كتب يوسي سريد مراجعة في هآرتس (12 نيسان الجاري) لكتاب صدر مؤخرا بالعبرية بعنوان “رحلة إلى قلب العدو” للكاتب العراقي نجم والي. الكتاب عبارة عن انطباعات كوّنها صاحبه بعد ثلاث زيارات لإسرائيل. وخلاصة المراجعة أن الكاتب “وقع في حب إسرائيل، وفي هوانا نحن الإسرائيليين”.
هذه الخلاصة، في نظر سريد، أسوأ من التشويه (وهي العبارة التي اختارها عنوانا للمراجعة) لأن الكاتب يتجاهل الاحتلال، وأوضاع الفلسطينيين في إسرائيل، علاوة على رؤية المجتمع الإسرائيلي من الخارج، بطريقة سياحية، بعد زيارات قصيرة لا تكفي لتكوين انطباعات موضوعية.
بعد يومين رد والي بمقالة في الحياة بعنوان “في ما خص زيارتي إسرائيل وضجيجها”، قال فيها إن الانطباعات الإيجابية التي كوّنها عن إسرائيل تأكدت بفضل ما أحاط كتابه في إسرائيل من حفاوة واهتمام بعد صدوره بالعبرية. فقد أعرب من التقى بهم من الإسرائيليين عن امتنانهم “لأنني ذكّرتهم بأمور غابت عنهم منذ زمن طويل، وها هم يستعيدونها ثانية عند قراءتهم الكتاب” حسب تعبيره.
أما الأمور التي غابت عنهم، والتي تمكنوا من استعادتها بفضل الكتاب فتبدو كما يتضح في كلامه وثيقة الصلة باليوتوبيا التي أرادها المؤسسون الأوائل، والتي خبت جذوتها بعد العام 1967. لكن ذهابه إلى إسرائيل بقلب مفتوح حرّض الإسرائيليين، فجأة، على التعبير عن “رغباتهم الطيبة الدفينة كما أراد لها المؤسسون الأوائل للدولة العبرية”.
وأعترف، في هذا الصدد، بأنني لم أتمكن من هضم أمرين: أولا، ما يتحلى به شخص من شجاعة تبرر له القول إن كتابا بعينه يمكن أن يعيد إلى هذا المجتمع أو ذاك ما غاب عنه. وثانيا الشجاعة المضاعفة في الكلام عن اليوتوبيا التي أرادها المؤسسون الأوائل.
وأعتقد أن مبرر الشجاعة في الحالتين ناجم عن عدم المعرفة، وعن انطباعات سياحية في المقام الأوّل. يمكن الكلام عن كتب تمارس نفوذا على هذا المجتمع أو ذاك، لكن أصحابها من أبناء ذلك المجتمع، وهم يملكون نوعا من رأس المال الرمزي، بفضل تخصصاتهم العلمية، أو مكانتهم الثقافية، في المجتمع المعني. وهي الأشياء التي لا يملكها السيد والي. توفيق الحكيم، مثلا، أحدث صدمة في مصر بعد نشر “عودة الوعي”، مع التحفظ على حجم وتأثير الصدمة والأوساط التي شعرت بها أكثر من غيرها.
وإذا تكلمنا عن إسرائيل: الروائي يعقوب شبتاي أحدث صدمة عندما نشر رواية “الماضي المستمر” عشية وصول اليمين للمرّة الأولى إلى سدة الحكم في إسرائيل.
وكذلك الأمر بالنسبة لأنيتا شابيرا، التي نشرت بعد فوز اليمين كتابها المشهور عن بيرل كاتسنلسون لتذكير الإسرائيليين بأن بن غوريون لم يكن بالضرورة السياسي الأكثر براعة وبعدا للنظر في قيادة العماليين من جيل مؤسسي الدولة. والأمر نفسه يصدق على بيني موريس وأقرانه من المؤرخين الجدد، بعدما أعادوا فتح ملفات حرب العام 1948.
فأين السيد والي من كل هؤلاء، وكيف تمكّن، بالضبط، من تذكير الإسرائيليين بما غاب عنهم. يمكن أن نذكر، هنا، كتابات لعلماء اجتماع ومؤرخين ونقّاد اجتماعيين تمكنت، بالفعل، من تذكير الإسرائيليين بما غاب عنهم، ليس لأن الذاكرة أصبحت ضعيفة، بل لأنهم ردوا على الذاكرة الأيديولوجية الملفقة بحقائق تصنع ذاكرة جديدة. غيرشون شافير، مثلا، وزئيف شتيرنهال، وبوعز عفرون. وقد حاول هؤلاء، وغيرهم، تفكيك اليوتوبيا، وإنزالها من السماء إلى الأرض، عندما أعادوا النظر في ديناميات نشوء وتطوّر الييشوف اليهودي في فلسطين، وفي المضمون الحقيقي لاشتراكية العماليين، وكذلك في معنى صعود القومية اليهودية، في سياق الحراك الاجتماعي والثقافي ليهود أوروبا الشرقية، في أواخر القرن التاسع عشر.
اليوتوبيا، التي يتكلّم عنها والي تعود إلى مدرسة قديمة في علم الاجتماع الإسرائيلي، عمل شموئيل إيزنشتات على تحويلها إلى خلفية لعلم الاجتماع الإسرائيلي. اليوم، يعالج فريق كبير من علماء الاجتماع في إسرائيل نشأة الييشوف، والدولة اليهودية من منظور دراسات الكولونيالية وما بعدها.
ومع ذلك، لا يصعب التعرّف على مصدر كلام السيد والي عن اليوتوبيا. ففي أوساط العماليين واليسار في إسرائيل عموما اتجاه يعتقد بأن إسرائيل اليوتوبيا تنتمي إلى ما قبل العام 1967، وقد أفسدها الاحتلال. ولعل أفضل ما صدر من ردود على هذه الفكرة ما كتبه بنيامين بيت هالحمي، الذي اعتبر أن يوتوبيا ما قبل العام 1967 كانت ممكنة فقط لأن الفلسطينيين غابوا آنذاك عن الذاكرة، وأصبحت مستحيلة بعدها لأن الاحتلال وصعود الحركة الوطنية الفلسطينية أعادا الضحايا إلى واجهة التاريخ من جديد. لذلك، وكما كتب بيت هالحمي، فإن التاريخ يطارد الصهيونية ويلحق بها.
أخيرا، إذا افترضنا بأن السيد والي غير مطلع على منتجات العلوم الاجتماعية في إسرائيل، يفترض به (طالما كان الأدب حرفته) أن يطلع على الأدب الإسرائيلي. وفي الأدب الإسرائيلي ثيمة أساسية تسمى وثاق اسحق، خلاصتها صراع بين الآباء والأبناء لا ينجو من تداعيات ودلالات وإسقاطات سياسية تطال جيل الآباء المؤسسين والأبناء الحاليين.
لتبرير كل ذلك القدر من الشجاعة، التي لا تدعمها معرفة واضحة أو كافية، يوجه السيد والي انتقادات إلى المثقفين العرب لأنهم يشتغلون في خدمة الأنظمة الحاكمة. والحقيقة أن المنطقة الوحيدة، ربما في العالم، التي يُقتل فيها الكتّاب ويتعرّضون للاضطهاد هي العالم العربي، وأن الجديرين منهم بوظيفة المثقف لا يشتغلون في خدمة أنظمة بل يفرون من نيرها. وهم، اليوم، ما بين سندان الأنظمة، ومطرقة الإسلام السياسي. سريد فسّر هجوم والي على المثقفين العرب برغبة من جانبه في “احتكار إسرائيل” والتدليل على أنه شخص نادر المثال في العالم العربي.
وإذا كان يعتقد بأنه نجح في تذكير الإسرائيليين بخرافة اليوتوبيا القديمة، وأعاد تذكيرهم بما غاب عنهم، فهو بالفعل نادر المثال، ولكن لأسباب مختلفة.
Khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني- برلين
شخص نادر المثال، ولكن لأسباب مختلفة..!!تحية طيبة ملؤها الاحترام للاستاذ حسن على مقالته هذه التي اظهر فيها طول باعه وخبرته فيما يتعلق بالمجتمع الاسرائيلي وبمواقف باحثين وكتّاب اسرائيليين من قضايا مركزية تهم شعبهم. لا يمكنني ان اقيّم المعلومات التي اوردتها مع اسماء كل اؤلئك المفكرين والكتّاب لاني لم اقرأ ايا من مؤلفاتهم(ولا اخجل عندما اقول اني لم اسمع بأسماء بعضهم)، مع اني اعيش في القدس العربية واقرأ العبرية الى حد ما ولكن لا اجيدها الى درجة قراءة الادب او الابحاث النظرية وانا متأكد من انك اوردت آراءهم ومواقفهم وتأثيرهم على المجتمع بصورة صحيحة. وبعد هذه المقدمة الطويلة اود ان اقول:في… قراءة المزيد ..