كشفت “صفقة القرن” التي ليست سوى صفقة أميركية – إسرائيلية العجز الذي يعاني منه عرب كثيرون في مجال التصالح مع الحقيقة والواقع. المضحك المبكي ان لبنانيين كثيرين وضعوا نفسهم في الواجهة في خدمة المشروع الايراني الذي تاجر بالقضيّة الفلسطينية والقدس واستخدمهما غطاء من اجل قيام ميليشيات مذهبية مسلّحة عملت باستمرار على إيصال لبنان الى ما وصل اليه. أي الى حال من الإفلاس يرافقها تشكيل حكومة حسّان دياب التي لا علاقة لها لا بمشاكل لبنان ولا بما يدور في المنطقة…
للمرّة الالف، ليست “صفقة العصر” سوى ضوء اخضر أميركي من اجل متابعة اليمين الإسرائيلي عملية وضع اليد على الضفّة الغربية بما في ذلك غور الأردن، إضافة الى القدس طبعا. كلّ ما في الامر انّ اميركا قرّرت، في عهد دونالد ترامب، خلق واقع جديد على الأرض يرفضه كلّ عاقل. هذا العاقل، اكان إسرائيليا ام اميركيا، يعرف انّ خطة السلام التي طرحها الرئيس الاميركي لا علاقة لها بالسلام بمقدار ما انّ لديها علاقة بتكريس الاحتلال الاسرائيلي للضفّة الغربية على ان تكون هناك في يوم من الايّام دولة فلسطينية غير قابلة للحياة. سيتوجب على هذه الدولة الدوران في الفلك الإسرائيلي، تماما كما حال السلطة الوطنية اليوم التي ليس لديها ما تهدّد به سوى الغاء كلّ الاتفاقات الموقّعة مع إسرائيل منذ توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993. أي معنى لهذه السلطة العاجزة من دون التعاون الأمني القائم بين جهازها الأمني والامن الإسرائيلي؟
هذا باختصار ما تعنيه “صفقة القرن” التي تمثّل رغبة لدى إدارة دونالد ترامب في استرضاء اليمين الإسرائيلي الذي بات يسيطر على مقدرات تلك الدولة التي اعلنها ديفيد بن غوريون في العام 1948. ما لم يقله دونالد ترامب قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي تحدّث عن إسرائيل كـ”دولة يهودية” مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات على وضع الفلسطينيين المقيمين داخل “الخط الأخضر” في إسرائيل، أي داخل حدود ما كانت عليه قبل حرب 1967. ليس سرّا ان اليمين الإسرائيلي يبحث عن طريقة للتخلّص من الفلسطينيين الذين يسمّون عرب إسرائيل من حاملي الجنسية الإسرائيلية. لكنّ السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلا ام آجلا هو الى اين يمكن لإسرائيل تهجير هؤلاء في وقت لم يعد سرّا ان النمو الديموغرافي ليس في مصلحة اليهود المقيمين في ارض فلسطين التاريخية.
لا يمكن تجاهل ما حصل في البيت الأبيض يوم الثلاثاء الماضي في الثامن والعشرين من كانون الثاني – يناير 2020. لا يمكن التصرّف بما يوحي ان الحدث لا يعني الفلسطينيين والعرب. هناك بكل بساطة حاجة الى اتخاذ موقف واضح مما يجري. يتلخّص مثل هذا الموقف في السعي الى التأثير في الاحداث من جهة ومحاولة التخفيف من الاضرار الناجمة عن الانحياز الاميركي الكامل لليمين الإسرائيلي ونظرياته التي لن تؤدي سوى الى خدمة المشروع التوسّعي الايراني الذي هو في خطورة المشروع اليميني الإسرائيلي في اقلّ تقدير.
الأكيد ان اتخاذ موقف لا يكون عبر اطلاق الشعارات الفارغة من نوع ان القدس عربيّة وانّ فلسطين عربيّة لتبرير بقاء سلاح “حزب الله” غير الشرعي والحاجة اليه لبنانيا.
من سخريات القدر ان جماعة “التيار الوطني الحر” الذين يسميهم الناس “عونيين”، نسبة الى رئيس الجمهورية ميشال، عون رفعوا فجأة رموزا فلسطينية مثل وضع الشورة (الشال الفلسطيني) حول رقابهم. من يريد بالفعل مساعدة الفلسطينيين لا يتاجر بقضيتهم، بل يسعى الى مساعدتهم، اقلّه إنسانيا، حيث امكن في انتظار يوم يوجد فيه حلّ ما يسمح لهم بالعيش في ظروف افضل من تلك التي يعيشون فيها في مخيمات لبنان. من يريد مساعدة الفلسطينيين، على الرغم من كلّ ما ارتكبوه في لبنان قبل العام 1982، لا يلجأ الى اضطهادهم، خصوصا عبر استخدام لغة تنمّ عن ابشع أنواع العنصرية… والاعلان عن انّه مع قضيتهم في الوقت ذاته!
لن تمرّ “صفقة القرن” لسبب في غاية البساطة. هذا السبب هو الهويّة الوطنية الفلسطينية التي لم تستطع إسرائيل القضاء عليها. بقيت هذه الوطنية حيّة على الرغم من كلّ الأخطاء التي ارتكبت منذ قرار التقسيم في العام 1947 وكلّ ما حصل من متاجرة بالقضيّة الفلسطينية على يد كثيرين. يمكن البدء بالاتحاد السوفياتي والانتهاء بايران مرورا في طبيعة الحال بالنظام السوري الذي قتل من الفلسطينيين اكثر بكثير مما قتلت إسرائيل، إضافة الى توريطهم في الوحول اللبنانية. يبقى ما حلّ بمخيّم اليرموك قرب دمشق خير دليل على الموقف الحقيقي للنظام السوري من الفلسطينيين عموما.
على من يريد من اللبنانيين مواجهة “صفقة القرن” بالفعل، ان يهتمّ بلبنان اوّلا وبمشاكله بدل اطلاق الشعارات الفارغة. هناك انهيار لبناني على كلّ صعيد. لا يمكن الهرب من هذا الانهيار الى “صفقة القرن”. كلّ ما في الامر ان هذه الصفقة ليست سوى صيغة لتصفية القضية الفلسطينية التي تمرّ بظروف صعبة ومعقّدة في ظلّ غياب القيادة الواعية القادرة على اتخاذ قرارات تتجاوز مسألة التعاون الأمني مع إسرائيل.
لا يفيد الهرب اللبناني الى “صفقة القرن” في شيء. على العكس من ذلك، يعطي هذا الهرب فكرة عن العجز اللبناني عن استيعاب عمق الازمة اللبنانية التي جعلت المواطن العادي غير قادر على التصرّف بماله المودع في المصارف اللبنانية. اكثر من ذلك، لا مجال للتعويل على من لا يدرك خطورة ما يعنيه ما أصاب النظام المصرفي اللبناني. لا مجال ايضا للتعويل على من لا يستوعب معنى ان تكون ايران من يتباهى بامتلاك أكثرية في مجلس النواب اللبناني. هل من يريد ان يتذكّر تصريح قاسم سليماني قاء “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الايراني، الذي صفّي أخيرا على يد الاميركيين، بعيد اعلان نتائج الانتخابات النيابية التي أجريت في السادس من ايّار – مايو 2018؟
باختصار شديد. الوضع اللبناني أسوأ بكثير مما يعتقد. ثمّة حاجة الى تغيير كبير على اعلى مستوى. ثمّة حاجة الى من يعرف تماما ما هي “صفقة القرن” وماذا تعنيه وان اقحام لبنان نفسه في التصدّي لها بطريقة، اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها سخيفة، لن يفيده في شيء. على العكس من ذلك ان التذرّع بتلك الصفقة الاميركية – الإسرائيلية يؤكد المأزق اللبناني الذي لا خروج منه من دون امتلاك شجاعة ما. انّها شجاعة الاعتراف بانّ “سلاح حزب الله”، وريث السلاح الفلسطيني، في أساس كلّ هذا الانهيار!