الحلم العربي بالوحدة
هو حلم حقيقي. كما إنّنا جميعًا، على الأقلّ من أبناء جيلي، ترعرعنا عليه طوال ردح من الزّمن. القضيّة ليست قضيّة حلم، إذ أنّ الإنسان بطبعه حالم، كما إنّ الحلم هو ما يفرق بين الإنسان وسائر المخلوقات في الطبيعة. إنّما الحلم الذي أعنيه ليس من صنف أحلام المنامات، بل هو من صنف أحلام النّهار الذي يستحوذ على الفرد في سني حياته الأولى، أي في سني الفترة التي تُسمّى بسنّ المراهقة.
غير أنّ المراهقة البيولوجية، التي قد تقصر أو تطول قليلاً، سرعان ما تنقضي فاتحة أمام الفرد طريقًا لمواجهة الحياة على علاّتها. لكن، ماذا بشأن المراهقة الثقافية والحضاريّة؟ والمراهقة الحضارية التي أعنيها في هذه المقالة هي ما كنت أطلقت عليه في الماضي مصطلح ”مراهقة العروبة“، أي ذلك الحلم الطوباوي بوحدة عربية من المحيط للخليج ومن الشام للسودان، إن لم يكن أبعد من ذلك.
إنّ هذه المراهقة العروبية
أضحت كاتم عقل على رؤوس أصحابها. حريّ بمن لا يزال يعيش في هذه السنّ من المراهقة أن يعترف بحقائق الواقع على الأرض، وبحقائق الواقع في النفوس العربية. إذ يتّضح، بعد مضيّ ما يقارب قرنًا من الزمان على مخطّط سايكس-بيكو، وتقسيم إرث الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، أنّ ما نتج عن هذا المخطّط هو أقوى وأكثر صمودًا وثباتًا على الأرض من كلّ الأيديولوجيات الّتي مرّت وتمرّ في هذه البقعة من الأرض. لا أعتقد أنّ ثمّة حاجة إلى العودة إلى أهداف هذا المخطّط من وجهة نظر الذين صاغوه، فقد كُتب الكثير عنه وعن تأثيراته على هذه المنطقة الهامّة من العالم.
يكفي النّظر إلى التجربة الوحدوية البلاغية التي تمّت بين مصر وسورية، والتي سرعان ما انهارت بذات السرعة البلاغية التي أُنشئت بها، فعادت الشام شامًا ومصر مصرًا ليغنّي كلّ صقع منها على ليلاه. بكلمات أخرى، لا يشكّل الكلام العاطفي المعسول عن الوحدة بديلاً عن مواجهة الحقائق المتجذّرة في الأذهان وفي الأبدان العربية.
بل ويمكن الذهاب إلى
أبعد من ذلك، إذ أنّ الأيديولوجيا التي تلبّس بها البعض من هؤلاء المراهقين لم تستطع أن تفتح الحدود بين ”الأشقّاء العرب“، كما كان يُشاع دائمًا في الخطاب العروبي. وأكبر مثال على ذلك هو ما يمكن أن يتفكّر فيه كلّ حاملي أيديولوجيا البعث. فها هي ذات الأيديولوجيا البعثية قد وصلت إلى السلطة في سورية وفي العراق، ولكن ورغم ذلك فإنّ الوحدة العروبية، التي كانوا يتشدّقون بها ليل نهار، لم تتشكّل بين هؤلاء ”الأشقّاء“. بل إنّ الحال بين هذين النّظامين في كلّ من سورية والعراق كانت أكثر سوءًا، بل إنّ العداوة بين البلدين كانت أشدّ وأعنف.
لقد وصلت هذه العداوة إلى درجة انضمّ فيها نظام الأسد الأب إلى ائتلاف بوش الأب في حربه على العراق، فضرب بذلك عرض الحائط كلّ شعارات ”وحدة الهدف ووحدة المصير“ العروبي. وها هو عمرو موسى يكشف للقارئ العربي عن هذه الحال العربيّة. فعن سؤال غسان شربل: ”ما هي أعمق العداوات في نادي الزعماء العرب في تلك الفترة؟“ يجيب عمرو موسى باقتضاب: ”العداوة الثابتة والراسخة كانت بين صدام حسين وحافظ الأسد، على رغم انتمائهما نظريًّا إلى الحزب نفسه.“ (عن: ”الحياة“، 29 نوفمبز 2012)، أي أنّ العداوة المتجذّرة هي الأصل في العلاقة بين هذين القطرين ”الشقيقين“. يمكن أن نعيد هذه العداوة إلى أصول قديمة ليس المجال هنا لتفصيلها.
”الكذب ملح الرجال“:
يكفي أن ننظر قليلاً في هذه المقولة الشعبيّة الشائعة على ألسنة العرب في المشرق (لا أدري إن كانت شائعة في المغرب أيضًا). أليس فيها إعلاء لهذه السمة – النقيصة – بدل أن يكون الصدق هو تاج الكلام. بل، وأكثر من ذلك، يمكن الإحالة إلى المقولة الأدبية التي ترعرع عليها التلاميذ في مشارق العرب ومغاربهم. فحتّى الشعر لدينا، قد ترعرعنا على مقولة ”أعذب الشعر أكذبه“. إنّني أتفكّر أحيانًا في هذا النّوع من الكلام الذي تتمّ تنشئة الأجيال العربية الفتية عليه. لماذا لا يتساءل أحد لدينا ويطرح بديلاً لهذا الكلام المتجذّر، كأن نقول مثلاً: إنّ أعذب الشعر ”أصدقه“، وأعذب السياسة ”أصدقها“، بل وأعذب العرب ”أصدقهم“. أليس في الصدق عذوبة؟ أم أنّ الصدق ليس من سمات العروبة؟
والصدق الذي أعنيه في هذا السياق الآن هو صدق التعامل مع الواقع العربي ومواجهته بلا لفّ أو دوران. يجب العزوف عن الأوهام التي نخرت عظام العرب ولا زالت تنخر فيها إلى هذه الأوان. فها هم الإسلاميون وصلوا أخيرًا في غير بلد عربي إلى السلطة. فلننظر ما هو جار في هذه البلدان. لقد أشبعنا هؤلاء شعارات مثل ”الإسلام هو الحلّ“. طيّب، حسنًا. ها أنتم في السلطة فأرونا حلولكم التي صدعتم رؤوس العرب بها! فها هو السودان يحكمه إسلاميون، وها هي مصر يحكمها إسلاميون، وها هي غزّة يحكمها إسلاميّون، إليس كذلك؟ إذن، فما الذي يمنعكم من فتح الحدود بينكم جميعًا في هذه البقاع العربية، لكي يتنقّل فيها البشر بلا تأشيرات دخول وعبور إلخ؟
ألستم كلّكم عربًا، ألستم كلّكم إسلاميين وكلّكم سنّة؟، إذن، فهيّا أرونا صدقكم فيما كنتم تقولون. أرونا صدق شعاراتكم التي كانت تدوّي في الأجواء قبل وصولكم إلى الحكم. من يمنعكم من فتح الحدود بينكم وإعلان الوحدة بينكم؟ ألستم تؤمنون بذات العقيدة؟ ألستم أشقّاء في العروبة؟ إذن، أرونا ما أنتم فاعلون بهذه الشعارات!
ولكنّ الشعارات شيء وتطبيقها شيء آخر
مختلف تمامًا. سيكتشف الجميع قريبًا زيف هذه الشعارات الرنّانة الطنّانة لدى مواجهتها الواقع. سيكتشف الجميع أنّ هذه الحدود الإقليمية، التي يشتمها دعاة القوموية العروبية ودعاة الإسلام السياسي، أقوى من العواطف البلاغية، وأقوى من الأيديولوجيا القوموية والدينية. سيكتشفون سريعًا أنّ حدود سايكس بيكو، في أحسن الأحوال، هي الباقية. إذ في أسوئها ستتفتّت كلّ هذه البلدان إلى ملل ونحل. سيكشتف الجميع قريبًا أنّ كلّ الشعارات الوحدوية القومية والدينية ستذهب هباءً إلى غير رجعة كسني المراهقة، تلك التي أشرنا إليها في بداية الكلام.
وإنّ غدًا لناظره قريب.
*
نشر: ”إيلاف“، 2 ديسمبر 2012