لعب فلاديمير بوتين البوكر أوائل الاسبوع الماضي وكسب معركة الكيماوي السوري، واعطى الانطباع بأنّه أنقذَ الشرق الاوسط من ضربة عسكرية طغى حولها التلويح على امكانية التنفيذ. في الحقيقة، نجح الرئيس الروسي في تفادي مأزق في العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية وأنزل نظيره باراك أوباما عن شجرة القصف، ما فتح الباب لتحكّمه بخيوط اللعبة السورية على حساب واشنطن وحلفائها، ومن ابرزهم فرنسا التي راهنت على لعب دور الرديف دون الاخذ في الحسبان تردّد ساكن البيت الابيض ومتاهات السياسة الأميركية الراهنة.
بالفعل، أصبح النظام العالمي القديم وراءنا ولم يعد دور الغرب مركزياً نتيجة تداعيات حروب واشنطن إبان نشوة أحادية القوة العظمى وبسبب بروز القوى الصاعدة المعطوف على الازمة المالية منذ 2008.
لكنّ العالم المتعدد الاقطاب الذي يرتسم أمامنا ويتّسم بالتراجع الاميركي والكسوف الأوروبي، لا يعني العودة إلى ثنائية قطبية كما كانت أيام الحرب الباردة، إذ إنّ موسكو لا تملك عناصر القوة الكافية لمقارعة واشنطن إلا في مسارح محددة مثل المسرح السوري. وهذا يدل على أن قوى كبرى مثل الصين والهند تتهيأ إلى جانب قوى ذات نفوذ وقوى اقليمية، لبلورة مشهد عالمي ينهض على انقاض الفوضى الاستراتيجية.
إزاء هذه التحولات العميقة، لا تزال فرنسا من القوى الفاعلة في عالم اليوم وخصوصاً في حوض البحر الأبيض المتوسط وافريقيا. وربما أعفَتها تعقيدات ازمات المشرق من بعض مسؤولياتها التاريخية المرتبطة باتفاقية سايكس – بيكو ومحطات تاريخية أخرى. لكن التاريخ المعاصر لا يعفي فرنسا من أخطاء وخطايا في التعامل مع انظمة الاقليم، وابرزها نظامَي البعث في العراق وسوريا في تفضيل للمصالح الاستراتيجية والاقتصادية على اعتبارات اخرى ومنها حقوق الانسان ومستقبل المشرق.
تحت غطاء السياسة العربية لفرنسا، قام الرئيس فرنسوا ميتران بالتطبيع مع النظام الأسدي متجاوزاً الصدام حول لبنان وضياع استقلال هذا البلد، وتابع الرئيس جاك شيراك النهج نفسه ووصل به الأمر ليكون أبرز عرّابي التوريث السياسي في دمشق… ومن المفيد التذكير بأنّ الرئيس جاك شيراك أقنَع واشنطن بعدم ضرب سوريا عسكرياً مرتين على الأقل قبل حرب العراق وبعدها (2001 – 2003).
لم تشكل القطيعة بعد اغتيال رفيق الحريري عائقا ليستأنف الرئيس نيكولا ساركوزي الرهان على التطبيع مع الحكم السوري منذ 2007، متذرعاً بضرورة وقف مسلسل الاغتيالات في لبنان ومتوهّماً بقدرته على فصل دمشق عن طهران.
وهكذا أتت الانتفاضة السورية في آذار 2011 بالتزامن مع بوادر قطيعة جديدة بين الاليزيه ودمشق بسبب ازاحة سعد الحريري عن رئاسة الحكومة في لبنان. وبناء على الحدث الليبي حيث لعبت فرنسا دوراً رئيسياً في اسقاط حكم القذافي اندفع الثنائي ساركوزي – جوبيه في دعم المعارضة السورية والاعتراف بمجلسها الوطني. ولم يكن في ذلك تناغم مع واشنطن التي كانت تنظر بحذر للبدائل وتتبنى وجهة النظر الاسرائيلية بوجوب التريث.
لكن قراءة الديبلوماسية الفرنسية لطبيعة النظام السوري وتاريخها الشائك معه، دفع بدوائر القرار الفرنسي للتشدد مقابل الدعم الروسي والايراني للنظام. ومنذ اواخر العام 2011، اخذت باريس تفقد الأمل بحلّ وشيك واخذت تبني الحسابات على مواجهة طويلة في سوريا وتعقدت الامور في 2012 مع صعود العنصر الجهادي على حساب المعارضة الديموقراطية.
إثر مجزرة الغوطة أواخر آب الماضي، اتخذ الثنائي هولاند – فابيوس قراراً بوجوب العمل على بلورة موقف دولي متناسب مع خطورة استخدام السلاح الكيماوي. وهذه الديناميكية المستجدة سبقها أيضاً تحوّل فرنسي حيال الملف المصري فيه تناغم مع الموقفين السعودي والاماراتي وتباعد مع الموقف الاميركي.
وقد رأى فرنسوا هولاند، الذي التفَّ حوله الرأي العام في حرب مالي، في الموقف الاخلاقي من المسألة السورية فرصة لتعزيز شعبيته في الداخل ولدور فرنسا الخارجي. بيد أنّ حسابات الحقل لا تطابق حسابات البيدر، إذ إنّ المزايدات انطلقت داخل فرنسا وبرَز فيها الانقسام حيال أي عمل عسكري، وزاد الطين بلة قرار مجلس العموم البريطاني وتصرف الرئاسة الاميركية.
تعتبر الاوساط الفرنسية أنّ البيت الابيض “طعن” فرنسا مرتين لحظة إحالة قرار الضربة المفترضة إلى الكونغرس دون اعلام باريس، وعند بلورة الترتيبات مع روسيا دون مراعاة باريس وموقعها. رد هولاند – فابيوس على التجاهل باجتماع في الاليزيه يوم الجمعة الماضي مع وزراء خارجية المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة والاردن مع قرار بتعزيز الدعم للمعارضة الديموقراطية ورفض أي حل سياسي غير متوازن.
من الواضح أنّ باريس لن تقبل اضفاء شرعية على نظام الاسد من خلال صفقة الكيماوي، وهي تعتبر ان الدرب الى مؤتمر جنيف -2 لا تزال شائكة. عبر هذا التموضع ترسل باريس إشارات لمَن يسعى إلى تهميشها، وهي تربط دورها بتفعيل المعارضة السورية وتعزيز التحالف مع دول اقليمية كانت تعتبرها واشنطن في جيبها.