إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
في “المدن الخفيّة“، يروي الكاتبإيتالو كالفينو مقابلة غير عاديّة بين إمبراطور المغول كوبلاي خان والرحّالة ماركو بولو:
– “يا صاحب الجلالة، لقد أخبرتك عن كل المدن التي أعرفها.
– بقي واحدة لم تقل عنها شيئاً.
خفض عندئذ ماركو بولو رأسه صامتاً.
– البندقية، قال الخان.
– في كل مرّة أصف مدينة ما، أجاب ماركو بولو، أقول شيئًا عن البندقية […]، كي أميّز صفات المدن والبلدات الأخرى، يجب أن أبدأ من المدينة الأولى التي تظلّ ضمنيّة ، وهي البندقية بالنسبة لي.
أما بالنسبة لـ”جو طرّاب” الذي غادرنا في آخر يوم لسنة 2024، تلك المدينة الأم هي بيروت. من مهده إلى قبره، جسّد “جو” بحياته رونق روح مدينة بيروت وعبقريتها كآخر مدينة منفتحة في البحر الأبيض المتوسط.
على مثال كل المثقفين “الإنسانويّين” (Humanistes)، كان “جو” مرتبطًا بعلاقة صلبة ودائمة بمدينته كما يشهد له عقل العويط: “المثقّف النقديّ، الباحث في الفنّ، الرائي، المشارك في صناعة وجه المدينة المتألّق، المنخرط في صناعة المكان البيروتيّ، العارف قيمته، وأهمّيّة السؤال فيه، والنقاش، والجدال، والرحابة، والغنى، والتعدّد، والتنوّع، والانفتاح، والبحث عن الأجوبة، والمتورّط حتّى العظم في مسار التشكيل اللبنانيّ، والمبحر في محطّاته” .هكذا كان “جو” إبن بيروت وأحد أوجهها البارزين باعتبارها منبراً ثقافيّاًعالميّاً متبقّياً لنا.
يبقى المثقّف الإنسانوي رجلاً متواضعًا ومنطويًا كأنه خجولًا، متضامنًا مع الجميع ويتقاسم معهم معرفته الموسوعية، دون تفاخر، دون افتتان، ولكن بكرم وعطاء المعلّم المتواضع الذي يعرف أن تربية الأنسان هي مداعبة روحه. يدرك هؤلاء الأشخاص النادرين، وهم مرجعيّات لغيرهم, كيف تجعل نفسك صغيراً لأن المعلّم الحقيقي يعرف أن عليه أن ينخفض بنفسه كي ينمو ويرتفع التلميذ ويتفوّق عليه.
توفّي جو طرّاب بعد صراع طويل مع المرض.
أشيد بهذه الشخصية البارزة في الحياة الفكرية في لبنان: صحفي، كاتب، ناقد فني، أستاذ، رجل المسرح والسينما.
أحيي ذكرى هذا الرجل العظيم، وهذه الموسوعة المتنقلة، وإيقاع الثقافة هذا،ا لذي أنتجته الجودة العالية للتربية والتثقيف في بيروت.
أنحني بكل احترام للفقيد الجليل، عضو الطائفة اليهوديّة اللبنانيّة.
كان جو ضليعاً جدّاً وأستاذاً في الثقافة الفرنسيّة ولكن لم تكن يوماً الفرانكفونيّة الخاصة به بمثابة علامة لهويّة أقلويّة تميّزه عن أخوته في المجتمع. على العكس من ذلك، ظلّ جو مخلصًا لروح “ريفارول” (Rivarol) عندما يتكلّم هذا الأخير عن كونيّة القيم الثقافيّة الفرنكوفونيّة.
لم يتصرّف يوماً كعضو لمجتمع متقوقع على هويّته الفئويّة بل كل حياته تشهد لحبّه وانتمائه لرحاب فضاء الحاضرة التي تجمع العديد من الجماعات المتنوّعة. فظلّ هذا اللبناني البيروتي اليهودي وفيّاً صادقاً لوطنه ولمدينته.
. في زمن يغرق فيه المشرق العربي في أمواج الدماء من كل مجازر حروب الهويّات، تنير شخصية جو طرّاب شعاع أمل في المعيّة وشراكة العيش سويّاً الذي بنته مدينة بيروت بصبر على مدى قرنين من الزمن.
وأريد أن أشيد بصديقه عوني عبد الرحيم، وهو مسلم سنّي، الذي اعتنى به خلال السنوات الثلاث الأخيرة من مرضه. توفّي جو وهو ممسكاً بيد صديقه بينما كان عوني يردد دعاء المسلمين الذي كان يحب جو سماعه وهو على فراش المعاناة: «تحصّنت بذي العزّة والجبروت واعتصمت بربّ الملكوت وتوكّلت على الحيّ الذي لا يموت. أصرف عنا الأذى أنك على كل شيء قدير”.
توفي جو في 31 كانون الأوّل (ديسمبر) 2024، ودُفن في المقبرة اليهوديّة في بيروت في 1 كانون الثاني ( يناير) 2025. جنازته وحدها تختصر إشعاع نور وروح بيروت المنفتحة. تشكّل الموكب من 5 أشخاص: صديق المرض الطويل عوني، المسلم السنّي، ريتشي هيكل ذو الوالدة اليهودية، صالح بركات المسلم السنّي وهو مدير معرض فني، جورج زيني صديق الطفولة المسيحي، ومختار محلّة عين المريسة المسلم السنّي باسل الحانوت.
وقد تمّت مراعاة جميع طقوس الغسل الجنائزية. بعد إنزال الجثمان تحت الثرى، أنشد ريتشي هيكل الدعوة التوراتيّة “اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد” من سفر التثنية وبعض المقتطفات الأخرى من الكتاب المقدّس. ثم قرأ الحاضرون سورة الفاتحة من القرآن الكريم، ثم صلاة السيد المسيح “أبانا الذي في السماوات”.
حدث هذا في بيروت في الأول من كانون الثاني (يناير) 2025، حيث ملأت الطائرات الإسرائيلية بدون طيار هواء المدينة بالزئير.
هل ستقضي قوى الموت التي تعصف ببلاد الشام على كل من يشبه جو طرّاب ابن بيروت؟