الكتاب:
De mon pays;
Journal d’un Citoyen Ordinaire
كتاب الأستاذ خميس الخياطي عن بلادي، يوميّات مواطن عاديّ هو بمثابة دعوة للإبحار في عالم تسوده الكآبة وتهيمن عليه مشاعر الألم والإحباط وخيبة الأمل والمرارة ولكن وراء هذه الواجهة أحاسيس أخرى : الحب والعشق والحنين والتوق إلى عالم أفضل تسوده قيم إنسانية نبيلة وتنبني فيه العلاقات الاجتماعية على الصدق والنزاهة والعدل والتفاعل البناء وسلامة الذوق.
الكتاب في ظاهره صغير الحجم ولكنه ضخم المحتوى بما يتضمنه من أسئلة كبرى حول مفاهيم: الذوق ،الجمال، الزمن ،الرمز، الوعي، الوطنية والمواطنة والحرية و…حول بنية السلوك الاجتماعي ، ونسق المعيش اليومي والملاءمة بين قيم الحداثة والقيم الموروثة وطريقة تمثّل الحداثة و… التفاعل بين الإعلام ذي التوجه الإسلامي الأصولي والإعلام التجاري، وانشطار الفرد بين خطابات عديدة تتجاذبه….
رأينا في هذا الكتاب تأثر الكاتب بعدة مقاربات وسعيه إلى توظيفها :
1- المقاربة السيوسيولوجية والأنتربولوجية
يندرج هذا الكتاب في إطار الدراسات السيوسيولوجية والأنتربولوجية التي تعنى بالحياة اليومية، وهي دراسات نمت في الغرب على يد Maffesoli;Goffman;weber;Salvador وبدأت في التبلور في البلدان العربية في السنوات الأخيرة ، وهي دراسات تهتم بالأنشطة الروتينية والتي ننظر إليها على أنها تافهة ولا معنى لها والحال أنّ التمحيص في الملبس والمأكل والمشرب والسلوك والمركوب والمسكن ….يُبين أن تشكل هذا الحقل يختزل ثقافة الجماعة ويشير إلى الذاكرة الجمعية والمنظومة القيمية والأخلاقية وأشكال التدين والقوانين التي تنظم المعاملات بين الناس وينم عن التصورات الاجتماعية والتمثلات الدينية وغيرها. في هذا الإطار حلل الأستاذ الخياطي أنماطا من السلوك سلوك المشاهد والقارئ والمراقب لغيره والمثقف والفرد العامي والسياسي … وكشف دلالات طريقة المشي وتصفيف الشعر ولبس الحجاب ووضع النظارات وانتعال “الشلاكة” والهندسة المعمارية المهيمنة واللغة السائدة وغيرها من العلامات السيميولوجية…وعبر عن طريقة تصور التونسي للزمن وللحرية ونظرته إلى الوجود فالكون.
2- المقاربة السيميولوجية
تغرس التربية الجمالية في الإنسان سمو الذوق الذي يتجسد في أنماط السلوك والعلاقات الاجتماعية كما يتجسد في الأشياء والموضوعات الحسية.وحرصُ الأستاذ الخياطي على تنمية الذوق والحس الجمالي لدى كل فرد من أفراد المجتمع جعله يولي اهتماما خاصا بالدرس السيميولوجي مستفيدا من أعمال Saussure, Barthes, Metz.ومن ثمة اعتنى بالحجاب وانتعال الحذاء ولغة التخاطب اليومي واللباس وطريقة المشي والومضات الإشهارية وغيرها من العلامات وصولا إلى اهتمامه بالصورة.
3-النقد الاجتماعي
يأخذك الأستاذ الخياطي في رحلة تلاحظ فيها التغييرات التي شهدها المجتمع التونسي خصوصا، والبلدان العربية عموما على مستوى السلوك والتصورات والتوقعات والأحلام والتموقع في العالم. ويشعرك نقده لمظاهر القبح بشدة نفوره من المظاهر الفاقدة للجمال ومدى رغبته في بروز الحسن والجميل من الفعل والقول والسلوك والأشياء.
يمسرح الأستاذ الخياطي الأحداث ويقوم بالتبئير ويصور ما تلتقطه ‘كامراه’ ولا غرابة أن ينعكس عشق الخياطي للسينما والمسرح على طريقة كتابته. وهو في هذا المؤلف ناقد لاذع يعري الواقع بكل مهارة تنهل من تراكمات قراءاته السابقة فنرى صدى سخرية الجاحظ ومزجه الجد بالهزل ونلمس لديه يأس المعري وسوداوية النظرة ونجد آثار لامرتين وفوكو وبورديو وبول ريكور….
ونلمح جرأة الطرح وشجاعة المثقف في مواجهة قضايا مجتمعه في مواطن كثيرة من كتابه حين يتحدث عن ممارسات ترسخت كعدم الشعور بالمسؤولية ‘رزق البيليك'(الدولة) وتبرير التقصير بالفكر الخرافي و”الله غالب” وحديثه عن الشعارات من قبيل” تونس بلد التعددية الدينية والتسامح بين الأديان” والتسميات التي تطلق على بعض المؤسسات وفراغ المحتوى والرياء الاجتماعي السياسي وغياب تحمل المسؤولية الذي يسود عالم الصحافة والخطاب الذي يروجه الدعاة الإسلاميون الوافدون من بلاد المهجر وغيرهم من دعاة الفضائيات المخترقين للفضاء الخصوصي والمؤثرين في البنى الذهنية والثقافية والاجتماعية بحيث نجد تفسيرا لعدة ظواهر اجتماعية وسلوكيات مرضية ونقدا للثقافة الهجينة السائدة اليوم وخاصة ثقافة الخوف والانغلاق كما أننا نجد شرحا لأشكال من العنف: عنف الكلام وعنف الخطاب وعنف اللغة وعنف الصورة :صورة الفتاة التي تحجّب وتتلو القرآن’ فهي صورة تمثّل اعتداء على حق الطفل وانتهاكا لعالم الطفولة (ص.143)
4-المقاربة الفلسفية
يبقى تركيز المؤلف على السلوك وما يتصل به من مسائل أخلاقية مشدودا إلى ما صاغه’ فلاسفة’ الأخلاق في الثقافة العربية من نظريات كالغزالي والتوحيدي ومسكويه والجاحظ وغيرهم. وعلى هذا الأساس يظل طرح قضية الذوق طرحا قديما حديثا بحث فيه علماء الكلام وعلماء أصول الفقه الذين نظروا في مسألة الحسن والقبح في الأفعال والأشياء. وخصه القدامى ببعض الكتب كمؤلف السيوطي ‘ صفة صاحب الذوق السليم ومسلوب الذوق اللئيم ‘ ويبقى الذوق في نهاية الأمر كلمة جميلة مُوْحِيَة تَحْمِلُ في طياتها معاني اللطفِ، وحُسْنِ المعشر، وكمالِ التهذيبِ، وحسنِ التصرفِ، وتجنبِ ما يمنع من الإحراج وجرح الإحساسات بلفظ، أو إشارة أو نحو ذلك.
نخلص إلى القول إن قارئ كتاب الأستاذ الخياطي يقف على نسيج من الأجناس : كتابة السيرة الذاتية و كتابة اليوميات والتحليل النقدي وتحليل الصورة وقراءة مكوناتها ورموزها إلى غير ذلك وينتقل من زمن ضارب في عمق التاريخ مع شخصيات عديدة كعليسة وحنبعل وسان أوغسطين وخير الدين وابن أبي الضياف وبيرم التونسي وبورقيبة و…إلى زمن تونس في القرن الـ21.
ويبقى الكتاب دعوة إلى الإبحار في عوالم متعددة: الذاكرة والواقع المعيش والحلم، الذات والآخر توظف فيها جميع الحواس ويدرّب فيها الفرد على رؤية الأشياء وإدراك الظواهر : طريقة النظر والإبصار والمشاهدة والتحديق في الفضاءات والأشخاص والصور، وطريقة الشم : الروائح الكريهة المنبعثة من المزابل والشوارع والناس والمؤثرة في السلوك ، وطريقة السمع والإنصات إلى لغة المشافهة والخطب ودروس الدعاة وغيرها من الوسائل المؤذية للذوق العام.
ولئن اتفقنا مع المؤلف في أغلب ما كشف عنه من مظاهر انعدام الذوق والقبح والاختلال في بنية العلاقات والمشاريع الكبرى والسلوك … إلا أننا لا نتفق معه في نزعة التعميم الغالبة على الكتاب. فالتنسيب ضروري ووراء القبح جمال ووراء الكره حب ….ومُدننا ليست كلها مُدنا تدعوك إلى الرحيل، بل هناك فضاءات يطيب فيها الاستقرار…
وبين” تسريب الرمل” و”عن بلادي يوميات مواطن عادي “مواطن ائتلاف واختلاف ومساءلات متعددة بشأن مكانة الفرد في المجتمع وفي الكون ودوره وأشكال تفاعله مع الدولة والآخرين.
amel_grami@yahoo.com
* كاتبة وجامعية تونسية