|
إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
في السابع من تموز، في بداية ثمانينيات القرن الماضي، قَضَت ميليشيا “القوات اللبنانية” الكتائبية، بأوامر من بشير الجميل، على ميليشيا “نمور الأحرار” التابعة للحزب الذي كان يرأسه الرئيس الراحل كميل شمعون. وبعد خمسة أيام من “المجزرة”، تساءل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط في مقابلة مع صحافي فرنسي قائلاً: “في دولة بشير الجميل لا مكان للرئيس كميل شمعون، فأين هو مكاني أنا؟”
ويبدو أنه في دولة “الحكيم” لا مكان لأحد، بعد أن خصّص الكثير من وقته لمهاجمة الصحافي “رياض طوق”، واصفًا إياه بـ”السوسة“.، وما لم يقله “الحكيم” هو ان “السوسة” في الضرس يلزمها “حكيم” لاقتلاعها!
وأسهب “الحكيم” في الفيديو المسرّب بانتقاد “طوق”، مستخدمًا الكثير من الاستعارات والتشبيهات التي لا تستقيم لا مع المنطق.. ولا مع مقامه. قال مثلًا: “إن رياض طوق يترشح للانتخابات النيابية والبلدية والاختيارية، وهذا حقه. وأيضًا، شخص من بشري بإمكانه أن يسحب سلاحه ويقتل عشرة أشخاص في الساحة، وهذا حقه. أو أن أحدهم يحب الإكثار من الأكل، فيأكل حتى ينفزر، وهذا حقه…”
بسلامة فهمك يا “حكيم”، وأنت سيد العارفين: الترشح للمناصب العامة حق يكفله الدستور والقانون، وهو ليس اختراعًا لبنانيًا أو “بشراويًا”، بل حق عالمي نصّت عليه شرعة حقوق الإنسان. أما سحب السلاح وقتل الناس فهو جريمة يعاقب عليها القانون. وبالتالي، لا تجوز المقارنة على الإطلاق بين من يترشح للانتخابات ومن يقتل الأبرياء في الساحات.
أما محب الأكل، فإذا قرر أن يأكل حتى “ينفزر“، فهو يؤذي نفسه فقط ولا يضر أحدًا سواه، ولا تجوز أيضًا مقارنته بمن يترشح لمنصب عام.
ومع ذلك، يبقى السؤال: كيف لرئيس حزب هو الأكبر مسيحيًا في لبنان والشرق الأوسط أن يضيق صدره بصحافي، لمجرد أن الأخير قرر الترشح للانتخابات النيابية؟
هل هي نتائج الانتخابات البلدية والاختيارية في بشري، حيث حصدت اللائحة المناوئة للقوات أكثر من 44% من أصوات الناخبين، ما أصاب “القوات” بالذعر من رياض طوق؟
في بلد يطالب فيه غالبية اللبنانيين حزب الله بتسليم سلاحه للدولة، كيف سيقبل الحزب بذلك، وهو يرى “الحكيم” ــ الشريك المفترض في الدولة ــ يهاجم صحافيًا لمجرد ترشحه للانتخابات؟
هل صدرٌ ضاق بصحافي سيتسع لسائر المواطنين اللبنانيين؟
ونتذكر هنا ما قالته السيدة ستريدا جعجع، زوجة “الحكيم”، لوزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق، يوم بدأ المستقلون في قوى 14 آذار يتمايزون عن أحزابها: “يلي منو مستقبل أو قوات، شو بدنا فيه؟“
فلعلّ موقف النائبة يفسر موقف زوجها من الصحافي طوق. وكان يمكن تفهّم الأمر لو اكتفى “الحكيم” بتجاهله، بدلًا من أن يخصّه بسيل من الهجمات المصوّرة، وليتمتع هو وزوجته بقوة “القوات” وجبروتها، وليحصد المزيد من النواب ويكبّر كتلته النيابية.
لكن يبدو أن “الحكيم”، الذي تخرّج من مدرسة الكتائب اللبنانية في بدايات الحرب، ما زال متأثرًا بما قاله الشيخ بيار الجميل يوم بلغ عدد منتسبي حزبه أكثر من 100 ألف عام 1978: “ما لنا لنا وحدنا، وما لكم لنا ولكم“. أو بما قاله النائب جورج سعادة عام 1976: “من ليس كتائبيًا ليس لبنانيًا، ومن ليس منا فليرحل عنا“.
ولكأن “الحكيم” يريد القول اليوم: “من ليس قواتيًا ليس مسيحيًا، ومن ليس منا فليرحل عنا“.
أما “الحكيم” الذي بنى الكثير من مشروعيته على محاربة الإقطاع، فيبدو أنه يؤسس لإقطاع جديد أخطر مما حاربه.
لقد أطلق “الحكيم” رصاصة الرحمة على مشروعه الذي رفعه يومًا في ساحة حريصا: “الكونفيدرالية”. فمهما بلغ حجم تأييد “القوات”، فلن تمثل الغالبية المسيحية. سيبقى دائمًا قسم كبير من المسيحيين خارجها، وهؤلاء بعد ما سمعوه من “الحكيم” بحق رياض طوق، سيرفضون العيش في “محمية” مسيحية تديرها القوات. سيرفضون كل الطروحات الفيدرالية أو التقسيمية التي تضع مصير المسيحيين بيد حزب واحد.
المسيحيون يا “حكيم” لطالما تميّزوا بتعدّد قياداتهم وتوجهاتهم، ويرفضون حصر تمثيلهم في شخصك أو في “القوات”. سيبقون حراس الجمهورية والعيش المشترك والقيم التي قام عليها لبنان التعددي. وسيخرج دائمًا من بينهم قيادات جديدة تعيد لهم مكانتهم في المشرق، بعيدًا عن سياسات ضيق الصدر والاستئثار بمقدرات الطائفة والبلاد.
من بقي حيًا من المسيحيين وشهد التجارب الماضية، رأى بأمّ عينه أين قاد الاستئثار الطائفة الشيعية والبلاد على حد سواء، وهم بالتأكيد غير مستعدين لاستنساخ التجربة.
شكرًا “حكيم“.
