قوة النساء في سرّ أمومتهن أولاً. في امتلاكهن وحدهن إسم الأب «الحقيقي»، أي البيولوجي للوليد. قوة السرّ هذه أقلقت الرجال عبر العصور. وعندما تمكّنوا، أسسوا لسلطتهم على النساء، ينظمون أنفسهم بحيث يبدّدون هذا السرّ. وعزل النساء، إبعادهن عن الأبوة المجهولة، كان هو المشترك بين أركان هذا التنظيم. النساء في «الداخل» خلف الاسوار المانعة والحاجبة، هو المكان الذي غُرزن فيه. ملازمتهن لهذا الداخل خير حصن ضد سرّهن. رقابة معقّدة ومتطورة وضعها السيد على امرأته وراح يحرث في الحقول التي بمتناوله. أبوة بيولوجية لا تٌخدع؛ ومع ذلك كانت للخيانة المتلطّية خلف سرية الأمومة القسط الوافر من الاساطير والحكايات والأغاني. واذا أضفنا ان مجتمع الفضيلة هذا كان شاغله ايضا، أن لا يُفتَن بالنساء الا في الحجرات المغلقة، تتصور ان النساء طوال التاريخ العريق من السيطرة عليهن كن محجوبات عن النظر، في «الداخل». لا ترى منهن في الخارج غير الهابطات في أسفل محيطهن الواسع، وخصوصا العبيد والخدم والبغايا.
ثم جاءت حركات تحرر المرأة، وكان أول شعار لها تغيير المكان الذي تتواجد فيه النساء: حثّهن على الخروج الى الشارع والسياسة والعمل والسوق. كانت استراتيجية ناجحة عموما، حققت أهدافا بعينها؛ أطلقت نساء الغرب في فضاءت ما زالت تتّسع. في الغرب أولا، حيث منبتْ النسوية، وحيث يبلغ التحرير أماكن وأوضاعا لم تكن تُتخيل في الامس. ومنها، الأمومة من دون رجل رسمي أو علني أو حقيقي. حركة تحرر المرأة، وكل ما رافقها منذ اربعين عاما، ولّدت فئة من النساء مستغنيات عن رجل، عن أب لأولاد يرغبن بانجابهم. «من دون اسم الاب»: هي الصيغة الرسمية، المعتمدة قانونيا لنسبة من المواطنين حاملي بطاقة الهوية، تصل الى نسبة العشرة بالمئة في بعض بلدان أوروبا. فحيث تبلغ النساء نقطة من حرية الاختيار، نقطة معينة من القوة، تبرز الرغبة لدى بعضهن بـ«إحتكار السرّ»، السكوت عن هوية الأب، أو الغائها. لأنها لا تريده شريكا، أو لا تحتمل شركاء أو لا تحبّ الرجال، أو لأي سبب آخر. والأب عندهن لا يهمّ؛ لا حاجة مادية له، ولا معنوية ولا قانونية.
الرجال مستفزّون بالطبع من كل هذا التحرر في الخيار. كان لا يكفي ان نساء العهود السابقة كنّ ينعمن بلذة السر، وبصورة غير شرعية، ها هن يكسبن الحق القانوني بهذه اللذة. في بداية معاركهن لحقوقهن المهدورة، كن بصدد مطالب، والآن أصبحن بصدد نفي صفة من صفات الطبيعة.
الا ان شيئا جاء من العلم، لا من الدين، ولا العقيدة. شيء ينقذ ماء وجوههم المعكرة: فحص الـ DNA، ذاك الانجاز الذي صار يعرِّف النسبْ عبر فحص الجينات. فحص يقوم على الأحياء، كما على الأموات، بشرط توفّر بقايا من هؤلاء الأموات. والـ DNAليس اكتشاف اليوم، لكن استخداماته الجديدة باتت نقطة الضعف بالنسبة لفئة النساء المستغنيات عن آباء أبنائهن. القصص بدأت ومكتوب لها المزيد: تلك المراهقة التي تحدس بأن والدها البيولوجي هو فلان، بعدما خبأت امها عنها هويته، فيما هذا الأب يبحث عنها ايضا، يلتقيان حول فحص DNA للتأكد «بيولوجيا» عن انتساب أحدهما للآخر. على أن يُرفق بالنهاية ميراث يجب أن يأخذ طريقه الى هذا «البيولوجي» بالذات. هذه قصة باتت كلاسيكية عن فحوصات الـ DNA الدارجة الآن، عن الابوة الضائعة. الرجال يشمتون في ذلك، ينصرون العلم، ويرون في إنجازه هذا ثأراً من التاريخ… بعض النسويات يعتبرن ان هذا الانجاز العلمي بمثابة انتكاسة في مسيرة تحرر المرأة، ولكن الطريق طويل… كما يضفن.
الحالة الوحيدة المشابهة التي عرفها شرقنا، ولكن المقلوبة، كانت حالة المصريين هند الحناوي وأحمد الفيشاوي، نجل الفنان فاروق الفيشاوي، العائدة الى خمس سنوات، عندما رفع والد هند، الاستاذ الجامعي حمدي الحناوي، دعوى ضد أحمد الفيشاوي المتنكّر لأبوته من الولد الذي تحمله ابنته، بعد زواج عرفي معه. القضية تشغل المحاكم والتلفزيون والصحافة والناس. لأول مرة، أب يتجرأ علنا على خوض معركة نسب حفيده من ابنته. يريد الحق القانوني من زواج لا يعترف به المجتمع، لكن يعترف به القانون بخجل. فيدير معركته لسنتين من دون هوادة.
القضية تبلغ نقطة الفصل عندما تقبل المحكمة باخضاع أحمد الفيشاوي لفحص الـ DNA، وقد اقترحه حمدي الحناوي. يتلكأ الفيشاوي، يسوّف، يختفي عن النظر، يتغيب عن الجلسات… وفي النهاية يخضع للفحص. وتكون النتيجة ايجابية. الفيشاوي، بحسبها، هو الأب البيولوجي للطفلة لينا، التي ولدت اثناء معركة أمها من اجل اعتراف أبيها بها، من أجل منحها اسمه، والا وصمت بالعار ومن ثم التهميش طوال بقية حياتها. بعد قضية الحناوي ـ فيشاوي، انهالت على المحاكم الشرعية مئات من دعاوى النسب القائمة على زواج عرفي، لا نعرف الى الآن نتائجها، أو لم يتابعها الاعلام…
ولكن المهم هنا ان حمدي الحناوي كان رائداً في اللجوء الى فحص DNA. شرع الباب واسعا أمام نسبة عالية من المهجورات من بين نساء مصر بعد الحمل للكشف العلمي، عن آباء أبنائهن المتوارين المتخفّفين من مسؤولياتهم. فاعتراف الأب يرفع المرأة من السقوط ويمنحها المناعة الطبيعية التي تتمتع بها كل أم يحمل ابنها اسم أبيه. وهذا غرض يلتقي مع الرجال المهجورين في الغرب من نساء لم يرغبن بأبوتهم. من هذه الزاوية، الفرق واضح بين الشرق والغرب: فحيث تتحرر بعض نساء الغرب من ثقل الأب، تتحرر نساء الشرق بارغامه على الاعتراف بهذا الثقل. وحيث اللجوء الى فحوصات الـDNA في الغرب يكبح جماح هذا التحرر عبر صدقيته البيولوجية، عبر الكشف عن الأب «الحقيقي»، يكون بالمقابل في الشرق هذا الكشف سبيلا الى تطبيع وضع أولئك النساء، وانقاذهن من العار والتهميش.
الآن، نقطة أخرى: يتصوّر المستقبليون ان السنوات القادمة، مع ازدياد فئة الامهات الوحيدات، ومع ازدياد عدد الآباء الباحثين عن ذريتهم البيولوجية، أن يدخل فحص الـ DNA في نظام الشراكة الجنسية، وتصبح له مؤسسات رقابة وقوانين تفصيلية، تزيد حضوراً مع تطور التجربة. رجال يتجسّسون، ونساء ايضاً؛ «أخ كبير» إضافي، رقابة أخرى، بعد الكاميرات والملفات والتنصّت… ولا ننسى في المعْمعة الرقابية هذه، ان هناك نساء باحثات عن أب لأبنائهن… فنكون ساعتئذ أمام مجتمع تجسّس وتجسّس مضاد، مجتمع من دون أسرار… أو مجتمع يخترع أسراره تعبيراً عن تمرّده ضد القوانين التجسّسية…