الرأي العام هو أهم اختراع أوجدته المجتمعات الحديثة، هو أهم ما يمكن أن يواجه الفساد والمحسوبية. فلنعمل على إيجاده. فأولى بوادره ظهرت في الأفراد الذين تحركوا خارج القطعان.
ربما كانت الطبقة السياسية قد ركنت إلى وداعة الجمهور الذي بدا مستكيناً أمام الفساد المعّمم إلى حد الاستهتار. فساد معلن تدعمه شهادات البعض من ممثلي هذه الطبقة المتضامنة في السراء والضراء كلما تعلق الأمر بصرف المصالح حصصاً مدروسة ومعاد النظر بتوزيعها من حين إلى آخر. على حساب الوطن وتحت أنظار المواطن. ذلك أنها اطمأنت بعد أن أوصلته إلى طريق مسدود ووضعته في مأزق الانقسام الطائفي والمذهبي في كل مرة خرج فيها للاعتراض بشكل فردي ومدني. دوامة يصعب الخروج منها إلا بخيارات سياسية لم تبد قادرة على المواءمة بين مصلحة الفرد من ناحية، ومصلحة الطائفة أو المذهب الذي ينتمي إليهما هذا الفرد طوعاً أو كرهاً (ممن يدّعي حصرية تمثيلهما ويصادر النطق باسمهما) من ناحية أخرى.
إلى أن شعر كل لبناني أو لبنانية بأنه أهين عميقا في كرامته، وأهدرت كرامته وأغرق في أكوام الزبالة ما مزّق الصورة التي عُرف بها في العالم. فجأة حُوِّل بلد النور والإشعاع إلى مزبلة في سابقة لم تحصل في أفقر أصقاع الأرض. تصرفت الحكومة (بغض النظر عن المسببات) كأن لا وجود لرأي عام يراقب ومن ثم يسائل كي يحاسب. فنحن جزء من بلاد اعتادت تجاهل ما تريده الشعوب. لم يتعلم حكامنا من الثورات التي حصلت، لأنها صنفت بتعابير استشراقية بين ربيع وشتاء.
لم ينتبه أحد من المسؤولين لحجم احتقان الجمهور اللبناني. لكن ما حصل قرع جرس إنذار: حذار هناك قدرة على الاحتمال لا يمكن تخطيها. وبالرغم من المخاوف المشروعة من المآل الذي ستنتهي إليه التظاهرات ومن احتمالات الاستغلال خلفها، لا بد من ملاحظة الجديد الذي يبرز بوضوح: نحن الآن أمام بداية بروز وعي مواطني واضح ولا عودة عنه. بداية تشكل رأي عام فاعل .
نصبح أمام سؤال مشروع وبديهي: من هو الجمهور الذي تحرك؟ ذلك أن الأمور اختلطت في بداية الحراك الذي فاجأ حجمه الجميع، المنظمين والسلطات التي ردّت بالعنف أملا بالقضاء على التحرك. لكن حدث العكس. ومن البديهي عدم وجود خارطة طريق أو أهداف واضحة منذ البداية.
لكن تنوع هذا الجمهور وتوزعه على جميع المكونات السياسية، ومع ذلك رفضه رفع شعاراتها ومطالبته بحكم غير طائفي يحصل للمرة الأولى تفصح عن طبيعته. ومن هنا أهمية هذا الحراك وجدّته. إنها شرارة ربما لا تزال صغيرة لكنها ستكبر وستتسبب بحريق كبير إذا لم يتدارك المسؤولون الأمر.
عرف الجمهور المدني أن يستخدم حق التعبير عن الرأي المكفول دستورياً، فطالب بالإصلاحات التي تعيد له هذه الحقوق التي كفلها الدستور كمواطن وللمرة الأولى بهذا الشكل. فالنظافة العامة حق وليست مطلبا، وانتخاب رئيس وإقرار قانون انتخاب عادل وممثل لجميع القوى والمكونات اللبنانية وحكومة فاعلة، هي حقوق شرعية على السلطات تأمينها دون منة.
هناك من ميّز بين جمهوريْن واحد سلمي وآخر عدائي أو عنيف. لكنه تعبير غير دقيق، الجمهور في غالبيته سلمي مدني يريد التغيير، ربما لم يبلور بعد مطالبه كما يجب، لكن سلوكه كان في منتهى الانضباط والتنظيم وهذا ينطبق على الأجهزة التي واكبت الحراك. لقد استعاد لبنان صورته الحضارية. مع ذلك برزت فئة ضئيلة مارست العنف (كطقس رقصة نار بدت فولوكلورية) سمّاها البعض بالمندسين أو الغوغاء أو الخارجين عن القانون. ومع أنهم ربما كذلك، لكن هذا لا ينفي عنهم كونهم فئة تعاني كغيرها، وربما فيهم العاطل عن العمل أو الهامشي والمعترض على وضعه، لكن جرى استخدامهم من طرف يحرص على إضفاء صفة التخريب على التحرك، أو ربما لإبقائه كطقس يحفظ له إمكانية حرفه عن مساره المدني السلمي لكي يستغل عند الحاجة لنشر العنف.
لكن الفرق الأساسي بين الجمهوريْن يكمن في مكان آخر. يكمن في مسألة الانتماء. هناك طرف ينتمي كفرد إلى لبنان الوطن في الدرجة الأولى. وآخر ينتمي ويتعصب لجماعته أو لهويته المذهبية فيذيب فرديته. أحدهما فرد يتحرك انطلاقاً من قناعاته الخاصة والشخصية ومستعد للنضال من أجلها بجميع الوسائل السلمية، وهذا من يمكن وصفه بأنه أحد مكونات الرأي العام. والآخر جزء من حشد لا يتمايز عنه ولا يريد ذلك.
وهنا ينبغي التفريق بين جمهور وحشد. إن جموع الذين نزلوا إلى المظاهرة يوم السبت هم جمهور الرأي العام، أما الذين احتشدوا في مناسبة ذكرى السيد موسى الصدر في النبطية مثلاً، وقيل أن أعدادهم أكبر وأضخم من جمهور المظاهرة المدنية، فهم حشود وليسوا جمهوراً. لقد نزلوا من أجل قضية عامة محقة بالطبع، لكن جرى تسييسها واستخدمت فيها المشاعر الطائفية من أجل مصالح فئة حزبية بغض النظر عن تقييمنا لها أو لأدائها. هذه الفئة عُيّنت من قبل المتظاهرين المدنيين، كجزء من الطبقة السياسية المطلوب محاسبتها.
ومن نزل لمآزرتها هو لبناني بالطبع وعلى الأرجح أنه يشارك متظاهر السبت معاناته وحقوقه المهضومة وإفقاره وسلب حقوقه، لكنه في النبطية غلّب انتماءه الجمعي أي المذهبي، على مصلحته الخاصة المرتبطة بالمصلحة العامة التي عُبّر عنها السبت ولو ببعض الفوضى والغموض. ربما البعض منهم شارك في مظاهرة يوم السبت ولكنه نزل أيضاً في النبطية تعاطفاً مع جماعته وإرضاء لها كي لا يشعر بالنبذ. وهذا ما لم يكن إطلاقاً حال متظاهر يوم السبت الذي انتقد طائفته وممثلها.
يظل السؤال عن مدى الاقتناع العميق للمشاركين في حشد النبطية فيما يقومون به؟ أليس هذا أيضاً في جزء منه عادة وفولكلور؟ ومن ناحية أخرى إلى أي مدى سيستمرون على هذه الأرضية الطائفية؟ ونحن نعلم كيف تتكون وكيف تتفرق الحشود، فهي ليست ثابتة والآليات التي جمعتها قد تفرقها.
أما الرأي العام، فشرطه وجود الفرد المستقل، المسؤول وغير التابع. وهو يعتمد على حرية التعبير والاتصال، فإذا كانت حرية التعبير غير محترمة، أو أن الشخص ينتمي إلى بيئة يخاف فيها أن يعبر عن وجهة نظره تصبح إمكانية تشكل الرأي العام أو قياس تغيره أكثر صعوبة واستحالة.
يبدو أن هناك احتمالا أن نجعل لبنان حقيقة على صورة زعمنا عنه وعن أنفسنا كلبنانيين متحضرين اخترعوا حرف الأبجدية الذي غيّر العالم. سنصبح على صورة صورتنا عن أنفسنا كأحرارا وديمقراطيين. وانطلاقاً من احترامنا وتقدسينا لحرية التعبير واحترامها تبدو بوادر النجاح في التحول إلى رأي عام يمكنه الضغط من أجل شفافية أكبر، ومن أجل إلزام جميع المسؤولين باحترام إرادة من انتخبوهم، وإخضاعهم للمحاسبة الدائمة، وليس عبر صناديق الاقتراع فقط، التي أقفلت أصلاً.
الرأي العام هو أهم اختراع أوجدته المجتمعات الحديثة، هو أهم ما يمكن أن يواجه الفساد والمحسوبية المتفشيين. فلنعمل على إيجاده وتفعيله. فأولى بوادره ظهرت في الأفراد الذين تحركوا خارج القطعان.
جامعية وكاتبة لبنانية
monafayad@hotmail.com
العرب