بدأها الشعب التونسي، ويعيشها في هذه اللحظات الشعب المصري، وتتلهف إليها شعوب بلداننا الأخرى… إنها يقظة شعوب المنطقة بعد سبات كاد أن يخرجها من التاريخ، بفعل القمع والاستبداد المفوَّض به دوليا، والذي حول هذه الشعوب إلى مجرد أفراد خائبين وخائفين، لا حول لهم ولا قوة، وقد فقدوا ثرواتهم وكراماتهم وحريتهم.
هذه المرة لم يعد من الممكن خداع الشعوب بالشعارات الطنانة الكاذبة، لإبقائها في غفلتها. ورفعت الأجيال الجديدة شعاراتها بوضوح: الحرية والكرامة والعدالة، كنقيض لما عانته من استعباد ومهانة وظلم. ولم نجد شعاراً واحداً في الانتفاضتين التونسية والمصرية يهتف ضد الصهيونية والإمبريالية، ليس لأنهما بريئتان، بل لأن الأجيال الشابة خاصة عرفت أين تكمن المشكلة بالضبط، ولم تعد تخدرها وترهبها شعارات السلطات، ولا المعارضات الأيديولوجية المتداعية.
أوشك المستبدون أن يقنعوا العالم بأن شعوبهم مجرد “رعاع” لا يستحقون الحرية والديمقراطية، وبالتالي لا بد من ضبطهم بأسوأ الأساليب القمعية. وأمَّن المستبدون للخارج ولأعدائنا ما يسمى بـ “الاستقرار”، لقاء إطلاق يدهم في تدمير بلدانهم وتخريبها واستعباد شعوبها. كان ثمة وطن بلا مواطن، وبالتالي لم يكن الوطن سوى مزرعة، وهذه الثورات ستصنع المواطن، ومعه الوطن.
تظهر التجربة المصرية الحية، كما الحالة التونسية قبلها، كيف تستمر القوى الأمنية التي تحمي الأنظمة بدورها التخريبي في المراحل الانتقالية، ويكشف ذلك مدى الدور الإجرامي التي يمكن أن تصل إليه في معاداة الأوطان والشعوب. لقد انسحبت القوى الأمنية المصرية من الشارع، لتترك فراغاً ساهمت في تعزيزه، وبذلك يطبق المستبدون عملياً نظريتهم الشهيرة: “إما نحن أو الطوفان”! ومع ذلك، للقمع حدود، وأنظار العالم كله موجهةً إلى الحدث، لحظة بلحظة. ولم يعد بالإمكان ارتكاب الجرائم الوحشية في غفلة من العالم.
وتحققت الوحدة الوطنية الحقيقية في انتفاضة الشعب المصري، وقد ذهب الاحتقان الإسلامي المسيحي أدراج الرياح. ويؤكد ذلك أن مثل هذه التناقضات لم تكن سوى لعبة الاستبداد، أو نتيجة لظروفه؛ فالناس عندما يقعون في الإحباط، يتحولون إلى سلوك معاوض ومرضي، لا يلبث أن يتلاشى في الشروط السوية.
ولا يظنن أحد أنه بمنأى عما حدث في تونس، ويحدث الآن في مصر، فقد حددت الشعوب هدفها الرئيس، الحرية والديمقراطية. وإن من يريد استباق الأحداث في بلده، عليه أن يعمل على تحقيق هذا الهدف، مع أن ذلك يتطلب شجاعةً ووعياً استثنائياً من قبل الحكام، وغالباً ما لا يمكنهم القيام به، بسبب من قصر النظر أو العجز، وقد يذهبون في غمرة عجرفتهم إلى حتفهم بأنفسهم، أو يهربون.
ليست السياسة الخارجية إلا امتداداً للسياسة الداخلية، ولا يمكن أن تحترم الأنظمة شعوبها في الوقت الذي تثير فيه المشاكل مع الآخرين، كما لا يمكن أن يكون قهر هذه الشعوب سوى خدمةً تُقدَّم لأعدائها على طبق من ذهب.
بعد أن تتحرر شعوبنا، وتستعيد ذواتها، ستكون قادرة على أن تستعيد الحقوق الوطنية المسلوبة، بالطريقة التي تقررها، ممثلةً بمن انتخبتهم بصورة حرة. وستصبح من الآن فصاعداً محط احترام كل شعوب العالم، وستفرض نفسها على جميع الدول، سواء كانت صغيرة أم كبيرة، بعد أن كاد التاريخ أن ينساها. إنه عصر التنوير والتواصل الذي اكتسح العالم برمته، وتأخر علينا.
تعيش مصر الآن مفترقاً مفصلياً، ويتصدى الأحرار لكل مظاهر الهمجية التي تعبر عن وجه الاستبداد الحقيقي. ومهما يكن فلن يرجع التاريخ إلى الوراء، وعندما تستعيد مصر دورها في المنطقة على أسس جديدة، ستكون رافعةً كبيرة لباقي شعوب المنطقة، وحافزاً لاستمرار مسيرة التغيير، الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى.
mshahhoud@yahoo.com
د. منير شحود، كاتب وأستاذ جامعي سوري