لعبة الهزاز” بين القوى الدولية والإقليمية، وتحت عنوان ضرورة التكلم مع الجميع من أجل الاستقرار والسلام. وساهم مجرى الأحداث المحتدمة من الحروب في العراق وسوريا وليبيا إلى الأزمة الخليجية مع قطر والجدل حول الملف النووي الإيراني وكذلك الوضع اللبناني وقرار دونالد ترامب حول القدس، في تسليط الضوء على أسلوب ماكرون ومقارباته وقدرته على تحقيق اختراق دبلوماسي في إقليم مأزوم بامتياز، ومما لا شك فيه أن موضوع العلاقة مع إيران سيكون مدار الاهتمام في 2018 وسيشكّل الاختبار المركزي للوسطية الماكرونية في سياق التخبط الدولي.
قبل ذهابه إلى الصين ليطالب بحلف بينها وبين فرنسا وأوروبا من أجل “مستقبل العالم”، وبعد عودته منها، حرص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على التباحث هاتفياً مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول ملفي كوريا الشمالية وإيران. ومن الواضح أن الملف الثاني كان المحور الأساسي تبعا للاحتجاجات في إيران وعشية اتخاذ سيّد البيت الأبيض لقراره بخصوص الاتفاق النووي مع إيران. وأتى الاتصال الثاني ليل الخميس 11 يناير بعد اجتماع أوروبي في بروكسيل مع الجانب الإيراني، جرى فيه التأكيد على أهمية التزام كل الأطراف بالاتفاق الموقّع في يوليو 2015.
هكذا أراد ماكرون الكلام باسم الاتحاد الأوروبي في لحظة تفاوض بريطانيا على الخروج منه، وإبان السبات الألماني بسبب انشغال أنجيلا ميركل بالأزمة الحكومية. والأهم أنه يراهن على خيط الوصل مع ترامب في مسعى للتخفيف من آثار الأحادية الترامبية الجامحة على المسرح الدولي. لكن الرئيس الفرنسي الذي يسعى لإنقاذ الاتفاق النووي الذي تخشى فرنسا في حال سقوطه حصول حالة شبيهة بأزمة كوريا الشمالية، يحاول إقناع واشنطن بمساومة تقضي بأن “يصاحب تنفيذ الاتفاق حوار جاد مع إيران بشأن برنامجها للصواريخ الباليستية وسياستها الإقليمية من أجل ضمان استقرار أفضل في الشرق الأوسط”.
من الناحية النظرية يبدو هذا الطرح واقعياً وفق القاموس الدبلوماسي، لكنه من الناحية العملية صعب المنال تبعا للتجارب السابقة بين الغرب وإيران وغلبة الخيار الأسطوري والأيديولوجي عند صنّاع القرار في طهران. وللتدليل على أن مهمة ماكرون ستكون أشبه بالمستحيلة، يكفي مراقبة ردود الفعل الأولية الصادرة عن القيادة الإيرانية، إذ أنه مجرد انتقاد ماكرون للبرنامج الصاروخي الباليستي لإيران في نوفمبر 2017، سرعان ما نقلت وكالة فارس شبه الرسمية للأنباء عن علي أكبر ولايتي كبير مستشاري المرشد الإيـراني علي خامنئي قوله “لكي تحافظ فرنسا على مصداقيتها الدولية يتعيّن عليها ألاّ تتبع بشكل أعمى خطى الأميركيين… الرئيس الفـرنسي يتصرّف الآن وكأنه كلب ترامب المدلل”. يبدو أن سيّد الإليزيه لم يأبه لذلك وتجاوزه من أجل الحفاظ على رهانه وعدم القطيعة مع طهران.
يصرّ إيمانويل ماكرون على التمايز مع سلفيه فرنسوا هولاند ونيكولا ساركوزي في مقاربة السياسة الخارجية، وكان لافتا تصريحه لصحف أوروبية في يونيو 2017 عن رفضه سياسة فريق “المحافظين الجدد” الفرنسيين، في تلميح يربط ما بين أنصار التدخل الدولي الأحادي في عهد جورج بوش الابن في واشنطن، وبين صنّاع القرار الباريسي حيال ملفات سوريا وليبيا وإيران في الفترات السابقة. وينطوي هذا الموضوع على لغط كبير لأن التشبيه غير دقيق والمقارنة غير ممكنة لأن الأمر متروك للسلطات السياسية للتحكيم على أساس كل حالة على حدة بين رفض حرب العراق في 2003، أو استخدام القوة وفق قرار مجلس الأمن الدولي في ليبيا في 2011. أما الكلام عن نهج ديغولي – ميتراني للرئيس ماكرون فهو ربما أكثر دقة مع تلمّس عودة لنهج الاستقلالية وفق قاموس الجمهورية الخامسة وسعي ماكرون لممارستها عبر “لعبة الهزاز” التوازنية بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين وشي جين بينغ، لكن تبيان فعاليتها يتعلق كذلك ببلورة مشروعه في ترتيب البيت الفرنسي والاستنهاض الأوروبي.
لا تعتبر إيران ماكرون صديقا لها، لكن أوساطا إيرانية لا تخفي امتنان طهران
لفرنسا، لأن ماكرون عارض الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ما يتعلق بالاتفاق النووي
على الصعيد الإقليمي، وصلت المبالغة أو دعاية أنصار الانفتاح على روسيا وإيران والأسد داخل الأوساط الفرنسية إلى حد القول إن سياسة فرنسا كانت متشدّدة حيال الملف النووي الإيراني من أجل إرضاء المملكة العربية السعودية. لكن النظرة التاريخية للأمور تدلنا على أن فرنسا التي لم تكن في عهد الجنرال ديغول عضوا في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية قبل تطوير قدرتها المستقلة، انتسبت إلى هذه المعاهدة في عهد جيسكار ديستان ومن حينها انحازت لفكرة النادي النووي المغلق.
ووفق هذا المنطق قام ثلاثة رؤساء متعاقبون، شيراك وساركوزي وهولاند، بمعارضة الطموحات النووية الإيرانية وفقاً للحسابات الفرنسية والمصلحة الوطنية الحيوية حسب تعبير لأحد المفاوضين في الملف. وخلافا للذين ربطوا مواقف وزير الخارجية السابق لوران فابيوس خلال التفاوض مع إيران بالانحياز لإسرائيل أو الولايات المتحدة أو المملكة العربية السعودية و“السنة” بشكل عام، ينفي السفير الفرنسي السابق ميشال ديكلو أنّ هناك “لحظة سنية في فرنسا” (انحياز فرنسي لصالح السنة) خلال حقبة فرنسوا هولاند، بل إن الذي حصل كان “لحظة فرنسية من القوى السنية” التي شعرت بتخلّي أميركا أوباما عن حلفائها. ولذا بعد توقيع اتفاق نووي تعتبر فرنسا أنه اتفاق لا بديل عنه وأنه قويّ بما فيه الكفاية، عاد منسوب معيّن من الثقة مع إيران ومحاولة نسج توازن جديد منذ صيف 2015 وقام فابيوس نفسه بزيارة طهران وفتح باب التطبيع السياسي والاقتصادي.
انطلاقاً من ذلك يبدو تركيز ماكرون على العلاقة مع إيران وصيانة “الأمن الإقليمي الجماعي لمنطقة الخليج” طبيعيا، وذلك لا يتعارض مع الاهتمام بالحفاظ على المصالح الفرنسية الاقتصادية والاستراتيجية، خاصة أن باريس لها صلة مباشرة بمسارات المنطقة الشائكة منذ استضافة آية الله الخميني، إلى مساندة العراق في الحرب ضد إيران، وصولا إلى مواقف بعيدة عن روسيا وضد المحور الإيراني اعتبرها البعض تبعية بالقياس للمواقف الأميركية والإسرائيلية، أو مراعاة لوجهة النظر السعودية الإماراتية أو تنسيقا مع الموقف القطري (الملفين الليبي والسوري في البدايات).
ولذا وحتى لا يحسب على “المملكة العربية السعودية أو إيران” حسب قوله، أراد إيمانويل ماكرون التصرّف وفق الحياد الايجابي وكرر من رسائل الانفتاح على طهران ووعده بزيارتها خلال بدايات 2018. وتعود آخر زيارة رئاسية فرنسية إلى أكتوبر 1976. لكن الموقف الأميركي الحاد ومباحثات ماكرون مع وليي العهد الإماراتي والسعودي في نوفمبر الماضي، دفع بسيد الإيليزيه إلى الاستنتاج بأن أيّ تقارب مفاجئ وغير مدروس مع طهران يمكن أن يقوّض الشراكات الاستراتيجية والمصالح الفرنسية في الخليج العربي. ولذا جرى اعتماد خط جديد يبرز أهمية التمسك بالاتفاق النووي (الخاضع لمراقبة محكمة من الوكالة الدولية للطاقة النووية مع درس تمديده بعد 2025) في موازاة التفاوض حول البرنامج الباليستي الإيراني وإدانة مساعي الهيمنة من الأطراف الإقليمية بما فيها إيران.
بالرغم من إشكالات نهاية العام، كان وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان يستعد لزيارة طهران في الخامس من يناير الحالي، لولا حصول حركة الاحتجاج الواسعة واضطرار باريس لتأجيل الزيارة. لكن على الرغم من هذا التأجيل وبعض سوء الفهم، لا تزال إدارة ماكرون مصرّة على محاولتها التقارب مع إيران. وخلال استقبال الرئيس الفرنسي السلك الدبلوماسي بمناسبة العام الجديد، بدا متيقنا من زيارته القريبة إلى طهران إذ أعرب عن اعتقاده الراسخ بضرورة إيجاد ركائز مختلفة للعلاقة مع إيران من خلال التطرّق للملفات النووية والباليستية والاستراتيجية والإقليمية، وكذلك “مواصلة الحوار الثقافي واللغوي والأكاديمي والاقتصادي مع المجتمع الإيراني”، واعتبر ذلك أمرا لا غنى عنه، ويظهر أن الرئيس الفرنسي يقيس الأمور على أساس استمرار الوضع القائم في طهران، ولكنه يبدو مستعجلاً أيضا لمواكبة أي تغيير سيحصل، إن لناحية سلوك النظام أو لمرحلة ما بعد خامنئي.
لا تعتبر إيران ماكرون صديقا لها، لكنّ أوساطا إيرانية لا تخفي امتنان طهران لفرنسا لأن ماكرون عارض الرئيس الأميركي دونالد ترامب إزاء الاتفاق النووي. لكن طهران التي تعتبر أنها منحت الكثير للجانب الأوروبي وخصوصاً الصفقة الضخمة مع مجموعة توتال النفطية الفرنسية، في يوليو 2017، بقيمة 5 مليارات دولار، والصفقة مع مجموعة سيمنس الصناعية الألمانية في مجال الطاقة في مارس 2016، والتي بلغت قيمتها 3.5 مليار دولار، لم تحصل على انفتاح اقتصادي كبير كما وعدت أوروبا، لأن معظم الشركات تنتظر الضوء الأخضر من واشنطن لتعود إلى إيران وتخشى العقوبات الأميركية. وتعتبر طهران أن ذلك يُعدّ أمرا مخالفا لروحية الاتفاق النووي خصوصاً البند 28، ومن هنا تكرر إيران أمام الجانب الأوروبي بوجوب حماية مصالحه والتصدي للأميركيين.
بناء على هذه القراءة تسعى طهران للإيقاع بين الأوروبيين وترامب وسيكون مسعى ماكرون محفوفا بالمخاطر، إذ أن مجموعة توتال الفرنسية تتردد في الاستثمار في إيران وفق المعطيات الحالية خوفا من تعرّضها لغضب الجانب الأميركي وعقوباته. وأتت الاحتجاجات الأخيرة وشبح عدم الاستقرار والتدخل الإيراني في الإقليم لتزيد من العقبات الكأداء أمام المهمة الماكرونية.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس