خلفيات الارهاب الجهادي وخصوصياته (5/1)

2

مقدمة

الارهاب مفهوم غير موضوعي

لا شك ان الارهاب الممارس من قبل تنظيم داهش من أكثر الاعمال الوحشية التي يجدر إدانتها بشكل مطلق.

لكن لنلق نظرة على الازدواجية التي يتم التعامل بها مع العنف. الخطابات التي تحارب الارهاب من منظار الدفاع عن القيم الحضارية والقيم الانسانية التي تدين العنف وتدعو الى احترام قيمة الحياة بشكل مطلق، وهو أمر متعارف عليه في جميع الحضارات والاديان، يطرح السؤال: هل يحترم مطلقو هذه الخطابات القيم التي ينادون بها هم اولا وهل يطبقونها في جميع الحالات ثانياً؟

لذا في “الحرب المقدسة” على الارهاب لا يمكن عزل الارهاب عن ممارسة الاشكال الاخرى من العنف، تلك التي تعتبر “شرعية” بدءاً من عنف الأنظمة المحلية مروراً بالعنف الذي تمارسه الحكومات سواء عبر اعتداءاتها العابرة للحدود او تلك الداخلية التي تنتهك حقوق الانسان. انتهاء بممارسة القوى الامبريالية المهيمنة بوجهيها الغربي والشرقي للعنف الناعم والخشن. ومثل هذه السياسات تكون أقرب الى الاحتلال منها الى الشرعية، (أميركا في العراق، روسيا في اوكرانيا، ايران في سوريا والعراق وبالواسطة في لبنان). وعدم ذكر اسرائيل ليس إغفالاً بل لأن ممارساتها غير شرعية بالمطلق لأنها سلطة احتلال بشكل رسمي. ولو أنني شخصياً لا أتفق مع سياسة أو ممارسات حماس لكني لا استطيع ان اوافق الخلط الاسرائيلي الممجوج الذي يستغل وجود وممارسات داعش لكي يصم كل فعل مقاوم في فلسطين بأنه ارهاب شاملاً حماس.

الارهاب لا يتمتع بأي حق قانوني بالطبع، لكن من أين تستقي الحروب والاحتلالات شرعيتها؟ شخصياً أدين “إرهاب الدولة” قبل أي إرهاب آخر، لأن ممارسات الحكومات الاستبدادية كانت أحد روافد الارهاب الأساسية. إذن إرهاب وعنف الدول يستحق هو أيضاً الادانة. واللوم الأكبر يقع على الديموقراطيات التي تمارس العنف أو تتغاضى عنه من أجل مصالحها.

وعندما تنص المبادئ التي صاغتها الولايات المتحدة أن: “الإرهاب هو الاستخدام المتعمد للعنف، أو التهديد بالعنف، لتحقيق أهداف ذات طبيعة سياسية، أو دينية، أو أيديولوجية، من خلال التخويف، أو الإكراه، أو إثارة الفزع” . تكون الاجابة على وجهين: الاول أن الحرب، أي حرب هي عنف مدان أيضاً؛ فعدا عن انها تخدم نفس الأسباب، فهي تقتل ابرياء كالإرهاب.
والثاني انه منذ شيوع استخدام كلمة “إرهاب” أو “ارهابي”، التي فرضت نفسها على نطاق دولي بعد اعتداءات 11 ايلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، غالباً ما نجد ان من يعتبره احدهم مقاتلا من اجل الحرية يصنفه الآخر ارهابيا.

في كتابه “الكلمات والأشياء” يخلص فوكو إلى أن الممارسة هي التي تحدد معاني الكلمات (المفاهيم) وليست الأشياء. وأكثر ما ينطبق ذلك على تحديد مفهوم “الارهاب”. سواء أكان إرهاب الأفراد أو الجماعات، العنف الممارس من الدول أو حروبها. الى أن يتم الاتفاق على الخط الفاصل بين الارهاب وبين الدفاع المشروع عن النفس. فلا يضيع معنى الكلمة لكثرة استخدامها حيث صارت ترمز باختصار الى “العدو” على حد تعبير أحد الخبراء. الارهاب حتى الآن هي كلمة غير موضوعية وغير متفق على معناها.

هل الارهاب إسلامي؟

لن أدخل هنا في سرد تاريخي متى بدأ الارهاب وكيف انطلق بمعناه الحديث بعيد الثورة الفرنسية على يد اليعاقبة بحيث يترك اسم روبسبيير حتى الآن رعشة لدى السامع.
لكن في الجدل المتفاعل الذي يملأ الصفحات مقالات ودراسات تظهر صفة العنف “متجذرة” في الدين والثقافة الاسلاميين وعبر امثلة تاريخية دقيقة؛ بينما تدافع أخرى عن الاسلام وتشير الى الفهم الخاطئ المتعلق به باعتماد امثلة اخرى تظهر تسامحه واعتداله، صحيحة هي أيضا.

فهل الارهاب اسلامي؟ وهل الاسلام إرهابي؟

من أجل محاولة وضع الأمور في نصابها يجب طرح أسئلة من نوع: هل هناك ثقافة خالية من العنف؟ وهل حقاً أن التطرف والعنف هما من طبائع الاسلام؟ هل حقاً أن الثقافة العربية والدين الاسلامي وحدهما يعانيان من أزمة في الظروف التي نعيشها؟ أم أنها ثقافات، عربية وغربية، مأزومة على حد تعبير أوليفييه روا كما سنرى لاحقاً؟

العنف والتعذيب من السمات الجوهرية للعصور القديمة. لا تنجو منها (كي لا أعمم) معظم حضارات العالم و ثقافاته. ولطالما شكلت مشاهد العنف مصدر افتتان الجماهير وحماسها منذ زمن الغلادياتور في روما الى مصارعة الثيران او اقتتال الديكة او ما شابه في عصرنا الراهن. وأذكر هنا اهتمام وحماس بعض الجمهور اللبناني عندما أعدم الطراف في مطلع الثمانينات حيث شكل مشهد الإعدام فرصة للبعض لا تفوّت “للتمتع بمشاهدة العنف”. بينما الآن هناك جدل وانقسام على مستوى لبنان كما العالم حول مسألة الاعدام نفسها.

لكن هناك لحظة معينة في التاريخ بدأ فيها التحوّل نحو رفض العنف وإدانته ورفض التعذيب ويعتبر الباحثون عامة (بحسب فوكو في المراقبة والعقاب) أن نهايات القرن الثامن عشر عرفت مشاريع الإصلاح المتعلقة بالسجن بشكل متتابع و متزامن في العديد من الأقطار الأوروبية وأميركا. الجديد الذي حملته هذه المشاريع، كان الاشمئزاز من التعذيب والقتل، ذلك أن مشهد التنكيل بالمحكوم لم يعد مقبولاُ، بعد أن كانت الفرجة عليه تشكل مصدر لذة عظيمة ولقرون طويلة. ففي روما كان المحكومين أو المجرمين يجبرون على القتال حتى الموت تحت أنظار الجمهور.

يعبر ذلك كله عن حساسية جديدة برزت ضد امتهان الجسد الإنساني. صار القصد أن تنال النفس العقاب. لم يعد عقاب الجسد مقبولاً، يكفي حرمان الشخص من حريته المعتبرة حديثاً كحق وكملكية خاصة في نفس الوقت.

يكشف عن هذه السيرورة المستمرة التي تلطف العنف التحول حتى في حساسية اللاعبين الرياضيين والمشاهدين الذين لم يعد باستطاعتهم احتمال مرأى التسبب بالموت أو الدم المهروق. سمحت أعمال نوربير إلياس، عن آداب الكياسة وحسن التصرف، بإظهار تحولات الألعاب الرياضية في السياق الأعم لجعل الحياة الاجتماعية أكثر مسالمة. حصل هذا الأمر في سياق تشكل الدول القومية الحديثة التي احتكر فيها الجيش والبوليس ممارسة العنف والتي نحت نحو حل نزاعاتها من دون اللجوء إلى القوة والقسوة.

لكن هذه الحساسية الجديدة لم تمنع التضحية بملايين البشر في الحربين العالميتين الاولى والثانية ولا منعت بروز النازية وبشاعاتها ولا تمنع العنف الفردي المريض في الغرب بشكل عام. ناهيك عن الإرهاب.

تثير الطرائق المستفزة التي تستخدمها داعش الكثير من الاشمئزاز ويذهب التحليل عامة الى ان ثقافتنا برعت في القتل والتعذيب، وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً ان الحضارة الغربية مارست أنواعاً من العقاب والقتل وتفننت في ابتداع أساليب عنف تفوق ما تقوم به داعش ولوان هذه الاخيرة اطلعت على كتاب فوكو “المراقبة والعقاب” لأتحفتنا بأساليب إجرامية أكثر توحشاً. ومن الأمثلة التي تدل على الطابع العنيف للحضارة الغربية تحويل الديناميت، التي لم تستخدمه الصين ولآلاف السنين سوى للمفرقعات، الى أداة للقتل على يد الغرب الاستعماري. ربما يقول هذا لنا شيئاً!!

صحيح أن العالم الاسلامي يغرق الآن في مخاض العنف والتطرف. مع ذلك يجدر بنا تلمس بروز هذه الحساسية الجديدة ضد العنف المشار اليها لدى الكثير من الفئات الاجتماعية العربية. فمطلب المسالمة او “السلمية”، كما في الشعارات التي رفعت في كل من تونس ومصر وسوريا في السبعة أشهر الاولى من الثورة، هي تطبيق عملي لهذه المشاعر المستجدة. وهنا أود أن أشير الى أن هذه “الحساسية” التي عبّرت عن نفسها بكل وضوح على الساحات العربية هي سمة مستجدة على مفهوم “الثورات” التي كانت تفخر بأنها تتسم دائماً بالعنف وحده: الثورة الفرنسية، الثورة الروسية والثورة الصينية إلخ… بحيث ان كلمة ثورة تتماشى حكماً مع عنف ودم.

الاعتداءات الانتحارية “كاميكازة”، تراث إسلامي أم ياباني؟

منذ أن قامت المقاومة الفلسطينية، سواء في السبعينيات والمسلمين ايضاً منذ مطلع الالفية الثانية، بتنفيذ العمليات الانتحارية – الاستشهادية أثير حولها الكثير من الجدل وجُعِل الارهاب من مميزات الثقافة الاسلامية – العربية. لكن يحتاج هذا الموقف الى تدقيق. تتابع مؤلفتا كتاب “العلمانية على محك الاصوليات” الاجابة عن ذلك.

ربما ساور إرهابيي 11 سبتمبر الشعور انهم فعلوا ما فعلوه باسم الله، عندما ضحوا بأنفسهم ليتمكنوا من قتل أكبر عدد ممكن من الابرياء. لكن في الواقع يندرج الاعتداء الكاميكازه في التراث الياباني كما يدل عليه اسمه. فإذا كان ينبغي البحث عن آباء مؤسسين لهذه الطريقة فإننا سنجدهم في التراث الياباني للساموراي، هؤلاء كانوا يصلون الى حد الانتحار بسيوفهم اذا فقدوا شرفهم…

كيف يتمكن تقليد ياباني نموذجي من إلهام إرهابيين إسلاميين الى الحد الذي اتخذوا منه ورقتهم الرابحة الأكثر إشاعة للخوف؟ لقد عثر على الحلقة المفقودة ميكائيل برازان في كتاب خصصه لدراسة الجيش الاحمر الياباني وعنوانه: “المتعصبون”.

يبرهن المؤلف عبر تحقيق مدهش في توثيقه ومراجعه، ان المناضلين الفلسطينيين اتخذوا نموذجا لهم رفاقهم في الجيش الاحمر الياباني، الذين جاؤوا الى لبنان لدعم الانتفاضة، واختاروا هذا النمط من العمل الذي اعتبروه ثوريا.

قرر ثلاثة مناضلين، اوكوداريا وأوكومتو وياسودان الضرب بقوة مرتكبين أول اعتداء انتحاري في تاريخ الثورة الفلسطينية، حين نزلوا في مطار اللد قرب تل أبيب يوم الثلاثاء في الثلاثين من ايار 1972 ليفتحوا النار عشوائيا على مئة وعشرين من البورتوركيين جاؤوا للحج، والحصيلة مقتل 26 وجرح أكثر من مئة. كان لهذا العنف الاعمى تأثير هائل، لا سيما ان الارهابيين سعوا الى الانتحار فوراً (تمكن اثنان من ذلك ومكث اكاموتو مدة طويلة في السجن واحتفت به ليبيا كبطل).

وهكذا صدرت التوصية باتباع مثال مناضلين اقصى اليسار الياباني، وتبنى مناضلون فلسطينيون نهج الفدائيين الانتحاريين. ومن خلال التماهي مع القضية الفلسطينية، سيصبح هذا النهج واحدا من مصادر قوة الارهاب الاسلامي. ولكنه لم يجيء ثمرة ثقافة دينية، بل من تأثير سياسي.

أوراق الإسلام الرابحة وتأثير النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني

تشير كل من كارولين فوريست وفياميتا ڨينّر الى ما ابرزته عدة دراسات وتحقيقات وصفية عن مدى الجاذبية التي مارسها “التأسلم على شباب فرنسيين من أصل عربي بعد 11 سبتمبر. فما ان يذكر الصحفيون اسم بن لادن او صدام حسين حتى يسارع بعض هؤلاء الشباب الى اظهار الاعجاب بهما. ولا شك ان النزاع الاسرائيلي الفلسطيني والشعور بالكرامة المهانة التي تنشطها الممارسات الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين والحرم القدسي يومياً أثره الكبير وهو يقبع في خلفية هذا النزوع. لا تشكل ممارسات الشباب علامات على انتماء حقيقي الى القيم الاسلامية. بيد ان هذا الاغراء ذو مغزى من حيث أنه يشير الى وجود ضيق يجد له متنفسا في الاسلام المتطرف، من اقصى العالم الى أقصاه. فهذا الاسلام يغري بلا جدال أولئك الذين يؤدي بهم الشعور بالكبت والحرمان والإذلال الى الحلم بالثأر.

يرى أوليفييه روا:”ان الالتزام النضالي باسم الاسلام هو في فرنسا، من فعل شبان مسلمين من الجيل الثاني، متأقلمين ثقافيا، يتكلمون الفرنسية وتربيتهم الدينية ضعيفة، ومتخرجين من المدارس، ولكنهم غير ناجحين مهنيا او خائبو الامل بالارتقاء الاجتماعي. (روا ، الاسلام المعولم).

لذا يجدر بنا الحذر كثيراً من الاتجاه السائد الذي يجعل من الارهاب خاصية دينية أو مذهبية بحيث بتنا نسمع كثيراً، وبقبول ضمني منا : إرهاب اسلامي او ارهاب سني أو ارهاب شيعي.

monafayad@hotmail.com

2 تعليقات
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Mouhin Tallis
Mouhin Tallis
9 سنوات

خلفيات الارهاب الجهادي وخصوصياته (5/1)
Dear Dr. Fayyad

It is always good to search for root causes of problems. I would advise not falling into the mistake of comparing the actual islamic terrorism based on ” religious Fatwa” with different kind of terrorism or Kamikaze’s behaviour that attacked only enemy military forces.

I would like to see a real comparison of religious terrorism in the history and a actual study why islam had produced such terrorism in different places with qaeida, isis, boko haram, abu sayaf etc..

Regards,

ضيف
ضيف
9 سنوات

خلفيات الارهاب الجهادي وخصوصياته (5/1)تحيه طيبه وبعد اولا لا يجب ان ننسب الارهاب باي دين الذي يمارس الارهاب هو شخص ارتكب جريمه يجب ان يحاكم علي ما ارتكب لا علي اساس الدين الذي ينتمي اليه فهناك فرق بين الاسلام والمسلم و المسيحية والمسيحي كما انه لا يوجد دين حتى الاديان الوضعيه يدعو الي الارهاب وان كانت العصابات الاجراميه او الارهابيه تتخذ من الدين ستار لاعمالها الاجراميه فهي تغلف الباطل بالدين لجذب الجاهل ببساطة هل يوجد مجتمع في العالم يمكنه الاستغناء عن الشرطه بكل تاكيد لا لو تخيلنا حتي ان كل اعضاء الشرطه فاسدين اعتقد ان المشكله في البشر وليست في… قراءة المزيد ..

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading