ياله من يوم غريب يوم 21 مارس … اليوم الذى يبدأ فيه الربيع .. فنتذكر الأزهار !
فى هذا اليوم احتفل الكثيرون من أبناء مصر و لبنان وغيرهم من أبناء دول الشرق الأوسط العربية – الذين لم تتلوث عقولهم بعد برسائل التعصب الدموية القادمة من الصحراء – بأمهاتهم …
حملوا اليهن الهدايا ووضعوا فى أكفهن الرقيقة الورود وطبعوا على خدودهن قبلات المحبة !
أما الشعراء والرومانسيون فقد احتفوا بذكرى ميلاد ” نزار قبانى ” شاعر النساء و الحب و الياسمين !
أليس يوماً جميلاً حقاُ يوماً كهذا اليوم ؟!!!
فى هذا اليوم استطاع الأفغان أن يحتفلوا بعيد النيروز ورأس السنة الأفغانية دون أن تُقطع رؤوسهم أو تُجلد ظهورهم بسياط جلادى ” طالبان ” !
و احتفل أبناء الأقلية الكردية بنفس العيد … رغم تشردهم فى دول المنطقة … تركيا .. ايران … سوريا … العراق … وبقية دول العالم !
فى مصر …. لم يشارك ” البهائيين ” فرحة عيدهم … ” عيد النيروز ” … الا من خرج عن طاعة الأغلبية فامتلأ قلبه بالمحبة والتسامح والسلام … !
تلقوا التهانى السرية من خلال همسات الأصدقاء وصفحات الشبكة العنكبوتية … العالم الافتراضى … لا العالم الحقيقى !!
فى بدايات القرن الحادى والعشرين … رغم ما كل ما أنجزه العقل الانسانى طوال رحلته الممتدة لعشرات الآلاف من السنين … أليس عجيباً ألا يستطيع بشر من نفس نوعنا البشرى …. يشاركوننا الحياة على نفس الكوكب أن يشعروا مثل الآخرين ببهجة وفرحة الأعياد .. دونما سبب غير أنهم استُضعفوا فلُعنوا بوصف ” الأقلية ” ؟؟!!!
اقترح على أحد الأحبة من هؤلاء المستضعفين فى منطقة الشرق الأوسط العربية أن أكتب عنهم … عن الأقليات !
تبادر الى ذهنى على الفور أن أحاول تقديم رؤية من زاوية ايجابية بينما أتعرض لموضوع كهذا يمس حياة ” الملايين ” ممن يوصفون بأنهم ” أقلية ” فى هذا العالم … رغم أنهم من نفس نوعنا البشرى و يشاركوننا الحياة على نفس الكوكب !!
سرعان ما قفز العنوان التالى متقدماُ – كعنوان ايجابى – على كل العناوين الأخرى .. : ” الدور التاريخى للأقليات فى تحديث مجتمعات الشرق الأوسط العربية ” …. و ياله من عنوان كبير وبراق !
لكن …
ما ان بدأت الكلمات تتراص تحت هذا العنوان الموحى حتى بدا لى كم هو سخيف ومخادع الحديث عن دور تاريخى للأقليات فى تحديث مجتمعات الشرق الأوسط العربية … المنطقة التى حققت فى ” سومر ” آخر قفزاتها الحداثية الكبرى منذ أكثر من خمسة آلاف عام .. حينما
اكتُشفت الزراعة .. وأُنشئ المجتمع وأُقيمت الدولة واختُرع الدين !
قد يصير مقبولاً عند الحديث عن مجتمعات العالم الجديد التى لا يجاوز عمرها أربعة قرون أن نشير الى دور ما للبنانيين فى أمريكا اللاتينية ، أو الى دور للهنود فى شركات السيلكون الأمريكية وعالمه الافتراضى الجديد … ، أو الى دور ” نعوم تشومسكى ” فى مجال اللغويات ! ..
وسوف يكون من الصعب جدا اذا ما انتقلنا الى أوروبا ألا نحاول تصور الأثر الحداثى الهائل لأفكار ونظريات بعض أفراد الأقلية اليهودية بحجم كارل ماركس و سيجموند فرويد و ماكس بلانك وألبرت أينشتين …. و أيضاً تشارلز داروين اذا لم اكن مخطئاً !
أما الشرق الأوسط ؟؟!!!
حيث بلاد المعجزات والمآسى .. ” الأرض التى يسكنها المتكلمون ورجال الخرافات .. حيث لا حقيقة ولا سند .. ” ، ولا منطق ولا حكمة ، … ولا وقائع مؤكدة الا الغيب والسحر وما وراء الطبيعة … اختطاف الأرواح ، والتباس الأجساد ، وربط الأعضاء التناسلية …وتقديس الأحجار والأشجار ؟؟!!
الشرق الأوسط ؟؟!! ……..
حيث مازالت تتحكم المشاعر البدائية فى مسيرة الانسان ، فتختلط الشهوات الجامحة بالدم المسفوك فوق الرمال ، … وشواطئ الملح ، …. وضفاف الأنهار العظيمة !
كيف يمكن الحديث هنا عن أية حداثة ؟؟!!
الحديث الوحيد المقبول هنا .. ليس ” الدور التاريخى ” بل ” الدور المأمول للأقليات فى تحديث مجتمعات الشرق الأوسط العربية ” !
قد يُخيِّب عنوانٌ كهذا آمال المهمشين والمضطهدين من أبناء الأقليات فى العالم المُسمى بالعربى ، ويصطدم بتطلعاتهم الى الحصول الفورى والسريع على الحقوق الخاصة بالأقليات التى وردت فى نصوص و مواثيق الأمم المتحدة كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، واتفاقية منع جريمة إبادة الأجناس ، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري ، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، واعلان القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد ، وإعلان حماية الأقليات الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18 ديسمبر 1992……..
لكن …
ألم تشارك الكثير من حكومات الدول العربية فى صياغة هذه المواثيق والتوقيع عليها وادراج بعض نصوصها فى دساتيرها الخاصة ورغم كل هذا ما زالت تقاوم تطبيقها على أرض الواقع ؟!!
ليست القضية اذن قضية اعتراف انسانى بالحقوق .. فما من كائن بشرى واحد يستطيع أن يقدم حجة منطقية واحدة مقبولة لانكار حق بقية الآخرين حتى لو كانوا أقلية عددية فى التمتع بهذه الحقوق .
فى الدول العربية ليس عدد الأفراد مهماً كمعيار لتحديد الأسباب التى تؤدى الى خضوع مجموعة ما الى سياسات التمييز السلبى والتهميش و الاضطهاد … ،
فالمرأة التى تمثل نصف أفراد المجتمع فى كل الدول العربية تعانى من سياسات لا انسانية تعاملها كمملوك تابع لا كمواطن حر مستقل ومسؤول !
وهناك أمثلة عديدة على حالات خضعت فيها شعوب بكاملها للتهميش والاضطهاد على أيدى الأقليات العددية .. كحالة العراق السابقة فى عهد صدام تحت حكم الأقلية السنية ، وحالة سوريا الحاضرة طوال عهد أسرة الأسد تحت حكم الأقلية العلوية ، وحالة الممالك والامارات التى تحكمها القبائل والعائلات !
القضية هى قضية وعى غائب .. وعى واثق بالنفس ومؤمن بالتسامح مع التعددية .. يقوم على الفهم والارادة … متبادل بين جميع أفراد المجتمع … أغلبية وأقلية … شعب وحكومة !
فى العالم العربى تخضع قضية الأقليات لمجموعة من الاشكاليات الكبرى التى تؤخر حدوث تقدم حقيقى ملموس فيها وهى اشكاليات جديرة بالتأمل والدراسة … منها ما يتعلق ببنية الدول ذاتها ومنها ما يتعلق بأنظمة الحكم ومنها ما يتعلق بثقافة أفراد المجتمع :
يمكن الاشارة هنا الى أن الدول العربية كلها ترسم على الخرائط بخطوط سميكة ليس لها سند من طبيعة أو منطق هندسى ، هى مجرد حدود موروثة ناتجة عن تصفية دولة العصور الوسطى العثمانية ، فى المواضع التى توافقت عليها بريطانيا العظمى ، فرنسا ، أسبانيا ، ايطاليا ، روسيا القيصرية … تجسيداً لمصالح القوة دون اعتبار لمصالح شعوب المنطقة ذاتها .. نتج عن هذا التوافق ” أوعية ” على شكل دول حديثة تضم البشر الممزقين بين هويات العصور القديمة الذين ورثوا من التاريخ العداوات وحُمِّلوا بالثأر لمظالم الأجيال القديمة ، وتشكل وعيهم بالكراهية و الأحقاد … أحقاد كل ما مضى من قرون الصراع والاستبداد و القهر و الحروب والجرائم الدموية : السنة ، الشيعة ، الموارنة ، الأقباط ، اليهود ، الصابئة ، الكلدان ، الآشور ، الدروز ، العلويين ، البدو ، الأكراد ، الأمازيغ ، الطوارق ، النوبة ، التركمان ، الأفارقة ، الأرمن ….. هل نسينا أحد ؟! …. نعتذر !!
تسلمت هذه الدول بعد تصفية الاستعمار عائلات وقبائل وطوائف احتكرت السيطرة على الأرض والماء وجهد ملايين البشر ، ثم حدثت انقلابات العسكر ، استولت فيها مجموعات من الأفراد على هذه الدول بقوة السلاح ، مارست استبداداً كاملاً لتحافظ على استمرار وجودها منفردة فى مراكز السلطة متذرعة بتحقيق أهدافها التى استولت على الحكم من أجل تحقيقها ، ولأنه من البديهى أن تكون طبيعة هذه السلطات العسكرية استبعادية بالضرورة لكل الآخرين ، فقد انهت كل صور التسامح مع التعددية داخل مجتمعات هذه الدول … ونشرت ثقافات التعصب ….
هذه هى الحقيقة التى نواجهها الآن فى دول الشرق الأوسط العربية … ” الدول الحديثة ” التى يستبد بها و يتطاحن فيها ” الانسان القديم ” بذهنيته القديمة القائمة على التعصب … لا التعددية !
مقابل الآمال المشروعة لأبناء الأقليات توجد مخاوف مبررة و حقيقية تتعلق بالحفاظ على وحدة الدول وسيادتها الوطنية وطريقة توزيع الثروة بين أبنائها ، وهى المخاوف الناتجة عن بنية الدول وطبيعة أنظمة الحكم فيها وذهنية أفراد أغلبياتها …
نعتقد أنه ما من طريقة لفض هذا الاشتباك الا ببناء ثقة متبادلة بين أبناء الأقليات و الأغلبية ، وتبنى سياسات اعادة تشكيل وعى شعبى قائم على التعددية و التسامح … بين كل الأطراف … فى نفس الوقت الذى تساهم فيه الأقليات فى العملية السياسية السلمية مع المؤمنين بالدولة المدنية لتشجيع أنظمة الحكم على تبنى وتفعيل سياسات المساواة والمواطنة فى الدساتير والقوانين المحلية .
فى عام 1993 أعلن البرلمان فى بريطانيا : ” أن اللغة الويلزية لها مكانة مساوية لمكانة اللغة الانجليزية الرسمية ” ….
الآن يمكن للمسافرين على الطرق السريعة فى ويلز أن يقرأوا علامات المرور باللغتين الانجليزية والويلزية معاً …….
الأمر هنا يختلف …..
فقضية الأمازيغ أو الاقباط على سبيل المثال أكبر بكثير وأعمق من الحاجة لرؤية لافتات الطرق مكتوبة – فى بلادهم – بالأمازيغية أو القبطية الى جوار العربية و ” الانجليزية ” و ” الفرنسية ” !!
قد يعد هذا الحق فى أحلام أبناء هذه الأقليات ترفاً … هو بالتأكيد سيتحقق يوماُ ما …
لكن …
فى دولة مدنية ديمقراطية تقوم على أرض الواقع تجاوزت مرحلة الاحترام الكامل والمساواة فى الحقوق الأساسية للانسان من حيث الحق في الحياة ، و العمل ، والتعليم ، والاعتقاد ، و حرية التعبير ، وحظر التعذيب ، وغيرها من الحقوق الأساسية ، ثم انتقلت الى مرحلة حماية الخصوصيات الثقافية !!!
يالهذا الحلم !!!
الدور الكبير المأمول اذن من الأقليات فى تحديث دول الشرق الأوسط أن تعمل مع كل المؤمنين بالدولة المدنية الديمقراطية على تقليص حجم و نفوذ أكبر أعداء الأقليات … ” التعصب الطائفى ” … الذى هو – فى نفس الوقت – أكبر عائق أمام انشاء مجتمع حر فى جمهورية حرة …
وسوف يكون مناسباً تماماً أن نستعير هنا – كخاتمة – مقولة ” اسبينوزا ” التى قالها فى عام 1670 و التى مازالت صالحة للتطبيق اليوم بعد أربعة قرون … :
” فقط … فى جمهورية ديمقراطية حرة … مسموح لكل فرد أن يفكر كما يشاء وأن يعبر كما يشاء .. ” .
فقط فى جمهورية ديمقراطية حرة !!!
heshamaltoukhy@yahoo.com
الاسكندرية