أنهى أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد زيارة لإيران تندرج في سياق الركائز الثابتة التي تقوم عليها الديبلوماسية التقليدية للدولة إنّها ديبلوماسية كان الشيخ صباح نفسه من مؤسسيها منذ كان وزيرا للخارجية في ستينات القرن الماضي. في مقدّم هذه الركائز الإنفتاح على الآخر وحلّ أي مشكلة عالقة عن طريق الحوار.
على الرغم من أنّها كانت الزيارة الأولى التي يقوم الشيخ صباح لطهران منذ أصبح أميرا في العام ٢٠٠٦، إلّا أنّ الجديد يتمثّل في ما يمكن أن يعود به رئيس القمة العربية، الذي هو في الوقت ذاته رئيس القمّة الخليجية، في ضوء محادثاته مع كبار المسؤولين الإيرانيين، على رأسهم الرئيس حسن روحاني.
إذا أخذنا في الإعتبار أن القمتين الأخيرتين للدول الأعضاء في جامعة الدول العربية ولدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية إنعقدتا حديثا في الكويت، تأتي زيارة طهران تتمّة للقمّتين وما تخلّلهما من تبادل لوجهات النظر بين الزعماء العرب والخليجيين والتي كانت الملفات العالقة مع ايران جزءا لا يتجزّأ منها.
ليس سرّا أنّ ايران تمارس سياسة مقلقة لدول مجلس التعاون وللدول العربية عموما. ليس هناك بين العرب من يعادي إيران من أجل معاداتها. لا وجود لعداء من أجل العداء تجاه الجانب العربي. لكنّ إيران التي تحتل الجزر الإماراتية الثلاث، منذ العام ١٩٧١، ليست في وارد الإقدام على أي خطوة يمكن أن تكون لها ترجمة على صعيد طمأنة العرب عموما من جهة والخليجيين العرب خصوصا من جهة أخرى. ترفض ايران حتّى التفاوض بشكل حضاري في شأن الجزر الثلاث المحتلّة منذ أيام الشاه…
كان ضروريا أن يزور طهران زعيم خليجي وعربي في الوقت ذاته، عرف، مع الأميرين الراحلين الشيخ جابر الأحمد والشيخ سعد العبدالله، رحمهما الله، كيف يحمي الكويت والكويتيين بعد الإحتلال العراقي في العام ١٩٩٠ وكيف تكون استعادة البلد بفضل الديبلوماسية تمهيدا لتشكيل تحالف دولي واسع لجأ أخيرا إلى القوّة العسكرية.
كان ضروريا أكثر من أيّ وقت في هذه الأيّام بالذات أن يوجد من يبحث مع الزعماء الإيرانيين في ما يريدونه على الصعيد الإقليمي. فالشيخ صباح الأحمد معروف بأنّه يعرف تماما ماذا تعني كلمة التوازن. لديه خبرة طويلة في هذا المجال.
في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، أقامت الكويت علاقات مع الإتحاد السوفياتي في وقت كانت معظم دول الخليج العربي، على رأسها المملكة العربية السعودية ممتنعة عن ذلك. في عزّ الحرب العراقية ـ الإيرانية بين العامين ١٩٨٠ و١٩٨٨، وعلى الرغم من أن قلوب العرب كانت مع العراق وليس مع ايران، حافظت الكويت على سياسة متوازنة تقوم على ابقاء شعرة معاوية مع طهران. هذا ليس سرّا. سعت الكويت دائما إلي علاقات متوازنة مع الجميع حتى لو كانت في كل وقت في مركب واحد مع دول مجلس التعاون الذي كانت من بين الذين سعوا إلى قيامه. وقد ابصر مجلس التعاون الخليجي النور في أيّار ـ مايو ١٩٨١، وهو من بنات افكار الشيخ جابر الأحمد، بمبادرة من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، في قمة أبو ظبي.
قادت الكويت وما زالت مصالحات على كلّ صعيد وفي كلّ مكان. لا يمكن لأي عربي تجاهل ما فعلته الكويت من أجل لبنان، حتّى قبل التوصل إلى اتفاق الطائف في العام ١٩٨٩. كذلك، لا يمكن تجاهل أنّ الكويت فعلت كلّ ما تستطيع من أجل التوصل إلى تفاهم في الحدود الدنيا بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة وقطر من جهة أخرى بغية الحؤول دون تفجّر مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
ما لا يمكن تجاهله بأيّ شكل وجود خلاف عربي ـ عربي في شأن الدور التخريبي الذي يلعبه الإخوان المسلمون في المنطقة وقد عانت الكويت بطريقة أو بأخرى من هذا الدور، كما سعت ايران إلى استغلال الإخوان إلى أبعد حدود. وهذا ما يفسّر إلى حد كبير مشاركة الكويت في دعم مصر وشعبها فور تخلّصهمسا من حكم الإخوان في الثلاثين من حزيران ـ يونيو الماضي.
الأهمّ من ذلك أن ايران التي يزورها الشيخ صباح الأحمد متورّطة في كل ما من شأنه اثارة الغرائز المذهبية في المنطقة. هناك دور ايراني كبير، بل طاغ في العراق. وهناك مشاركة ايرانية فاعلة، مباشرة وغير مباشرة، في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه من منطلق طائفي ومذهبي بحت. هناك دور لايران في البحرين وهناك دور لها في اليمن حيث تدعم الإنفصاليين في الجنوب والحوثيين في الشمال بهدف تطويق السعودية. وهناك هيمنة ايرانية على لبنان عبر لواء في “الحرس الثوري” اسمه “حزب الله”. أكثر من ذلك، ممنوع على لبنان انتخاب رئيس جديد للجمهورية لا يكون تابعا لإيران.
فوق ذلك كلّه، تسعى ايران إلى التفاهم مع الولايات المتحدة في شأن ملفّها النووي من منطلق أنّ هذا الملف همّ أميركي واسرائيلي، في حين أن هناك استعداد مفترض للتغاضي، أميركيا، عما تفعله ايران على الصعيد الإقليمي.
بعيدا عن الكلام المعسول الذي يصدر عن المسؤولين في شأن العلاقات مع الدول العربية، ثمّة حاجة إلى افعال تؤكّد هذا الكلام عن أنّ “أمن المنطقة يتحقّق عبر التعاون بين دولها”. ولذلك اكتفى الشيخ صباح بوصف محادثاته في طهران بأنّها “مفيدة”. نعم، إن مثل هذه المحادثات مفيدة نظرا إلى أنّها تسمح بمعرفة ما إذا كان هناك تغيير حقيقي في طهران. ستسمح أيضا بمعرفة ما إذا كان الرئيس روحاني قادرا على ترجمة ما يقوله إلى واقع.
في النهاية، كان انتخاب حسن روحاني رئيسا للجمهورية قبل سنة بمثابة تعبير عن رغبة الشعب الإيراني في التغيير. كلّ ما يريد العرب معرفته، هل هذا التغيير حقيقي أم لا. يريدون معرفة ما إذا كات ايران بدأت تعي أنّ مشكلتها، اساسا، مع الإيرانيين، الذي يعيش أكثر من أربعين في المئة منهم تحت خطّ الفقر، وفي قدرة النظام فيها على تطوير نفسه في اتجاه إقامة علاقات طبيعية تقوم على المصالح المشتركة مع العرب عموما والخليجيين على وجه التحديد.
الأكيد أن زيارة الشيخ صُباح لطهران كانت أكثر من ضرورية. كانت “مفيدة” حتما.
في ضوء الزيارة سيتبيّن ما اذا كانت ايران تخلّت أخيرا عن وهم الدور الإقليمي وقرّرت الإنصراف إلى الداخل الإيراني بدل متابعة الهروب إلى خارج بحثا عن دور خارج حدودها. هل في استطاعة ايران أن تكون دولة طبيعية تفيد جيراتها وتستفيد منهم في الوقت ذاته؟