بعد أن قرأت عناوين اللقاء في رسالة الصديق إدغار، أيقنت أنني تسرعت بقبول هذا العرض المغري، ذلك أنني اعتقدت أن موضوعه هو الحوار بين المكونات المتنوعة في هذا الوطن المعذب ما يفتح على الحوار الأوسع في شرقنا الدامي، وتذكرت مساهمة لي في موضوع متعلق بالشيعية السياسية بعنوان “لعنة الموقع”، علماً أن هذه اللعنة يمكن أن تنسحب على شرقنا الأوسط. هذا الشرق الذي يبدو وكأنه مركز الفالق الأكبر بين كل الفوالق السياسية، إذ لم يكفه لعنته بأنه يقع في قلب الكوكب، بل يحتضن في جوفه أكبر مخزون نفطي، والنفط كان وما زال يشكل الطاقة الأساسية للإقتصاد والإستهلاك والحياة والتلوث، حتى مع تطور التكنولوجيا الرقمية وولوج مرحلة ما بعد الحداثة.
وإذا استذكرنا بأن الشرق هو مهد الأديان السماوية، لأدركنا كم أنه شكل عامل جذب لجيوش وجحافل وأحلام الأمبراطوريات على مر التاريخ، وكم أن ثنائية شرق- غرب ما زالت تظلل هذه المنطقة الدائمة القلق. ألم يسرع الجنرال غورو إلى قبر صلاح الدين بعد الهزيمة العربية في ميسلون مخاطباً قاهر الصليبيين في القدس بعد 700 سنة صارخا
“Saladin voici on est la`
وأظن أن الصديق د. هاشم مدير مركز صلاح الدين يدرك عمق ذلك، حين أعاد إبراز سيف صلاح الدين قرب ساحة القدس في طرابلس في رد رمزي على الجنرال المتغطرس.
ما جعلني أتردد هو الإطار الذي وضعت فيه مساهمتي، فضلاً عن العنوان العام، ذلك أن علاقة الدين بالمجتمع وفرعية الحوار المسيحي الإسلامي تشكل ولا شك قضية مهمة في الشرق عموماً وتخترق بطريقة ما قضية الحوار العام بين غرب متقدم ودخل مرحلة ما بعد الحداثة وما بين شرق مترنح أطلق ربيعاً عربياً متطلعاً إلى ردم جانب من الهوة السحيقة، بادئاً بالتخلص من الإستبداد وطبائعه والمترافق مع القمع والفساد، وإذ به يخرج من جوفه كل عوامل التفكك العائدة إلى ما قبل النهضة العربية التي شكلت مرحلة خصبة في سياق الجواب على أسئلة مصيرية تركزت على عمق الفجوة الحضارية بين غرب مسيحي متطور وشرق عربي وإسلامي متخلف.
هذه الأسئلة التي تصاعدت على خلفية تراجع ومن ثم اندثار الخلافة العثمانية، مقابل صعود الغرب الأوروبي والذي وإن كان مسيحياً، إلا أنه أعاد الكنيسة إلى دورها الروحي والإنساني في أعقاب الثورات المتلاحقة وخصوصاً الثورة الفرنسية والتي لم تأت أكلها إلا بعد حوالي القرن، وكلنا نعرف ما حصل من مآس وعنف وتحولات خلال هذا القرن، نشأت خلالها الدولة-الأمة ممهدة للإستعمار الحديث والذي كانت منطقتنا إحدى أهم وجهاته.
وفي الوقت الذي تشكل فيه هذه المقدمة إطارا تاريخيا للموضوع، فإنها تضمر قلقا إضافياً، خصوصاً أن القضايا الفقهية واللاهوتية لها أربابها سواء بين رجال الدين المعممين أو بين الباحثين الأكاديميين أو الناشطين في قضايا الحوار الدائم الذي أصبح له أدبياته ولغته ومراكز أبحاثه.
وإذ أقدر اختياري للإدلاء برئي حر فإني أسارع للقول بأنه لن يكون رأياً أكاديمياً، بل ربما يغلب عليه الموقف العملي والمرتبط بمفهوم “نضالي” لمسألة المجتمع المدني، ذلك أن كتاباتي في هذا الموضوع، شكلت استكمالا لحوارات مع فئات ناشطة من هذا المجتمع الحيوي ولكن المربك والمفكك كما عبرت عن اختلاف المقاربات بين مختلف مكوناته حين تأخذ على عاتقها مهمة التصدي لقضايا، تتراوح بين قضايا إنمائية وثقافية وبيئية وتربوية وإجتماعية وصحية وبين قضايا أمنية وسياسية ودستورية تطاول مسألة الحرب والسلام وصولاً لإشكالية العنف والثورة وهي تصلح لتكون عناوين ومفاصل برنامج لحزب سياسي، ما يضعنا أمام اشكالية تعريف للمجتمع المدني، إذ يختلط عندنا المدني تارة بالأهلي الشعبوي المرتبط بالموروث الديني والتقليدي ودائما بالسياسي ولو بطريقة معكوسة حين نشتم الطبقة السياسة اللبنانية وكأنها من خارج ذواتنا، خصوصا بعد تراجع اليسار والحركة الديمقراطية عموما. وسترافقنا هذه الإشكالية حين نقارب علاقة المجتمع بالدين ونظرة الدين لقضايا المجتمع المعاصر.
الدين طريق إلى السلام هو عنوان تتداخل فيه الجوانب الروحية مع الجوانب الزمنية، ذلك أن السلام مناقض للحرب باعتباره وسيلة لحل الصراعات والخلافات بين الدول والجماعات، والنزوع للعنف هو نزوع إنساني من أجل السلطة والهيمنة في آن، وتمجيد القوة شكل ركناً من أركان التمييز في المجتمعات. وما زال كذلك رغم ما شهدته هذه المجتمعات من تطورات معرفية واقتصادية وإجتماعية ومن تحولات نوعية في بناها الإيديولوجية والفكرية والسياسية، فالقوة مرادفة للسلطة والثروة، والمكانة الإجتماعية. هي القوة الباطشة التي تحمي التمييز والإمتيازات للدول والجماعات والأفراد وحتى الأنواع “الذكورية كمثل على سيطرة القوة”.
لا يجادل أحد بأن الأديان دعت عبر الأنبياء والرسل والكتب السماوية إلى الرحمة، كما توسلت الكلمة الطيبة عموما في نشر رسالاتها، وكان لها الدور الكبير في نقل مجتمعات بدائية إلى المدنية. وعانى الأنبياء واتباعهم الأوائل من بطش أصحاب النفوذ والسلطة. ومع أن معظم الديانات دعت إلى مقاومة الظلم والقهر، إلا أن جوهر الدعوات ارتكز على التسامح والإنفتاح واحترام الآخر رغم طابعها الشمولي.
إن أي قراءة متأنية وعميقة للكتب السماوية ولسير الأنبياء كما للاهوت والفقه تظهر أن الحرية والسعادة تشكل تقاطعاً مهماً الأساسي، ولعل الآية القرآنية الكريمة “لا إكراه في الدين” تشكل خير مثال على حرية المعتقد ورفض العنف، خصوصا حين تقول أخرى من قتل نفسا بغير حق كأنه قتل الناس أجمعين. أما سيرة حياة وآلام سيدنا المسيح عيه السلام فساطعة بالتضحية ورفض الظلم والبطش، وكذا حال جميع الأنبياء.
لم تكن الدعوة للسلام والمحبة والحرية والعدالة وإشغال العقل وقفا على الأديان التوحيدية، بل شكلت أيضا هدفاً للفلسفة وللفكر الإنساني عموما،ً سواء الفلسفة المرتبطة بالدين أي بالفقه واللاهوت كأغسطين وأبن رشد أو الغير مرتبطة بالدين كأرسطو وأفلاطون وماركس وسارتر.
وبينما كان الأنبياء يدعون الناس للتآخي والعمل الصالح من أجل جنة في السماء كان الفلاسفة يدعون لجنة على الأرض. ومع أن رفاهية الإنسان وسلامه شكل حيز التقاطع بين الجميع، إلا أن خلط الإيديولوجيا بالدين وتديين السياسة، أدى إلى تصادمات مريعة. خصوصا حين تحول الإيمان تديناً وهوية وعصبا ما أفقده دوره الروحي في عالم تزداد تعقيداته ومتطلباته.
صبر المسيحيون الأوائل على العنف والظلم الذي مورس عليهم من الآخرين داعين للمحبة والسلام. ومع ذلك فقد تحولت بعض المؤسسات الدينية بعد أن أصبحت المسيحية ديناً رسمياً في معظم أوروبا إلى مؤسسات فوقية واتجهت نحو السلطة والإستئثار وغطى بعضها حروب التوسع والهيمنة، بما فيها الحروب الصليبية حتى أن بعضها اقام محاكم التفتيش وحاكم العلماء (غاليليو) ووقف مع الأغنياء تاركا الضعفاء لمصيرهم المحتوم، حتى أن العبودية والغزوات إلى افريقيا وآسيا والعالم الجديد والحروب العالمية كما الحروب الدينية التي فتكت بالملايين، لاقت نوعاً من السكوت من بعض من يفترض بهم إشهار سلاح السلام بوجه الحروب والهمجية، إلا أن كثيرا من الكرادلة ورجال الدين ظلوا أمينين لرسالتهم الأصلية، فوقفوا إلى جانب الضعفاء حتى لو تطلب الأمر منسوبا من العنف(الكرادلة الحمر في اميركا اللاتينية وإيلاريون كبوجي والمفتي الحسيني في فلسطين).
ولم تقصر الثورات جميعها بما فيها الثورة الفرنسية عن توسل العنف حتى أن روبسبيار ذبح بضعة آلاف في بداية الثورة، دون أن ننسى طبعا مآثر ستالين والنازية والفاشية، وصولاً للإمبراطورية الأميركية التي اخترعت أرقى وسائل التكنولوجيا، بما فيها التكنولوجيا الإلكترونية للقتال الناعم فأبادت مئات الآلاف من اليابانيين في انتقام متأخر لمجزرة “بيرل هاربر”، وإذ لا ننسى أن الحضارة الأميركية “والاوروبية طبعا” قدمت للبشرية قفزات في العلوم والمفاهيم الإنسانية وأعادت للفرد الغربي احترامه لذاته، إلا أنها مجدت القوة والقتل الإستعراضي حتى في صناعة السينما، ويبدو أن كثيرين يقلدوها الآن في سياق هبوب عاصفتهم الجنونية، ولاداعي للتذكير بدعمها الغير أخلاقي لكيان غاصب ومجرم يستعمل الدين كغطاء للقتل في تناقض واضح مع الوصايا العشر.
وإذ نلمس مستوى عالٍ من التسامح والتعايش وتراجع في مستوى العنف في القرون الأولى للتوسع الإسلامي خصوصاً في الحكمين الأموي والعباسي الدولة، فإننا رأينا تصاعدا للعنف مع بداية الشعوبية واستفحال الصراعات على السلطة، كما نرى تصاعد العنف لدرجة التوحش في الحركات الإسلامية المتطرفة والتي تجددت بعد الثورة الإيرانية التي أقصىت جميع مكوناتها مبرزة العامل المذهبي (إلى جانب الآثني) ومستحضرة واقعة كربلاء في سياق بناء قوة تحول الضحية لجلاد كما فعلت النخب الأوروبية اليهودية في فلسطين. وثنائية الجلاد والضحية معروفة في معظم مراحل التاريخ.
وبينما نعمت أوروبا والغرب عموما باستقرار كبير، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، دخلت منطقتنا بحروب متتالية بعد زرع الكيان الإسرائيلي في فلسطين ومن ثم صعود الدكتاتوريات والنظم الإستبدادية التي أطاحت بالمساحة النسبية من الحريات المكتسبة وقلصت من الغنى الفكري لعصر النهضة وسجالاته الصاعدة على خلفية السؤال الكبير لشكيب أرسلان “لمذا تقدموا ولماذا تأخرنا”، وقد اتسم الحوار بالجرأة، رغم عدم تقبل بعض أفكار علي عبد الرزاق وطه حسين وعبد الله العلايلي. ولعب المفكرون المسيحيون دورا بارزا في إغناء حركة النهضة والحركات القومية والإشتراكية، كما لعبت الكنائس والإرساليات كما الأزهر وغيره أدواراً كبيرة في التعليم والتحديث.
لقد فشلت الأنظمة الديكتاتورية في التحرير والتنمية معا ولجأ معظمها للقمع من جهة وتشجيع الجمعيات الدينية المحافظة من جهة أخرى، واعتمدت على علاقة التبعية للغرب والولايات المتحدة، خصوصاً مع تزايد أزمة اقتصادها الريعي نتيجة سيادة العولمة والنيوليبرالية الإقتصادية وانهيار الإتحاد السوفياتي، كما سقط بعضها رهينة للطموحات الإيرانية والتي تعاظمت بعد حروب الخليج، خصوصاً الحرب الأميركية على العراق وتداعياتها المريعة على البنى المجتمعية، وقد أتت في أعقاب الهجوم الإرهابي الكبير للقاعدة في 11/9/2001 والذي أطلق لاحقا يدي شارون في فلسطين المنتفضة، كما أدى لتصاعد الشعور بالظلم مع نمو البؤس والفقر والأزمات الإجتماعية وانبعاث عناصر التفكك الديني والمذهبي والإثني التي كانت تعتمل في الجسد العربي الواهن.
من هذا الرحم خرجت الجموع الهادرة في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا وسابقاً لبنان فيما عرف بثورات الربيع العربي واكتسبت الإنتفاضات الطابع المدني منذ البداية، إذ نادت بإسقاط الأنظمة الغنائمية وبناء دول مدنية ديمقراطية، كما طالبت بالكرامة والحرية والحداثة، واتسمت بالسلمية وبمشاركة معظم مكونات هذا المجتمع، حيث بدت نساء إمبابة وهوانم الغاردن سيتي، كما الأقباط والمسلمون كجسد واحد في ميدان التحرير، كما مكونات المجتمع السوري المتنوعة في ساحات وشوارع المدن والبلدات السورية، حيث واجه المنتفضون وسائل القمع العاري بسلمية سلمية، إسلام ومسيحية، دروز وسنة وعلوية، ما جعل المجتمع المدني يبدو منتفضا ضد الإستبداد وضد توأمه في المجتمع الأهلي الذي بدا مفككا وعشائريا وكأنعه يعود إلى ما قبل النهضة والحداثة مع ازدياد التوحش الرأسمالي الداعم للديكتاتوريين ومع تحول العولمة إلى عولمة رقمية غير إنسانية. وبهذا المعنى فإن التطرفين اليميني والديني ينتميان لما بعد الحداثة وإن عكسيا.
لا أريد الغوص في واقع ومآل الإنتفاضات العربية، إلا أن هذه الرحلة الشاقة تبدو في أوج تعثرها، خصوصاً بعد أن تحولت إلى دامية على وقع صراع جيوبوليتكي يحتضن في ثناياه صراع الحضارات والأديان والمذاهب والثقافات والإثنيات.
لا شك أن تصاعد االعنف والتطرف والإرهاب على انواعه من دول ومجموعات وأفراد وتوسل الدين لخدمة الأمزجة والمصالح، يشكل سبباً من أسباب هذا اللقاء. ومع أن هذه الظواهر ليست جديدة(فقطع الرؤوس والتشنيع مارسته جيوش أوروبية في الجزائر والمغرب وقتل الرهائن الغربيين déjà vuمع حزب الله في الثمانينات)ولطالما كان للإرهاب وجهين، إرهاب الجلاد وارهاب الضحية حين تتمكن، وكل ما كان الظلم والقهر والإستلاب عالياً كان استعداد الضحية للعنف أقوى، خصوصاً عند انسداد آفاق العمل الديمقراطي والسلمي وتراجع قوى التغيير الليبرالي والمدني وتجاهل حركات التغيير من قبل القوى الغربية لصالح مصالحها الباردة، رغم شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ما تفعله داعش أو النيو قاعدة هو استعراض القوة والتباهي بالعنف ولهذا الإستعراض المتقن وظيفة محددة في سياق دب الرعب بالآخر أو العدو، كما أنها تستكمل بوعيها القضاء على مفاهيم الحداثة وليس أدواتها طبعا(لأنها تستعملها)، وبهذا المعنى فإن النيو رأسمالية وأسواقها الفالتة من العقال وحروبها وحصاراتها الوحشية للعراق وتفكيك بناه وسكوتها عن القمع العاري للمنتفضين السلميين في سوريا، كما تأييدها المطلق للإجرام الإسرائيلي، ساهمت وتساهم بضرب أهداف الحداثة كالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان وأهمها حق تقرير المصير.
وكما أن التنظمات المتشددة تستخدم الدين في معركتها العبثية مبررة القتل والإنتحار والتطهير(حدث سابقا في البوسنة وفلسطين)ففي أميركا اتجاه صهيو- مسيحي يغذي صراع الحضارات والحروب الدينية والإسلاموفوبيا، وقد تنامى منذ كتب فوكو ياما “نهاية التاريخ”، وشعوبنا المنتفضة تدفع ثمن الحرية والحداثة مضاعفا وهي تبدو بين ثلاث كماشات، الديكتاتوية وداعميها الإيرانيين والروس، التطرف بضفتيه الشيعية والسنية والولايات المتحدة وإسرائيل. والغرب عموما يزيد من منسوب المظلومية باستخفافه الفاقع بآلام وحياة ورفاهية شعوبنا.
ورغم بديهية دعوة الأديان لنبذ العنف(رسالتي القيسي لنصرالله وابي بكر البغدادي في ملحق النهار، دعوات الفاتيكان والأزهر وغيرها)وملاحظتنا أن المقاومة السلمية أثبتت نجاعتها في أكثر من محطة. انتفاضات اوروبا الشرقية، انتفاضة الحجارة في فلسطين، إنتفاضات الربيع العربي رغم ما آلت إليه الأحوال خصوصا في سوريان لن يكون الجواب على الأسئلة المطروحة والمضمرة في هذا اللقاء تلقائياً.
ذلك أن مداخلتنا تشي بتعقيدات الصراعات والمصالح الجيوسياسية، بما يفيض عن قدرة رجال الدين، والمؤسسات الدينية على مهمة بحجم قضية السلام، وبعض هذه المؤسسات سواء الإسلامية أو المسيحية تشكل جزءاً من المشكلة، خصوصاً أن تسييس الدين ومؤسساته قطع أشواطاً كبيرة من قبل الأنظمة والتنظيمات، بما فيها نظام داعش الذي هو استمرار للإستبداد بعقيدة دينية، مما يجعل قضية اصلاح المؤسسات الدينية وتصويب دورها الروحي والأخلاقي قضية مركزية.
ولكن يبقى السؤال هل يمكن إصلاح المؤسسات الدينية دون غيرها من إلإصلاحات السياسية والإدارية والإقتصادية. فإذا نظرنا إلى أوروبا العلمانية والغرب عموماً، نرى أن علاقة الدين بالمجتمع تختلف من دولة لأخرى تبعاً لإختلاف التجربة التاريخية ولإختلاف المذاهب الدينية، رغم أن فصل الدين عن الدولة يشكل قاسماً مشتركا. ففي بعض البلدان يوجد أحزاب مسيحية ديمقراطية، ولنتذكر كم كان للبابا يوحنا بولس الثاني من تأثير كبير على المجتمع في أوروبا الشرقية خصوصاً في بولونيا، وما زالت زيارات البابا تجتذب الملايين في أنحاء العالم الكاثوليكي، حتى في فرنسا مهد العلمانية. أما في العالم الأرثوذكسي فللدين تأثير أقوى حتى في روسيا ما بعد الشيوعية. ومع ذلك فلم تستطع دعوات الباباوات والكنيسة عموماً إلى التخفيف من النزاعات الدولية والحروب الأهلية. وإذ يعقد الأزهر مؤتمرا نوعيا يحتضن كل المذاهب، بما فيها العلويين والدروز، ويعيد تأكيد مدنية وسلمية الإسلام وانفتاحه على الآخر، فإنه لن يرتفع إلى مستوى معالجة تجدد الفقه وأزمة الفكر الديني وتطبيقاته في عالم يزداد تعقيدا وعولمة وتوحشا، وسيكتفي بمواجهة مع الفكر الجهادي، بتأكيد لازمة التنصل من مندرجاته ومترتباته باعتباره خروجا عن الدين الحنيف، علما أن الحركات الجهادية تساهم في طمس المكنون الحضاري الهائل للرسالة الإسلامية، لصالح جهاد يستند على نصوص جزئية منقطعة من سياقها اللغوي والتاريخي، فضلا عن أنه يلاقي التطرف اليميني الغربي في رفع منسوب الإسلاموفوبيا.
إن ذهنية التحريم والتكفير تخترق مزيدا من البنى المجتمعية العربية، وإن كنا نعزو تمدد هذه الذهنية بجزء كبير إلى الإحباط والبؤس والتفكك المترافق مع التوحش الرأسمالي والطفرة النفطية والهزائم القومية وتغول الإستبداد وأزمة اليسار العالمي، ولا نعتقد أن الموروث الثقافي يشكل طبيعة ثانية للإنسان المسلم تمنعه من التحديث. ومع أن الإسلام السياسي بنسخته الإخوانية الأصلية يشكل الحاضنة الفعلية للفكر الجهادي، وفشل كما العسكر في ثنائية الأصالة والحداثة، حيث نجحت اليابان والصين إلى حد كبير، فإننا نحذر من تقسيم المجتمع بين التطرف والإعتدال أو بين الحداثة والأصالة او بين ألإسلاميين وغير الإسلاميين، وهو ما يتماشى مع شعار غامض وملتبس “كالحرب على الإرهاب” والذي يحمل في ثناياه مضمرات خطيرة، بعضها تحت مسمى الحفاظ على الأقليات، ما يهدد بتحويل الأديان من التنوع والإنفتاح إلى التطرف والإنعزال.
وللأسف فإن الإنقسامات الخطيرة في مجتمعاتنا والتي تحول بعضها إلى انشطارات تتغذى من مواقف بعض المسؤولين في المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية. فالديكتاتوريات، خصوصا التي تدعي العلمانية، شكلت قلعة للفئوية وحاضنة لمعظم المجموعات المتطرفة الجوالة بين لبنان والعراق.
إن مجتمعاتنا، وإن تبدو مأزومة ومفككة، فإنها ما زالت تختزن طاقات هائلة للمقاومة، ظهرت في سياق انتفاضاتها التاريخية، حتى إنني ارى، وللمفارقة، بأن تدفق بعض الشباب(بما فيهم الشباب الأوروبي) نحو التنظيمات المتطرفة يصرف جزءا من هذه الطاقات في غياب أو ضعف الجاذب الاخر. ومع ذلك أرى أن المنحى الإجمالي لحركة مجتمعاتنا هو منحى مدنيا ،رغم تغييب الفعل المدني الشعبي نتيجة العسكرة وإعلاء صوت المدفع فوق صوت العقل والدين معاً.
ورغم قوة وجاذبية الإسلام السياسي المدعوم فقد نجح الليبراليون في ليبيا المتدينة مرتين ما استدعى قلب الموازين بطرق عنفية، ورغم نجاح الإخوان والسلفيين في غزوتي الإنتخابات في مصر فقد خرج الملايين، وهم بمعظمهم متدينون، ضد أخونه البلد وتسييس الدين، حتى إنهم دعموا العسكر بوجه الإخوان رغم ميل العسكر للإستئصال والقمع. وفي تونس ظهر النجاح النسبي للتجربة المدنية، ربما نتيجة التطور التاريخي للحالة التونسية ووجود مجتمع مدني حديث وفعال وواقع متقدم للمرأة التونسية، والآن نفهم متأخرين لماذا غادر المفكر التونسي السوبر يساري العفيف الأخضر بيروت حزينا حين نظرت الأحزاب اليسارية اللبنانية لدخولها الحرب الأهلية متهما إياها بالمساهمة بتدمير قلعة الحرية الوحيدة في العالم العربي، وها هو المجتمع المدني التونسي يلعب دور الوسيط والمراقب لمكونات الأحزاب التونسية، ما منع انفجار العنف الاهلي كما في أقطار أخرى، رغم العناصر المشتركة في التجربة ورغم وجود حالات جهادية شديدة التطرف، خصوصا في الداخل التونسي المحروم من عائدات التحديث والخدمات.
وحتى في لبنان فإن الحراك المدني مستمر بأشكال مختلفة، رغم جنوح البعض نحو شعارات تبدو جاذبة لقضية المواطنة والنظام الديمقراطي، كإلغاء الطائفية السياسية(وهي للمفارقة نقطة الضعف والقوة في آن في هذه المرحلة) وإذ تتغافل بعض هذه الشعارات عن المسائل السيادية الأساسية المتعلقة بالأخطار الكيانية، فإنها تجنح لوضع القاتل والضحية في مستوى واحد.
ومع أنني لست من دعاة تأليه المجتمع المدني الذي أصبح بعضه على الموضة كموضة الإقتراع في يوم الإنتخابات، فإنني انحني أمام فئات واسعة ومتفانية منه، ما زالت تتابع الحفر في الصخر في لبنان وسوريا وكل المنطقة، وبعض أعمالها تبدو بسيطة ومتواضعة ولكنها تضيء جانبا لا بأس به من ظلامنا الدامس. وإذ ننظر لأعمال بعض الجمعيات والمؤسسات والهيئات ذات التوجه الديني بأنها جزء من العمل المدني، إلا أن تحويل هذه المؤسسات لظهير أساسي للمجتمع يتطلب إصلاحا جذريا وحقيقيا في بناها وعقليتها كي تستقيم وظيفتها الدينية الروحية الأصلية باعتبارها تدعو للمحبة والسلام ومكارم الأخلاق.
ومع تقديرنا لدعوات الإصلاح من سماحة المفتي دريان، نرى أن الإصلاح الديني الجذري لا يكتمل بمعزل عن الإصلاح المجتمعي، ما يضعنا جميعا رجال دين ومفكرين وناشطين وبالأساس مواطنين أمام ركام من الأسئلة المصيرية تطال كل القضايا وتطاول قضية الدين والمجتمع بما فيه مسائل الفقه واللاهوت. ولا يستغربن أحد أن تعادل الأجوبة مشروع نهضة ثانية أو نيو نهضة تنتشلنا من بعض الأوهام سواء التي تراود الحالمين بدولة دينية استئصالية، أو الخواء الذي يخترق عقول المتمسكين بأهداب نظرية الأقليات الإقصائية وهي نظريات تتناغم جميعها مع إصرار الكيان الإسرئيلي الأقلوي على يهودية الدولة وبتأييد من الولايات المتحدة التي كانت تتمنى من الحراك العربي، الذي فاجأها كما فاجأ الجميع بان يؤدي لديمقراطيات شكلية تحافظ على مصالح الغرب الباردة، من هنا برودتها(إن لم نقل تواطؤها) نحو الفئات الشبابية والمتنورة في الحراك وانحيازها الاولي للحركات الإسلامية المطعمة بنكهة مدنية، وإفادتها(إن لم نقل رعايتها وإدارتها) لواقع جيوسياسي يسير على مقياس مصالحها ولا يقيم وزنا لربيعنا أو لأي من فصولنا، وهو ما يجعلنا نرتاب من ادارتها لما يسمى الحلف ضد داعش والإرهاب.
ومع ذلك دعوني أخيرا أخالف كل المتشائمين وأقول بان الربيع العربي ما زال مزهرا رغم انه أصبح مدمى، وأردد ما قاله المفكر الإيطالي المناضل في العقود الأولى من القرن العشرين أنطونيو غرامشي حين تعالت أصوات المحبطين من صعود الفاشية:”العالم القديم ينهار والعالم الجديد يتأخر في البزوغ وفي هذه الأحيان تكثر الوحوش الضارية”. وما أكثر الوحوش الفالتة في هذه الأيام.
* كلمة ألقيت في “مؤتمر “تفاعل الدين والمجتمع” في جامعة سيدة اللويزة – برسا
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس- لبنان