القدس جغرافيا ومجاز. تربطني بالجغرافيا ذكرات قليلة، الأبقى منها ما وسّع حدود الجغرافيا، وأعاد واستعاد المجاز. في أواخر تسعينيات القرن الماضي اقترح صديقنا الكاتب والشاعر أسعد الأسعد أن نقوم بجولة في القدس. كانت المناسبة قدوم صديقنا الشاعر محمد القيسي من عمّان.
مشينا، هناك، في الشوارع الضيّقة ساعات طويلة. وكان أسعد كريماً وسخياً في الكلام عن الأماكن التي نعبرها، والمعالم التي نراها. وقد جذبنا إلى مكان بعينه صوت موسيقى كنسية ينبعث من مكان ما. وقعنا في أسر موسيقى تنساب في الأزقة، خفيفة، ورهيفة، تتأرجح على أجنحة طيور لا نراها، وأرشدت آذاننا خطانا إلى مصدر الصوت.
وقفنا أمام بوابة حجرية تتسع لمرور شاحنة، وينفرج في خشبها العتيق باب أصغر يكفي لمرور إنسان. على الجدار الحجري لوحة معدنية بالعبرية والعربية والإنكليزية عن مكان مقدّس، وأمام الباب الصغير حارس شاب أجنبي الملامح. قال لنا أسعد: هنا دير وحارة الأرمن. وارتسمت على ملامح الحارس الشاب، الذي اعترض طريقنا أمام الباب الصغير بجسده، علامة استفهام.
قال أسعد بالإنكليزية: هؤلاء أصدقائي وقد جاءوا في زيارة من الأردن، ويريدون الدخول. قلتُ باللغة نفسها: لا، أنا فلسطيني، جئت من رام الله. فرد الحارس الشاب بالعربية: وأنا فلسطيني، كمان، تفضلوا.
لسعت عبارته قلبي، وغمرتني بفرح مفاجئ. فالهوية الغنية، الحضرية والحضارية (والوطنية، إذا شئت) لا تُقاس بما نُسقط منها، بل بما نضيف إليها. كلما اتسعت اغتنت، وإذا ضاقت أمحلت. لا حق لي في بلادي، ولا في هويتي، أكثر من حق الحارس الشاب على باب حارة الأرمن. فهذه بلاده، وتلك هويته. الدير والحارة منّا ولنا، والموسيقى، السابحة على أجنحة طيور لا نراها، منّا ولنا.
ليس في الحادثة المذكورة ما يستدعي التذكير أكثر من كفاءة اليومي، والعادي، والعابر، حتى وإن تجلى في مجاملة سريعة على باب حارة الأرمن، في تقديم ما يكفي من الدليل والبرهان على خصوصية المكان. فالقدس مكان تشتبك فيه الأرض بالسماء، وتختلط فيه اللغات، والأعراق، والتواريخ الفردية والجمعية، والموسيقى، بالحنين الألفي، والاستيهامات التاريخية، والثقافية، والسياسية. هذا يحدث الآن وهنا، وحدث على مدار آلاف مؤلفة من السنين.
وفي هذا ما يجعل من القدس ثقيلة على كاهل الأحياء. فمن يطيق كل هذه الكثافة الرمزية والدلالية؟ كان إدوارد سعيد يردد هذه العبارة كلما زار البلاد، وأنفق بعض الوقت هناك. غالباً، ما نتحايل على الكثافة، بالاقتراض من ترسانة أخيلة تسكن المتاحف، وأقبية التاريخ. بيد أن الكثافة نفسها تصبح مصدراً للغنى بقدر ما تطعم الحاضر من يد المجاز.
فالقدس يمكن، ويجب، أن تكون مجازاً لفلسطين، بالطريقة نفسها التي تحوّلت بها فلسطين، في نص محمود درويش، مثلاً، من صراع في أرض صغيرة، إلى مجاز للتاريخ الإنساني، وتراجيديا “اختلاف الرواة على الضوء في حجر”، كما جاء في قصيدة حاول فيها القبض على سر مدينة لم يمت فيها أحد تماماً منذ قرون طويلة وبعيدة.
ما معنى هذا الكلام؟
إذا غاب الفرق بين سؤالين نقترب من المعنى. فلو سألنا، مثلاً، منْ وما هي القدس؟ وكنّا، في الواقع، نريد أن نسأل: مَنْ وما هو الفلسطيني؟ يتجلى المعنى في مرآة الحاضر مرّة، كما في مرآة التاريخ مرّات.
ثمة تعددية حضارية، وثقافية، ولغوية، وعرقية، ترجمتها الغزوات، والهجرات، والنبوات، والشهوات. وهذا ما لا نحتاج للعثور عليه في كتب التاريخ، بل يمكن أن نراه في الشارع، على وجوه العابرين، وعلى مائدة الطعام، وفي عمارة البيوت، واللهجة العامية، وثياب آبائنا وأمهاتنا، وأغاني الرعاة، وآلاتهم الموسيقية، وفي المواسم، وطقوس الموت والإنجاب والزواج.
كل مَن جاءوا إلى هذه الأرض، لم يرحلوا تماماً، بل سقط منهم، صعوداً وهبوطاً، في الطريق الطويل على سلّم الغزوات والهجرات والنبوات والشهوات: اسم في أوّل الزقاق هنا، ومفردة في آخره هناك. كتاب مقدس بعد حرب هنا، وموسيقى في عيد هناك.
بهذا المعنى تغتني الهوية بقدر ما نرث مما تراكم، في بلادنا، على مدار قرون، وبقدر ما نعترف بما فيها من التعددية، التي لا تقطن الكتب أو المتاحف، بل وما تزال تتنشق الهواء، الآن وهنا، في وضح النهار.
وعندما نسمع كلاماً عن فلسطين باعتبارها وقفاً إسلامياً، ينبغي القول إن فرادة وتفرّد هذه البلاد، وخصوصيتها التاريخية، لا تمكن أحداً من حق احتكارها. وهذا يصدق، أيضاً، على كل كلام عنها باعتبارها ملكية يهودية حصرية. فلا يجوز الرد على الحصرية بحصرية مضادة. كان هذا على مدار قرون، وما يزال حتى يوم الناس هذا، مصدراً لتوتر دائم في علاقة سكّان البلاد بتاريخها وهويتها.
وإذا كان ثمة من ضرورة لترجمة كل ما تقدّم إلى لغة السياسة. فلنقل إن الكلام عن غنى وتعددية القدس باعتبارها مجازاً لفلسطين، وبوصلة لهوية الفلسطيني، لا يمثل محاولة للانسجام مع هوية المكان وحسب، بل ويفتح أفقاً للتعايش والسلام، أيضاً.
ومع ذلك، ينبغي التذكير، في الوقت نفسه، أن الوقوع في قبضة السياسة بالمعنى اليومي، والصغير، والمُبتذل، لن يمكن أحداً من القبض على معنى وجدوى المجاز، الذي انفتح بكل ما فيه من غنى وامتلاء ظهيرة يوم، على باب حارة الأرمن في القدس.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني