نتذكر حبيب صادق
ضئيلة، تكاد لا تذكر مساهمة حبيب صادق في صناعة الهالة التي تحيط به في حياته ثم بعد رحيله.
حبيب صادق الرمز صنعه خصومه على تنوعهم واختلاف مصالحهم.
خصوم إصلاح النظام السياسي، عندما كان الإصلاح ممكنا، دون الإنزلاق الى جحيم النزاع الأهلي.
خصوم بناء دولة العدالة الإجتماعية السيادة الوطنية بعد الحرب؛ المهرولين بالسياسة والإقتصاد معا الى الإفلاس الذي تتخبط فيه البلاد.
خصوم استكمال إنجاز سياسي فريد، كان حبيب ركنا كبيرا فيه وصولا بالبلاد والناس الى ما نحن عليه اليوم.
لهؤلاء الخصوم يجب توجيه الشكر؛ فلا فضل لنا، نحن محبيه ومريديه؛ لا فضل لنا في هذا الألق، يشع من حبيب في الحياة وفي الغياب.
هو لم يصنع شيئا، سوى أنه كان هو ذاته، في الصدق والإستقامة والأنفة واحترام الذات والآخر؛ في قوة وصلابة ووضوح الموقف؛ هو ذاته في الشجاعة الأدبية والشخصية؛ في ازدراء المال والمناصب والمخاطر!
كل هذه مقرونة بالتواضع الى حد الإنمحاء، والأناقة في التعبير الى حد الأدب الرفيع، وخفة الظل في تناول الكبيرة والصغيرة من المسائل، وسعة الصدر والثقافة والدار!
نشتاق الى “الأستاذ حبيب”؛ الى حكمته وسعة أفقه وصواب نظرته وعميق صبره في أيامنا هذه؛ أيام الوجع والحداد والحزن والمرارة والمهانة والضياع.
عاش اللبنانيون “حرب الإسناد” منقسمين بعمق حول ضرورتها ومسؤولية مباشرتها؛ وزاد الإنقسام حدة حول شروط إنهائها ومصير ما تبقى من سلاحها.
شروط إنهاء الحرب جاءت أفدح من الحرب؛ وما يزيد الأمور بشاعة أن الذين أذعنوا لوقف إطلاق نار من طرف واحد مع إسرائيل، يطلقون نارا سياسية وأمنية كثيفة على الداخل، ساعين الى بعث ما عاشوه غلبة، سحابة سنوات قصيرة عجاف، وأدى بهم وبالبلاد وأهلها الى هذا الخراب العميم.
يهاجمون الدولة لاعتمادها الخيار الديبلوماسي، وهو الوحيد المتاح بعد النكبة؛ والجيش بحجة أنه عاجز عن حماية البلاد والناس؛ “والقوات الدولية” لسعيها تنفيذ القرارات الدولية؛ وسائر اللبنانيين إذا قالوا لهم كفى.
جميع هؤلاء خونة ومتآمرين؛ وبقايا السلاح وبقايا العسكر وبقايا الأمن وبقايا الإعلام مستنفرين لتأديبهم وإخضاعهم.
هذا فيما لا يضاهي استمرار الضربات الإسرائيلية إلا دقتها القاتلة؛ في إصابة مراكز هي في المبدأ سرية، ومسؤولين عسكريين وأمنيين وتمويليين، مفترض أن لا تعرفهم إلا الحلقة الضيقة في البيئة الحاضنة!
صبر على إسرائيل التي أردت الى الآن ما يفوق مئتي ناشط منذ أوقفوا نارهم، ولا صبر على الداخل، رئاسة وحكومة وجيشا ومجتمعا مدنيا ومراكز ثقافية وجامعات وجماعات ومدن وبلدات؛ بما فيها تلك التي فتحت بيوتها وقلوبها للنازحين في محنتهم؛ ثم كلمة جارحة مع كل إطلالة، آخرها باقين على قلوبكم.
لا نملك إزاء هذه العدائية الطافحة إلا أن نلوذ بالدولة. نطالبها بالدفاع عن نفسها أولا؛ أن تدافع عن رموزها ومؤسساتها الكبرى، محراب سيادتها الوطنية ومسؤوليتها عن اللبنانيين. أن تعلن أنها الملاذ والمرجع لكل ضحايا هذه العدوانية؛ هم السواد الأعظم من اللبنانيين المستهدفين بالترهيب والذين ذاقوا طعم الإرهاب؛ تخوينا وغطرسة واغتيالات، ويخشون عود على بدء.
أن تقول الدولة نيابة عن هؤلاء جميعا ومفوضة منهم، أن التمسك بالسلاح تمسك بالإحتلال.
القلق الممزوج بالخيبة يقتضي مصارحة الدولة أن ما آلت إليه أحوالها يوشك أن يقوض صدقيتها، وانطلاقة بدت واعدة، آخذة بالتحول الى سراب ومجرد ذكرى طيبة.
أحاول استلهام وضوح حبيب صادق وأتشجع بحضور أصدقائه لمناشدة دولتنا ومصارحتها بقساوة ما نحن فيه وعليه:
• المبادرة الى حرب الإسناد؛ أخطر أنواع الحروب من حيث مسؤولية مباشرتها؛ ثم خسارة الحرب؛ ثم الإذعان لوقف إطلاق نار من جانب واحد؛ كل هذا وضع البلاد أمام أخطر معادلة سياسية إزاء إسرائيل والعالم الخارجي؛ قوامها فتح مجال الإجهاز على ما تبقى دون تمييز كبير، بين من بادروا الى الحرب ومن تنكبوا المسؤولية بعد الهزيمة؛ ما هو جار نموذج على القادم.
• الخيار الديبلوماسي مضمونه قبول التفاوض في ظل ميزان القوة القائم، ثنائيا وإقليميا؛ وهو السبيل الوحيد المتاح أمام الدولة؛ متاح لها الإستعانة، والى حد معين الإستقواء بأصدقاء لبنان، عربا ودوليين؛ ولكن غير متاح أن يفاوض هؤلاء نيابة عنها؛ فيما تكتفي بالمطالبة بإزالة الإحتلال.
• طرح إتفاقية الهدنة هو المدخل التفاوضي الصحيح؛ دون أوهام حول أن الحل المرجو يمكن أن يتجاوزها. والأخذ بالإعتبار أن الدولة التي وقعت هدنة 1949، اتخذت قرارا سياسيا كبيرا، جوهره قدرتها المحسومة على فرض الأمن، دون شريك أو منازع، على حدودها وكل أراضيها؛ مقابل إلتزام إسرائيل بموجبات الهدنة. معادلة حققت للبنان عقدين من الإستقرار حتى “إتفاق القاهرة”.
• منطق التفاوض إنطلاقا من “إتفاقية الهدنة” هو الرجوع الى دولة الهدنة.
وهدف التفاوض الرئيسي إنهاء إحتلال التلال الخمس وملحقاتها. وتحديد وترسيم الحدود البرية وتثبيت إتفاق تحديد الحدود البحرية، رغم ما تضمنه من تفريط في موارد البلاد الإقتصادية. والذهاب بمزارع شبعا الى التحكيم الدولي مع إسرائيل وسوريا على حد سواء.
• الهدف الموازي التفاوض على العبور من “إنهاء الأعمال العدائية” الذي يحكم الواقع الحالي، وشروط إنهاء العداء بين الدولتين ؛ تأكيدا وضمانا لتمكن لبنان من إعادة إعمار الجنوب؛ بالموارد الوطنية المتاحة والمساعدات العربية والدولية؛ وعودة الناس الى البلدات والقرى، ومباشرة الإعمار.
هذا سوف يكون طريقا شاقا وطويلا؛ شرطه الوحدة الداخلية، كي لا يصبح مستحيلا وتتضاعف المخاطر المحدقة. لا التفاوض مع إسرائيل نزهة؛ ولا إعادة إعمار الجنوب والضاحية والبقاع ممكن في ظل استمرار حال العداء مع إسرائيل؛ ولا استقطاب الإستثمارات العربية والدولية لإنهاض الإقتصاد متاح في ظل استمرار هذا الواقع.
الحكمة والحنكة في آن معا، ربط هذه المصالح الوطنية الكبرى؛ الأمن لإعادة الناس الى أرضها والمساعدات لمباشرة الإعمار؛ والإستثمارات لإنهاض الإقتصاد؛ ربطها جميعا بمجرى التفاوض في بعديه العربي والدولي. مع الإعتبار أن الخارج يتحدث بلغة الإستثمار أكثر بأضعاف من المساعدات.
لطالما ردد حبيب صادق أن الإصل هو تماسك الداخل؛ وأن الوحدة الداخلية، على صعوبتها، تضاعف القوة الوطنية، وتتيح تحقيق الأهداف. وفقا لهذا المنطق، حبيب كان ركنا في تحقيق ربيع 2005، بمخاطره وأوجاعه؛ وسوف يتعين على الذين يرون فيه عروتهم الوثقى السعي لتحقيق إجماع وطني يحقق للبلاد أمنا مستداما، وللناس عودة وإعمارا وثباتا في الأرض والتراث والإيمان.
أهل جبل عامل هم أهل إقدام وتضحية ومهابة؛ يعرفون من التاريخ قبل الحاضر أن حفظ الذات يقع في حسن الخيار وحكمته، إزاء صروف الدهر ومحن الزمان؛ قلب صفحة العداوة ليس أمرا هينا، ولكنه على مرارته، هو حفظ لهم قبل سائر مواطنيهم؛ وضمانة لحياتهم أعزاء موفورين في أرضهم؛ في حاضرهم ومسقبل أجيالهم.
كأس مرة على كل اللبنانيين؛ أن يقدموا على تجرعها مجمعين، قرار عبور من لحظة الشدة القصوى ورهان على غد ممكن.