ألا يلفت نظرك أن تكون جماعات “الإسلام السياسي” والتيارات الدينية، بهذه القوة، وأن تكون في الوقت نفسه بهذا الفقر والسطحية وقلة العطاء والإبداع، في مجالات الثقافة والفكر والرواية والشعر والفن والفلسفة والفنون؟ هل يعقل مثلاً أن تتأسس حركة “الإخوان المسلمين” عام 1928، قبل ثمانين سنة تقريباً، وأن تنتشر في كل العالم العربي، وتستقطب الرجال والنساء، والشيب والشباب، والبسطاء والمتعلمين، ولا تعطي الحركة للثقافة العربية مفكراً من عيار محمد عابد الجابري أو شاعراً ينافس أدونيس والقباني والسياب، أو كاتباً من طبقة العقاد وطه حسين، أو روائياً كنجيب محفوظ أو مبدعاً يقارع جبران خليل جبران؟
وبالرغم من الطابع الديني والتشريعي للحركة، فإنها لم ترفد الثقافة اللغوية والقانونية وعلم مقارنة الأديان والقواميس الموسعة بالعطاء والإبداع. ويكفي أن نقارن عطاء التيار الديني في مجال الثقافة والإبداع الأدبي والفني بالتيار الليبرالي أو القومي أو الماركسي، لنرى الفارق الهائل بين ما قدمته هذه التيارات للثقافة العربية وما قدمه تيار “الإخوان” وسائر الجماعات الإسلامية العربية لها!
صحيح أننا نرى أسماء قليلة بارزة في مجال الفكر هنا وهناك مثل سيد قطب، إلا أن سيد قطب ممن تطوروا في ظل الثقافة الليبرالية المصرية والتيارات الفكرية والسياسية الوافدة، ولم ينضم إلى حركة “الإخوان” إلا عندما قارب الخمسين من العمر، وقد غلب عليه فيما بعد الطابع العقائدي والديني المتشدد، وفقد توازن وحياد الباحثين الموضوعيين.
وبينما زخرت الحياة المصرية والعربية عموماً في ظل مختلف التيارات بالكُتّاب والصحافيين البارزين، اضطرت حركة “الإخوان” في مصر وغيرها إلى الاعتماد على كتابات ومجهودات كل من فهمي هويدي ود. محمد عمارة وطارق البشرى، ولا يقدم أي منهم نفسه للقارئ كمفكر في صفوف “الإخوان المسلمين”!
وقد هاجمت الجماعات الإسلامية بقوة وباستمرار مدارس “الفن الغربي”، وذهبوا في مجالات التشدد والتحريم كل مذهب، ثم صاروا لا يرون بأساً في بعض أنواع الرسم والتصوير والزخارف. ولكنهم حتى هنا لم يبرزوا في ساحة الفنون، وقلبوا الدنيا على رأس فنون السينما والمسرح والتمثيل، ودفعوا بعض الممثلات إلى لبس الحجاب والاعتزال، ولكننا لم نرَ حتى الآن أفلاماً للإسلاميين أو لـ”الإخوان” تنال جوائز دولية.
وتكشف معارض الكتاب الإسلامي السنوية عن فقر شديد في التنويع والابتكار والتجديد، فالإسلاميون مثلاً يتحدثون منذ سنوات عن “أسلمة” التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والإنثروبولوجيا وكل العلوم الإنسانية، لأن الكتب الحالية ومناهجها، متأثرة بالأفكار والتوجهات “الجاهلية”!
إننا لا نجد في معارض “الكتاب الإسلامي” وكتب الصحوة الدينية، أي محاولة جادة لـ”أسلمة” التراث الإنساني الضخم، والذي ساهم المسلمون فيه قبل هيمنة الإسلام السياسي وأحزاب التزمت الديني!
وهذا بالمناسبة ما يعترف به سيد قطب نفسه في الكتاب ذاته، فيقول: “ويكفي أن نعلم أن الاتجاه التجريبي، الذي قامت عليه الحضارة الصناعية الأوروبية الحاضرة، لم ينشأ ابتداء في أوروبا، وإنما نشأ في الجامعات الإسلامية في الأندلس والمشرق”. إلا أن قطب يسخر من “حكاية أن الثقافة تراث إنساني، لا وطن له ولا جنس ولا دين”. ويرى أن الفكرة من أساسها ربما كانت “إحدى مصايد اليهود العالمية”!
ومهما كان أصل ومصير الثقافة الإنسانية بالشكل المتداول اليوم، فإننا لم نجد حتى الآن صفوفاً من علماء “الإخوان” والجماعات الإسلامية، رغم وفرة المال والوقت والمكتبات والبعثات الدراسية، ينكبون على “أسلمة” علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والفنون، وعرض نتاجهم في معارض الكتاب! ولا يزال الكثير من هؤلاء الإسلاميين يشيد مثلنا بابن خلدون والماوردي وغيرهما، دون أن ينتج فكراً مبتكراً في طبيعة المجتمعات الإسلامية المعاصرة، يتجاوز به “المقدمة” في علم التاريخ والاجتماع، أو “الأحكام السلطانية” في السياسة!
ولاشك أن أحد أخطر آثار “الإسلام السياسي” ودعايته في عقول المسلمين المعاصرين، إنما هو تدمير مكانة العلوم الإنسانية وما بذله علماء الإنسانية عبر العصور في آسيا وأوروبا وغيرها من جهد في إبداعها وتطويرها، وما تحملوا من مشاق في سبيل البحث وتجميع الحقائق ومقارنة التجارب وتكريس سنوات العمر في المكتبات والرحلات ودراسة القبائل في الجزر النائية والتعرض لكل أنواع المخاطر!
وقد نجم عن هجوم الفكر الديني الأصولي في بلداننا، عبر عقود ممتدة، نفور شديد في صفوف الأجيال المعاصرة إزاء الكثير من الكتب والأفكار والنظريات العلمية والاجتماعية والثقافية والفلسفية. وصار من أسهل الأمور على بعض خريجي الجامعات أن يدير ظهره للتراث الإنساني برمته مستخدماً أدوات التأثيم والتجريم التي روج لها الإسلام السياسي على امتداد سنوات طويلة. ويتصل بهذا ما جرى بحق الجهد الكبير الذي بذله مئات المستشرقين، والذي أضاف الكثير في مجال دراسة الإسلام ومجتمعات العالم الإسلامي وحفظ مخطوطاته وفهم تراثه. فقد أمطر الإسلاميون المستشرقين في كتبهم وأشرطتهم وخطبهم باتهامات لا تبقي ولا تذر، ووجهوا إليهم كل السهام والطلقات، ومن لم يصبه وابل فطلٌ!
ولكن هل استطاع الإسلاميون أن يقدموا البديل في هذا المجال؟ لقد كان من المستشرقين الألمان والفرنسيين والروس، ولا يزالون، من يتقن أبرز لغات العالم الإسلامي إلى جانب اللغات الأوروبية، ومنهم من كان يغوص لأعوام طويلة في دراسة بعض المخطوطات الإسلامية المجهولة والمهجورة، ومنهم الكثيرون ممن وضعوا أفضل الكتب والمراجع في التاريخ والآداب والعلوم الإسلامية، ومنهم كذلك من اكتشف فضل بعض علماء العالم العربي والإسلامي، ومنهم.. ومنهم..!
ونحن اليوم نرى عشرات “المصارف الإسلامية” مثلاً وبيدها عشرات المليارات من الدولارات، فكم من هذا المال ينفق في مجال تفريغ الباحثين وإنشاء مراكز البحث والمكتبات؟ وكم تعطي أحزاب الإسلام السياسي نفسه للباحث من حرية واستقلال؟ ويؤثر الانتماء الحزبي كما يبدو في مجال آخر من نشاط الإسلاميين الفكري والإبداعي، ألا وهو كتابة تاريخ “الحركة الإسلامية” نفسها، وإعداد الدراسات حولها والتخصص فيما يتعلق بها من شؤون وشجون. فالملاحظ مثلاً، أن جل الدراسات الشاملة والعميقة حول التيار الإسلامي من نتاج جهد المؤلفين غير المنتمين إلى هذا التيار، بل إن الكثير منهم علمانيون أو “يساريون”، أو من الأكاديميين الغربيين، وبخاصة الباحث الأميركي ريتشارد ميتشل صاحب كتاب “الإخوان المسلمون”، الذي اكتفى “الإخوان” فيما بعد بترجمته والتعليق عليه!
ولا تحظى مؤلفات بل حتى لغات العالم الإسلامي وثقافة شعوبه باهتمام كبير من أعضاء وأعوان الحركات الإسلامية إلا في أضيق الحدود، وبما لا يتجاوز ترجمة بعض الكتب لبعض أعلام الدعوة في باكستان مثلاً. وهكذا فإن معلوماتنا لا تزال محدودة عن الأحزاب الإسلامية في دول كثيرة غير عربية، ولا نعرف عن الكتابات والدوريات الفكرية في تلك الدول سوى القليل.
ولعلنا لا نبالغ أو نتحامل على التيار الديني والإسلام السياسي إن اتهمناه بالإهمال الشديد في مجال الإبداع الفكري والأدبي والفني والعجز الثقافي، وبعدم القدرة على منافسة بقية التيارات السياسية- الثقافية التي عرفها العالم العربي وربما حتى الإسلامي على امتداد القرن التاسع عشر والعشرين.
ورغم قوة هذه الأحزاب الدينية، وعدم اضطهادها في دول كثيرة، وتواجدها الفعال في أوروبا والغرب عموماً، فإنها لا تزال محصورة في نصوصها وثوابتها ومعاداتها للثقافة الإنسانية العامة وبخاصة الفلسفة والفنون. ولا يزال اعتمادها على الخطب والمواعظ، والمقالات السطحية المكررة، وعلى ترصد كل جهد فكري إبداعي وكل إنتاج أدبي لا ترضى عنه. إنه فعلاً تيار عقيم يحيل كل بيئة فكرية خصبة… إلى أرض يباب!
* نقلا عن صحيفة “الاتحاد” الإماراتية