دون ان نقلل من حقيقة ان حماس قاتلت وصمدت حيث لم يتوقع احد صمودها بهذه الطريقة امام حدة الهجوم الاسرائيلي، الا ان افضل ما تمتلكه اسرائيل في الصراع مع العالم العربي هو مقدرتها العسكرية والمسلحة. فهذا ما ركزت عليه عبر تاريخها منذ ان نجحت في احتلال فلسطين عام ١٩٤٨. وقد ابتدع العالم العربي وسائل كثيرة في مواجهة هذه الدولة الاسبارطية التي تعتمد عقيدة عسكرية قتالية. ففي عام ١٩٤٨ كانت هزيمة الانظمة الملكية، وبعد ذلك جاءت الانظمة الثورية الجديدة فانهزمت هي الاخرى عام ١٩٦٧. وما ان برزت الثورة الفلسطينية بقيادة فتح كردة فعل على احتلال بقية فلسطين الا واستمرت الحروب الواحدة تلو الاخرى دون ان يقع تقدم باتجاه تحرير الاراضي الفلسطينية الا التقدم الذي تم من خلال عملية السلام عام ١٩٤٩( اوسلو) بعد انتفاضة فلسطينية لم تستخدم السلاح بدأت عام ١٩٨٧. ثم جاءت موجة جديدة بقيادة التيار الاسلامي الذي رأي هو الاخر بأن القوة العسكرية هي الجوهر وان الحل المرحلي في دولة فلسطينية ليس هدف الفلسطينيين والمسلمين. فبرز انشقاق في المعسكر الفلسطيني بين حركة فتح وحركة حماس الوليد الجديد الذي اتى الى الساحة عام ١٩٨٨. بل انتهى الامر بعد سلسلة من العمليات الانتحارية قام بدأها التيار الاسلامي الفلسطيني في حماس والجهاد انطلاقا من الضفة الغربية ومناطق السلطة الفلسطينية وانضمت اليها فيما بعد فتح في عام ٢٠٠٠ . وقد نتج عن ذلك التطور اجتياح اسرائيل للضفة الغربية ومحاصرة عرفات في مقره حتى وفاته عام ٢٠٠٥.
والملاحظ في التجربة العربية والفلسطينية في مواجهة اسرائيل انه ما ان تبدأ فئة من الفئات بالتفكير في سلوك طريق سياسي او استخدام وسائل جديدة للمقاومة اقل عنفا الا وتبرز فئة جديدة تسعى للمواجهة المسلحة فتركب موجة الشارع العربي المتعطش للتعبير العاطفي. هكذ ا اصبحت العقدة الاكبر في الصراع العربي الاسرائيلي المواجهة العنيفة التي تتفوق فيها اسرائيل بحكم تفوقها بينما ندفع المدنيين والابرياء اكبر الخسائر. وهذا ما حصل مع غزة مؤخرا، فقد وجدت حماس في ايقاف الهدنة فرصة لها لتغير قواعد اللعبة، ولكن النتيجة هي دمار كبير وخسائر مدنية اكبر.
ولم يكن موضوع السلاح امرا عابرا في تاريخ المواجهة العسكرية الاسرائيلية، كانت لهذا السلاح ايجابيات وكانت له سلبيات، فقد نتج عن الحروب العديدة تدمير مدن عربية، وانتشار حروب اهلية كما وقع في لبنان والاردن، وتدمير اسرائيلي لمدن فلسطينية هدفه تخفيف الديمغرافيا الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. في احيان خدمت المواجهة المسلحة العرب والفلسطينيين بتحولها الى ارض خصبة للحشد العربي او للتضامن مع القضية الفلسطينية او لتأكيد اصرار الفلسطينيين على تحرير ارضهم وبلادهم. ولكن من جهة اخرى هناك الكثير من الاضرار والتراجعات التي نتجت عن العنف المسلح.
مع هذه الحرب علينا ان نتساءل عن تقدير الموقف الذي مارستة حماس قبل ان تقرر عدم تمديد الهدنة الهشة مع اسرائيل؟ ونتساءل ان كان هناك ضغوط على حماس الخارج بالتحديد لفرض كسر لواقع التهدأة وان كانت الضغوط هدفها تفجير الموقف الفلسطيني في غزة بهدف احراج دول عربية معتدلة تصطدم في بعض توجهاتها مع ايران وبهدف استباق اية محاولة اسرائيلية او امريكية للاشتباك مع ايران حول الملف النووي؟ اسئلة كثيرة تطرحها الحرب في غزة، فحماس تؤمن بالعنف المسلح حتى النهاية، ولكنها تؤمن بنفس الوقت بتحرير فلسطين من البحر الى النهر وذلك انطلاقا من وجهة نظر دينية تتعلق باعتبار ارض فلسطين وقف اسلامي.
ومن جهة اخرى لقد غير العالم العربي هدفه تجاه فلسطين وركز على ضرورة تحرير الاراضي التي يمكن تحريرها وهي الضفة وغزة والقدس بل اصبح الهدف العربي والفلسطيني اقامة دولة فلسطينية في تلك الاراضي. ولكن حماس لم تلتزم بهذا المشروع، اذ سعت في الجوهر لاسقاط مشروع الدولة الفلسطينية انطلاقا من قناعتها بأسلامية القضية الفلسطينية. ولكن هذا يعني ان ترجمناه على الارض اسقاط للقرار الفلسطيني المستقل ورهنه بقرارات اسلامية وعربية متناقضة ولا يهمها ان وقعت في فلسطين كوارث جديدة وملايين اللاجئين كما حصل عام ١٩٤٨، فالمهم بالنسبة لايران واطراف عربية عديدة هو تسجيل موقف ضد مصر والسعودية والاردن و اعادة العالم العربي الى اجواء الحرب والاستتنزاف ليصبح الجميع متساوين في الكارثة.
ولكن عدم اجماع الفلسطينييين على الهدف والوسائل المستخدمة سيساهم في وقوع كارثة اكبر كما يتضح من السياسة الاسرائيلية التي تهدف الى اخراج الفلسطينيين من ارضهم. فأن كان افضل ما لدى الاسرئيليين هو القوة المسلحة، فافضل ما لدى الفلسطينيين هو القوة الديمغرافية والوجود علي الارض وفوق هذا قضية الحق والعدالة. لهذا فان توحيد الاستراتيجية الفلسطينية اساسي لاقامة دولة ولكن هذا يتطلب ايضا وسائل نضال جديدة، واستراتيجية سلمية واضحة واقتناع حماس بأن مشروع الدولة الفلسطينية على جزء من فلسطين يصب في صالح الشعب الفلسطيني كما يصب في الرؤية الاسلامية التي لا تريد بالتأكيد ان ترى تهويدا لما تبقى من فلسطين. هذا كله يتطلب من حماس والجهاد رؤية جديدة لما هو ممكن سياسيا وانسانيا ويتطلب ايضا استعادة القرار الفلسطيني المستقل كشرط ضروري لهذه الرؤية.
سوف يكون السؤال: هل تسطيع اسرائيل ان تعيش بحالة سلام مع العالم العربي المحيط بها بعد كل الذي وقع ويقع؟ الواضح حتى الان انها تستخدم القوة المفرطة والمسلحة لاخضاع العالم العربي، ولكن الواضح ايضا ان الكثير من سكانها لديهم رغبة في العيش بصورة طبيعية، وبحياة عادية، وسلام يعطيهم اقتصادا جديدا وازدهارا. هذا الجمهور الاسرائيلي يخشى من ان ان تفقد الدولة اليهودية صبغتها اليهودية. ويعرف قطاع كبير من الرأي العام الاسرائيلي ان المخرج للمأزق الذي تعيشه دولتهم مرتبط بانشاء دولة فلسطينية، خاصة وان خيار الطرد الجماعي للعرب والفلسطينيين لم يعد ممكنا، حتى حرب غزة لم تنتج هجرة فلسطينية الى مصر بسبب صمود الفلسطينيين الكبير من جهة ولكن بسبب اغلاق المعابر المصرية من جهة اخرى، كما ان تهجير سكان الضفة الغربية الى الاردن ليس ممكنا بسبب صمود الفسطينيين في الضفة الغربية اضافة الى الموقف الاردني الذي يخشى هجرة جماعية فلسطينية الى اراضية. ان الحل الوحيد امام اسرائيل هو دولة فلسطينية، والحل الوحيد امام الفلسطينيين هو ايضا ايضا دولة فلسطينية، لان ما تبقى من صراع مسلح وقتل وتشريد هو اضاعة للجهود وترك الناس لتذبح في حروب يمكن تفاديها.
ان المقاومة الفلسطينية بأمكانها ان تكون بالتعليم، بالثقافة، بالادب واللغة، بالمتظاهر والحجارة والحشد الجماهيري وتدمير الجدار بالمعاول، بامكانها ان تتميز بالديمقراطية وفي نشر الحريات و العدالة بخلاف ما هو قائم في الكثير من الانظمة العربية. وبأمكانها ان تكون دولة تحي ذكرى الشهداء وذكرى كل من قدم من اجل فلسطين، و ذكرى التاريخ، و الحروب، و المستقبل، وبأمكانها ان تسعى لتحويل عرب ١٩٤٨ الى رسل كرامة ونشاط لصالح الهوية وتطوير كما بامكانها ان تحول عرب ١٩٤٨ الى رسل سلام بين العالمين الاسرائيلي والعربي الفلسطيني، وان تساهم هذه المقاومة بتحويل اسرائيل مع الوقت الى دولة طبيعية تعالج عنصريتها وعقدتها العسكرية وشعورها الدائم بالحصار ورفضها للعرب بين مواطنيها. بمعنى اخر هل تستطيع اسرائيل الصهيونية ان تصمد في صهيونيتها وعنصريتها في ظل سلام حقيقي وفي ظل نماذج عربية نامية وحرة؟ بمعنى اخر هل نواجه العنصرية في اسرائيل كما نواجه بنفس الوقت العنصرية والبوليسية في صفوفنا. هل يصبح الحفاظ على سكاننا واهلنا هدفا يستحق الموقف، وهل نبحث عن وسائل جديدة تحقق لنا اهدافنا بدماء وخسائر اقل؟
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
غزة: اعادة النظر بوسائل النضالتحية من القلب والعقل الى هذا المفكر العربي الكبير.لقد تابعت مقالاته كافة لاسيما تلك التي تتعلق بتطورات العدوان على غزة ونتائجه وعبره .ورأيت فيه التحليل العقلاني المعمق والذي يستند الى التفكير العلمي المنهجي في علوم التاريخ والسياسة والتخطيط الإستراتيجي .ولعل الأمة العربية والإسلامية هي بأمس الحاجة لمثل هذا المفكر- والأهم لأسلوبه في التفكير ، للخروج من المأزق التاريخي الكبير الذي نقع فيه جميعا لاسيما القضية الفلسطينية بالذات .ورغم كل العواطف تظل السياسة من حيث الأساس هي فن الممكن ومن لايدرك اللعبة وقواعدها على مسرح الأحداث لايرحمه التاريخ . وأنا أنصح القارئ الكريم التمعن والقراءة المتأنية لمقالات… قراءة المزيد ..