الخبر المحزن الذي تناقلته وكالات الأنباء يوم الأحد المصادف 20 كانون الأول حول رحيل الشيخ الجليل آية الله حسين علي منتظري عن عمر ناهز السابعة والثمانين، بقدر ما أثار لدي الأسى والحزن، فإنه قد أرجعني إلى عقد الستينيات من القرن الماضي لأستذكر تلك الأيام المريرة التي قضيتها في سجن “قصر” في عهد الشاه. فقد تعرفت في هذا السجن وعبر سبع سنوات على الكثير من الوجوه البارزة في الحركة الوطنية الإيرانية ومنهم شيخنا الجليل وإبنه محمد منتظري في قاطع رقم 4 من هذا السجن. إن السجن السياسي ربما يكون فريداً ولا يضاهيه أي مكان أحياناً في شفافيته، حيث يمكن للمرء أن لا يتعرف فقط على الخريطة السياسية والاجتماعية لأي بلد بسبب تلون التيارات التي ينتمي السجناء السياسيين إليها، بل إن السجن يكشف أيضا كل مكنونات السجين وخصاله، نقاط قوته وحسناته والصفات السلبية التي لا يتحرر أي كائن إنساني منها.
في ربيع عام 1966 نقلنا نحن السجناء الشيوعيون العراقيون من قاطع رقم 3 في سجن قصر إلى قاطع رقم 4 الأكثر اتساعاً ومساحة. هناك التقينا بنخبة فريدة من السجناء السياسيين الإيرانيين الذين نقل غالبيتهم من سجن برازجان الصحراوي في أقصى الجنوب الإيراني بعد أن أعيدوا إلى سجن العاصمة. وكان منهم الضباط الشيوعيين من أعضاء حزب توده إيران (أعدم خمسة منهم بعد 30 عاماً في السجن من قبل حكام إيران الحاليين) وقادة حزب “نهضة الحرية” بزعامة المهندس مهدي بازركان وآية الله سيد محمود الطالقاني. وكان من بين السجناء أيضاً طيب الذكر آية الله حسين علي منتظري وابنه محمد اللذين يقضيان مدة حكم لمدة سنتين، إضافة إلى اثنين من قادة حزب توده ممن جرى تخفيف الحكم عليهم من الإعدام إلى المؤبد وهما برويز حكمت جو وعلي خاوري. وكان هناك عدد آخر من السجناء من مختلف الإتجاهات. وكانت شخصيتي رجلي الدين المرحوم آية الله سيد محمود الطالقاني والفقيد آية الله حسين علي منتظري، هي أكثر ما جلب الانتباه من بين السجناء، الذين كانا يتمتعان بخصائص تميزهما عن مجموعة غير قليلة من رجال الدين ممن صادفتهم أثناء فترة السجن.
فالفقيد حسين علي منتظري كان شديد الالتزام بموقف متسامح خال من تكفير أو نبذ لمن يحمل أفكاراً أوعقائد أوأديان أخرى. فهو يختلط بالجميع ويتناقش دون أن يفسد للوّد قضية ودون أن يمتنع عن تلبية الدعوة على كأس شاي أو وليمة “سجنية” خلافاً لما كان يقوم بها فريق من المتشددين ممن يجلسون على كراسي الحكم في إيران الآن. فتراه تارة يجالس الشهيد كاكي أوانسيان( أعدم في مجزرة السجون في عام 1988) ليتناقش ويتبادل النوادر ثم يرجع ليقوم بإداء طقوسه الدينية عندما يحين وقتها.
ولم ير منتظري في الدين أو المذهب وسيلة للإكراه أو فرض طقوس وخيار إيماني محدد عملاً بالنص القرآني “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ـ البقرة:256″. كما كان ينظر إلى الإيمان الديني كخيار للبشر مسترشداً بسورة الكهف:” وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا”. فالبشر حسب هذه الآية مخيّر في إيمانه ولكنه غير مخير في “ظلمه” سواء أكان مؤمناً أم غير مؤمن. فغضب الخالق ينصب على كل الظالمين ومنهم من كان “مسلماً” من أمثال معاوية ويزيد والحجاج وصلاح الدين الأيوبي محرر القدس الذي سفك دماء كل أركان حكام مصر من السلالة الفاطمية، ناهيك عن الجبابرة “المسلمين” في عصرنا من أمثال صدام حسين وعزة الدوري وعلي خامنئي وخلخالي وغيرهم من “المسلمين” الذين يتحملون وزر قتل وإبادة البشر بدون تكليف من رب العالمين.
امتاز الفقيد بسعيه للمعرفة. فهو لم يحدد نفسه بالمصادر الدينية على أهميتها بالنسبة له كرجل دين، بل تبحر في الأدب الفارسي وفي اللغة العربية، وكان يطالع ما يتسرب بشكل سري إلى السجن من كتب متنوعة ويتناقش حولها مع أصحاب الآراء الأخرى دون أن يفسد ذلك احترامه لهم. تراه أحياناً منهمكاً في متابعة دراسته للغة الإنجليزية التي أتقنها في السجن هو وابنه محمد، الذي كنت أدقق له دروس اللغتين الإنجليزية والعربية.
لقد قضى الفقيد منتظري نصف حياته في السجون والنفي والتشرد والإبعاد في عهد الشاه، والحجر المنزلي والأذى في عهد حكام الجمهورية الأسلامية. ولم يُقل ذلك من إرادته بل زادته المحن قوة وجعلت منه حساسا للغاية ضد الظلم ومناصراً لحق الإنسان في الحياة وفي حرية المعتقد ومنتقداً بليغاً وصريحاً للانتهاكات في زمن “الجمهورية الإسلامية” ولكل اعوجاج في سياستها. وجراء ذلك أتُهم بأنه اتخذ “مواقف غير مبدئية” تجاه الحرب العراقية الإيرانية!!!.. وهذا ما حدا بالتيار المتشدد للتآمر عليه وإبعاده عن منصب خليفة الخميني أو قائمقامه في حالة رحيله، وإزاحته عن الميدان السياسي ومنعه من اللقاء بأحد وعومل بأقسى وأحط الأساليب. فقد وجّه منتظري انتقاداً صريحاً لسياسة حكام إيران التي تراهن على استمرار الحرب مع العراق، وانتقد الشعار الذي رفعه المتشددون وحتى بعض من العراقيين الذين التفوا حول المتشددين ورفعوا شعار:” حرب حرب حتى النصر” و”الطريق إلى فلسطين عبر كربلاء”، وما يعني ذلك من استمرار هذه الحرب العبثية الدموية التي أشعلها صدام واستمر بها حكام التطرف الديني في إيران. وفي هذا الإطار انتقد حكم الإعدام الجائر الذي صدر بحق صهره مهدي هاشمي، وتنفيذ هذا الحكم بسبب فضحه لصفقة ما سمي آنذاك بـ”إيران غيت” بعد الزيارة السرية لماكفرلين موفد الرئيس الأمريكي ريغان في عام 1987 من أجل إطلاق سراح الدبلوماسيين الأمريكان الستة الذين اختطفوا من قبل حزب الله في لبنان مقابل إمداد إسرائيل للأسلحة إلى إيران، بما يعني ذلك استمرار هذه الحرب الجهنمية التي جلبت الدمار والقتل الجماعي لكلى الشعبين.
ونظراً لمشاعره الإنسانية ولتجاربه الشخصية مع اضطهاد بني البشر، فقد كان الوحيد من بين رجال الدين في إيران وخارجها من وجّه أشد أشكال الإدانة للمجازر الجماعية التي أرتكبت في صيف عام 1988، والتي رافقت قبول المرحوم الخميني بوقف الحرب العراقية الإيرانية بعد فشل شعار “حرب حرب حتى النصر”. وطالت هذه المجازر ما يزيد على 5 آلاف من السجناء السياسيين في مختلف سجون إيران، وتم إعدامهم في ليلة واحدة وبدون محاكمات وبدون أدنى مبرر سوى مطالبة هذه الحركات السياسية بوقف الحرب التي أحرقت الأخضر واليابس. واعتبر منتظري أن سكوت المراجع الدينية على هذه الانتهاكات” بمثابة ذريعة بيد الحكم للمزيد من هذه الانتهاكات”. ولذا فليس من قبيل الصدفة أن تشير داعية حقوق الإنسان السيدة شيرين عبادي الحاصلة على جائزة نوبل إلى ذلك في رثائها للفقيد منتظري حيث قالت:” ألقبك بالأب لأنك علمتنا كيف ندافع عن السجناء السياسيين وتخليت جراء ذلك عن كل المناصب الحكومية وحتى زعامة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ألقبك بالأب لأنك علمتنا كيف ندافع عن المظلوم دون أن تحرض على العنف ضد الظالم. تعلمت منك إن سكوت المظلوم يشجع الظالم، فلا ينبغي التزام الصمت. أبي لقد تعلمت الكثير منك رغم إنني لم أف بمقامك كابنة وتلميذة لك”.
نعم إن الفقيد لم يكن من ذلك الطراز الذي يتاجر بإيمانه أو دينه من أجل الجاه، ولا يتظاهر يذلك من أجل المنصب أو جمع الأموال . فهو لم يلطخ جبينه بالسواد كي يدلل على مبالغته بتدينه وليصبح ذلك جوازاً للحصول على المكاسب والجاه كما يفعل عدد غير قليل من طلاب المناصب الآن. ولم يتوسل الفقيد منتظري بفتاوى تتعارض مع القيم الإنسانية، فهو الذي أفتى بجواز المصافحة بين النساء والرجال، واعتبر إن رفض هذه المصافحة لا يدل إلا على عدم الاحترام وقلة الذوق ولا علاقة لهذا الرفض بالمعايير الدينية. وكان الوحيد من بين رجال الدين من دافع عن الحريات الدينية و أدان القمع والتصفيات ضد أتباع المذهب البهائي في إيران معتبراً أن البهائيين مواطنون إيرانيون يجب أن يتمتعوا بنفس حقوق سائر المواطنين الإيرانيين. وأفتى بعدم شرعية انتزاع الاعترافات من المتهمين بالقوة وأدان مثل هذه الأساليب التي تمارس في أقبية سجون ومعتقلات الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقال:”إن مثل هذه الاعترافات ليس لها أي أساس شرعي وقانوني ويجب توجيه الاتهام لمرتكبي هذه الأفعال وتقديمهم إلى محاكم عادلة وعلنية لكي يشعر المواطنون بعدم انتهاك حرياتهم ويشعروا بالأمل في المستقبل وأن لا يجري التوسل بالقمع وسد أبواب الجامعات لمنع الشعب من الاحتجاج”. وفي الذكرى الثلاثين لاحتلال السفارة الأمريكية في طهران من قبل الطلبة، اعتبر هذا الأجراء غير صحيح ولا يمت بصلة إلى طابع العلاقات المتحضرة بين الدول مهما كانت اختلافاتها.
وأعتبر منتظري إن ممارسات ولاية الفقية، والمرشد علي خامنئي على وجه الخصوص، ما هي إلاّ ضرب من الاستبداد الذي أطلق عليها أسم “ولاية العسكر”، وهي تشكل خطراً على الدين وعلى المراجع الدينية. وأكد وهو الذي أشرف على كتابة الدستور على أنه ليس من حق الولي الفقيه الولاية المطلقة ومصادرة رأي الناخب الإيراني بحيث يتحول الفقيه إلى الحاكم المطلق، فالنبي لم تكن لديه الولاية المطلقة. وأكد خاصة في السنوات الأخيرة على ضرورة “إدارة شؤون البلاد على أساس رأي الشعب”. وإن مهمة ولي الفقيه هي الشؤون الفقهية والمراقبة على سير تطبيق الدستور وليس التحول هو ورجال الدين الآخرين من أنصاره إلى قادة لقوى الأمن أو إلى ضباط تحقيق ومخابرات أوإلى وزراء للداخلية. وطالب بعدم تدخل الولي الفقيه في شؤون الحكم واحترام الفصل بين السلطات والمسؤولية المشتركة أمام القانون دون أن يكون لولي الفقيه موقع فوق القوانين.
وتبلورت مواقف آية الله منتظري ضد الاستبداد والدفاع عن حقوق المواطن الإيراني في الأشهر الأخيرة من عمره بعد التزوير الفاضح في انتخابات رئاسة الجمهورية وتبلور “حركة الخضر” المناهضة للاستبداد الديني و “للدكتاتور”، بحيث أصبح الفقيد الزعيم الروحي لهذه الحركة الإصلاحية. وأعلن منتظري بصراحة “أن من يتوسل بالعنف والتزوير يفقد أية مشروعية في تولي المناصب والمسؤولية في الدولة الإيرانية”. وعبر الفقيد بعد إعلان نتائج الانتخابات أن ” العدالة والأمانة قد انهارت”، وحذر المسؤولين من نسيان استبداد الشاه وتجربته الفاشلة.
لقد مرت سنوات على اللقاء بهذه الشخصية الدينية الإنسانية، وكان آخرها دعوته لي والعائلة في بيته في مدينة قم بعد انتصار الثورة الإيرانية في ربيع عام 1979 وبعد تحرره من سجن الشاه. كان أكثر تواضعاً وبساطة وأشد حماساً لبناء مجتمع يحترم حقوق الإنسان ومختلف الآراء والأديان، وعبر عن امتنانه لاستضافتي لابنه الشهيد محمد الذي قدم إلى العراق وأقام في بيتنا بعد هروبه من ملاحقة نظام الشاه عام 1972، ثم التحاقة بمكتب الراحل الخميني في مدينة النجف ثم عودته من جديد سراً إلى إيران. وقد ذهب محمد ضحية التفجير الذي عصف بمقر الحزب الجمهوري في طهران في يوم إطلاق سراحي من سجن إيفين في طهران في يوم 28 حزيران عام 1981.
طابت ذكراك أبها الشيخ الجليل، ولتهب في سماء إيران نسائم التسامح والمحبة وسمو القيم الإنسانية والإنسان باعتباره صاحب الحق و الكلمة الأخيرة في إدارة شؤونه.
adelmhaba@yahoo.co.uk
كاتب عراقي