من كان يعتقد أن نهاية العام 2014 ستشهد هجوما إلكترونيا “كوريا شماليا” ضد شركة “سوني” وكأن الزعيم كيم جونغ أون خليفة “شمس القرن الواحد والعشرين الكبرى” يتحدى بلاد العم سام دون وجل، ومن كان ينتظر تحقيق اختراق تاريخي في مصالحة بين واشنطن باراك أوباما وهافانا راؤول كاسترو مع صعوبة تصور ذلك أيام بوش جونيور والثوري فيديل.
حمل العام 2014 مفاجآت أخرى أبرزها قيام قيصر روسي جديد باستعادة شبه جزيرة القرم وإعلان “الخلافة الإسلامية” من بلاد العباسيين سابقا. وهكذا يتكون التاريخ غالبا من نتاج أحداث متسارعة خارج التوقع، مما يزيد التشويق والغموض حيال مشهد جيوسياسي مضطرب في عالم دون ريادة ودون عظماء.
في بداية التسعينات من قرن ولى، كرس الانتصار في الحرب الباردة الولايات المتحدة الأميركية قوة عظمى وحيدة، وكان القرن العشرين أميركيا بامتياز. لكن نهاية التاريخ المعلنة بتسرع لم تجمد ديناميكية الحراك الدولي وأخذ الموقع الأميركي يتراجع مع بدايات القرن الحادي والعشرين. بالطبع، تحافظ واشنطن على الكثير من عناصر قوتها عسكريا وسياسيا واقتصاديا وعلميا وثقافيا، بيد أن تشكيل العالم وفق التصور الأميركي والرغبة الأميركية لم يعد ممكنا في ظل التحولات المتسارعة وخلط الأوراق في اللحظة الراهنة من العلاقات الدولية.
إن حجم التحديات وتزايد الأزمات واللعب على وتر صراع الحضارات والثقافات والأديان، جعل من الحفاظ على التفوق الأميركي مهمة صعبة المنال. لقد تخلخلت قواعد النظام الدولي الأحادي منذ ما بعد حرب العراق في سنة 2003، وزاد الاضطراب مع الأزمة المالية العالمية عام 2008 (مع انتقال الكتلة النقدية الكبرى من الشمال إلى الجنوب من كوكبنا) المترافقة زمنيا مع عودة روسيا إلى ساحة الصراع من بوابة حرب جورجيا وبروز قوة الصين مع الألعاب الأولمبية في بيكين.
منذ انطلاق مرحلة الحراك الثوري العربي واللااستقرار في نهاية 2010، وآثار سياسات أوباما وبوتين على أكثر من مسرح، يتأكد التأرجح الأميركي، والانحطاط النسبي للغرب، والبروز الصيني وطموحات الدول الصاعدة، وهذا سيطبع المدى القريب من تطور العلاقات الدولية وإدارة الأزمات. بانتظار إعادة تشكيل النظام الدولي نحيا إذن زمن الاضطراب الاستراتيجي ولسنا في صدد العودة إلى القطبية الثنائية بين واشنطن وموسكو، أو إلى طموح صيني في انتزاع الموقع الأول من واشنطن.
هكذا تكر سبحة السنوات في تسلسل دورات مرتبطة بحركة الأجرام السماوية في الفضاء وتأثيرها على الأرض، وتبقى الصورة غامضة لأن المرحلة الانتقالية هي مرحلة التخبط الاستراتيجي التي تشهد إعادة تركيب القوى والتحالفات، خاصة أن النظام الدولي ما هو إلا المنظومة التي تعكس حجم التفاعلات التي تقوم بين الدول والمنظمات ومجمل اللاعبين من منظمات غير حكومية وشركات وكيانات وغيرها.
واليوم في سياق سلسلة السنوات العجاف وعشية القفزة من عام ميلادي إلى آخر، لا يزال الشرق الأوسط ومنطقة غرب آسيا من المسارح الكبرى للنزاعات. بيد أن هذه الجبهة الجيوسياسية لم تكن هي الوحيدة في عام 2014، بل حلت الجبهة الأوكرانية شرق أوروبا في المقام الثاني، وأتت التجاذبات حول بحر الصين في المقام الثالث، دون إهمال اختبار القوة حول أسعار النفط، أو الحرب الإلكترونية التي يعتبر التخريب ضد “سوني” وضد البرنامج النووي الإيراني من علامات انطلاقها.
كيف سيكون حالنا في 2015، هل تكون سنة بداية الخروج من بعض الأزمات أم سنة احتدام الصراعات على جبهات العام المنصرم؟ على الأرجح لا تبدو الصورة وردية في العموم.
في الشرق الأوسط إذا بقي حجم الانخراط الأميركي والدولي على مستواه الحالي، ستبقى “الدولة الإسلامية” مع ما تسيطر عليه من أرض وشعب من أبرز التحديات. منذ صيف 2014، أدى صعود “داعش” إلى إعادة إقحام واشنطن في رمال الشرق المتحركة وتعقيد حسابات أوباما الذي ركز على إنجاز الصفقة المنتظرة والصعبة مع إيران دون إيلاء الاهتمام المطلوب لباقي الملفات وخاصة النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. ربما تتوضح الصورة بعد الانتخابات الإسرائيلية في مارس القادم، وقبل انتهاء مهلة التفاوض مع طهران في يونيو 2015، لكن لا تبدو الإشارات مشجعة حول تبدل في إسرائيل أو أمام ترتيب كبير مع إيران.
في عباب “البحر الهائج” في الشرق الأوسط، تتفاقم الحالة السورية الأكثر دراماتيكية ويصعب توقع الخروج من النفق في 2015، إلا في حال تبدل في سياسات أوصياء النظام السوري أي روسيا وإيران، إذا دفعهما الإنهاك الاقتصادي بسبب تخفيض أسعار النفط إلى التفتيش عن حل سياسي متوازن ومستند إلى وثيقة جنيف1. من جهتهما، تبقى ليبيا واليمن من مناطق الاهتراء والتفتت، مع فسحة أمل لليبيا بسبب نجاح تونس في اختتام مرحلتها الانتقالية وبلورة نواة نظام إقليمي عربي من مصر ومجلس التعاون الخليجي بعد المصالحة مع قطر.
على الجبهة الأوكرانية، لا يشبه آخر العام بداياته ولم يعد “القيصر الجديد” فلاديمير بوتين موضع الإعجاب والمهابة كما كان حاله في أوج افتخاره واندفاعته بين ألعاب سوتشي وقضم مرفأ سيباستوبول، بل يبدو اليوم حائرا ومتعبا أمام انهيار سعر الروبل وآثار العقوبات وانخفاض أسعار الطاقة، كأنه يردد سِؤال فلاديمير لينين “ما العمل”؟ الأرجح أن شخصا مثل بوتين لن يتراجع بسهولة وستتراوح لعبته فوق الصفيح الأوكراني الساخن بين التصعيد والتهدئة، في محاولة لإحداث شرخ بين واشنطن والأوروبيين والتحذير من مخاطر انقسام أوروبا. ومما لاشك فيه أن تطور الأزمة الأوكرانية سيمثل امتحانا جديا لاستراتيجيات أوروبا ولقدرة برلين بالذات على لعب دور مستقل في جوارها القريب.
في ما يخص المحيط الهادئ الغربي شهد عام 2014 اختبارات قوة بين الصين وجيرانها في بحر الصين وخصوصا اليابان وفيتنام، ودل ذلك على قرار بيكينغ (المتجهة بزخم نحو موقع القوة الاقتصادية الأولى في العالم) بتأكيد السيادة على جزر متنازع عليها وكذلك على مجمل جوارها الإقليمي. لكن التهدئة التي حصلت آخر العام مع اليابان واستمرار الدور الوسطي في الملف الكوري الشمالي، يؤشران على عدم رغبة الصين في لعب ورقة القوة الفظة وتفضيلها دوام العمل بسياسة القوة الناعمة.
على صعيد العالم لن يكون العام 2015 عام الانفراج والتنبه إلى التنمية وستكون حماية البيئة والطبيعة على موعد مع قمة المناخ في باريس في آخر شهر منه. أما عام 2015 العربي فلا يبدو عام نهاية زمن الانهيار والتحلل لكن ربما ينبثق الأمل من قلب المعاناة.
أستاذ في العلوم السياسية، المعهد الدولي للجغرافيا السياسية ـ باريس