في بدعة هى الاولى من نوعها لم يسبقها إليها أحد بين كل دور الافتاء فى العالم، تعلن دار الافتاء الليبية عن مناقصة بين شركات الدعاية والاعلان لاطلاق حملة هدفها تحسين صورتها لدى المواطن الليبى وتشجيعه على التواصل معها! وكأن مؤسسة الافتاء منشأة أقتصادية تسعى نحو الربح والخسارة، وكأن الفتوى سلعة تباع وتشترى يجب الترويح لها.
وهذا الاعلان هو إعتراف قوى بأحساس مفتى الديار بمدى كراهية الناس لشخصيته السمحة، وابتعادهم عنه لتدخلاته المتكررة فى ما لا يعنيه، ومحاولاته المضحكة لاحتكار السلطة والسيطرة على صنع القرار والضغط على المسئولين للتسليم له بالرئاسة بأعتبار أنه أعلم الناس بالدين وأقدرهم على تطبيقه، لذلك فهو الاحق بالولاية كما قال الامام أية ألله روح الله الخمينى فى كتابه ولاية الفقيه.
ولانه لا فرق بين دار الافتاء وساكنها، ولان هدف الحملة الاعلانية هو تجميل صورة الشيخ فى عيون الاخرين، فإن ما يخطط لانفاقه من أموال الدولة الليبية ليس للدعاية للاسلام بل للدعاية لشخصه الكريم!
وفي أول مراحل النقاش لا يستطيع القول بأن كراهية الناس لتصرفاته تعنى كراهية للدين أو انصرافها عنه، ولا يمكنه أن يصف معارضيه بأنهم كفار مارقون عن الدين وإلا فالاولى توجيه هذه الحملة لتبصيرهم بحقيقة الدين أو إهدار دمهم ما داموا خارجين عن الملة!
لذا فلا بد له من أن يواجه الحقيقة ويقر بانصراف الناس عنه. ومن الظاهر أنه يشعر بضعف تأثيره عليهم لكنه لا يرى أن العيب فيه بل فى الرعية الساذجة التى لا تفهم أو ترفض أن تفهم. فحاول السيطرة على عقولهم بطريقة مكيافيلية لا تمت للاسلام بصلة بل لايعترف هو بها لكنه مضطر لاستخدامها، وهى خداع الاخرين بالكلمات. وربما مايزال البعض يذكر حديثه لجريدة “الاهرام” القاهرية عن تفسير رفضه للانتخابات بأن الشعوب تنخدع بمعسول القول. وبما أن الليبين شعب، فإنهم سينخدعون بمعسول القول! لذا فعليه أن يحاول، لكن ليس عليه أن يتوقع النجاح,.
بل ينبغى عليه بدايةً أن يقر أن العيب ليس فى دار الافتاء وليس فى فهم الناس للدين بل المشكلة هى فى ساكن الدار ومن يتحدث باسمها ويحاول التدخل فى كل شأن ويسعى إلى فرض رأيه فى كل موضوع متخذا من الدين سيفا وترسا يزاحم ذوى الاختصاصات فى صميم عملهم. يتجاوز سلطاته فيصدر الاوامر ويوبخ المسئولين ويهددهم بما يملك فى يديه من رضى الله وغضبه، ويحاول أن يفرض رأيه عليهم ويرى نفسه قوة فوق جميع القوى وقائدا يلتزم الجميع له بالسمع والطاعة ما دام يرى أنه خليفة رسول الله فى الارض الليبية.
اعترض على أعمال المؤتمر الوطنى وانتقد تصرفات رئيسه، وانتقد القضاة ووصفهم بالفساد. واعترض على الكتب الدراسية التى أقرتها وزارة التعليم ووصف سكان “بني وليد” بـ”الفئة الباغية التى تجب محاربتها ومن على من يموت فى قتالهم بالشهادة “، ثم أخيرا يرسل قوة حراسته لتهاجم مقر “المؤتمر الوطني العام” كما هاجمت “قناة العاصمة” من قبل احتجاجا على تشكيل الوزارة لان رئيس الوزراء المكلف لم يأخذ رأيه فى تعيين وزير للاوقاف والشئون الاسلامية (لا أفهم كيف تكون هناك وزارة للاوقاف والشئون الاسلامية ويكون هناك مفتي مستقل. أليست الفتوى جزءا من شئون الاسلام؟).
في عهد القدافي، كان الشيخ واحدا من شيوخ القدافي يعمل فى تليفزيونه ويقبض المال على ظهوره أمام كاميراته. وكلما أراد النظام السابق أن يتخذ مظهرا إسلامياً، كان مولانا الامام واحداً من بيادقه يسانده بالحضور إن لم يكن بالكلام وأسلوبه واضح فى كتابه “مراجعات الجماعة المقاتلة” التى أقرت بحرمة الخروج على الحاكم، ثم ظهوره فى الاحتفالات التى أقيمت بمناسبة الافراج عنهم بإعتبارها “منّة من ولى الامر المسلم” (لا نفهم لماذا لم يعرضوا ملف الشيخ على “هيئة النزاهة”!)
فإن كان حينها يضمر الكره ويدعي الولاء، فأنه يأخذ بمذهب التقية الذى هو مبدأ أهل الشيعة الذين يحاربهم ويحكم بكفرهم. وإن ادعى الضعف وعدم القدرة على المواجهة، فإنه يخالف ما يحفظه من قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْض قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء:97].
وإذا كان الساكت عن الحق شيطانا أخرس، فلماذا لم ينطق حينما فتكوا بالشيخ البشتي وقتلوه صبرا وعذابا وأين كان حينما قتلوا مئتين والفا من الشباب المسلم فى مجزرة أبى سليم. وعندما كان القدافى وإبناؤه وعشيرته يسبون الرسول والسلف الصالح سرا وعلنا، وكان يسمع ويرى فلماذا لم يستنكر ولماذا لم يأخذ بقول مالك (قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم ببلد يسب فيها السلف). فما بالك ببلد يُسَب فيه الرسول؟
وحين تصدى لامر الفتيا اتخذ منها سلاحا سياسيا لتحقيق مآربه الدنيوية. فتدخل ضد المطالبين بالفيدرالية وهي قضية سياسية لا علاقة للدين بها. ثم لما تظاهر مواطنون بسطاء أبرياء يريدون التعبير عن رأيهم ضد الميليشيات المسلحة بوسائل التعبير التى كفلها القانون، ووصفهم بالسكارى والمدمنين، وأفتى لا فضّ فوه بتحريمها واعتبرها خروجا عن الحاكم وحرض المسئولين على استخدام القوة لفضها. أما حين تظاهرت الميليشيات المسلحة وإقتحمت قاعة المؤتمر الوطنى بالسلاح وهددت أعضاءه، ثم حاصرته فى خروج علني على السلطة ينطبق عليه حد الحرابة، زمّ الشيخ شفتيه وقبض بأسنانه على لسانه ورفض إدانتهم، بل وأعلن عن تضامنه بإرسال أفراد قوة حراسته للاشتراك معهم! والحاكم المسلم الذى حرّم الخروج علىه سلماً هو نفس الحاكم المسلم الذى خرج عليه بالسلاح. كان يجب أن تكون فتواه بتحريم الخروج على الحاكم بغير سلاح ووجوب الخروج عليه بالسلاح.
وحين تفجرت قضية “بني وليد” اختار أن يصفهم بالفئة الباغية التى يجب قتالها ووعد من يحاربها بأن يحسبه ألله شهيدا لو قاتل وأصيب بالرصاص فقتل. وقرأ من الآية الجزء الذى يخدم مصلحته
(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الحجرات 9
أما كان الاجدر به أن يسعى فى الصلح بينهما؟ أما كان الاجدر به أن يقرأ حديث رسول الله؟:
حدثنا عبد الرحمن بن المبارك: حدثنا حمَّاد بن زيد: حدثنا أيوب ويونس، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس لقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل، قال: ارجع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار). قلت: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه).صحيح البخاري6481
وعلاج الود المفقود بين دار الافتاء والرعية كما يسميها (لأنهم فى نظره كالاغنام تقرع بالعصا) لن تحلها الدعاية ولا الاعلان! فإن أحبك الناس فقد أحبوك لانك سمح بشوش تبادلهم حبا بحب. وإن كرهوك فلن تشتري حبهم ولو أنفقت ما فى الارض جميعا وقال سبحانه وتعالى ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) أل عمران 159
ونستطيع أن نقول بناءً عليه ولانك فظ غليظ القلب فقد انفضوا من حولك، والفعل يوجب رد الفعل، والتشنج وكثرة التهديد بالدين وبعقاب الله يؤدي إلى اليأس من رحمة ألله ثم إلى نتائج عكسية يمكن لمن يراقب الامور بعين فاحصة أن يراها فى تفكك السودان إلى دويلات، وأن يقرأ أثرها فى تونس والجزائر ومصر حيث إزداد رفض الدين بين المسلمين وتحول إلى ظاهرة تنتشر بسرعة بين الشباب وتهدد بفتنة داخلية بين المسيحيين والمسلمين، ثم يرى ازدياد أعداد العابرين إلى المسيحية فى الجزائر وفى المغرب. أما فى تونس فإن واحدا من إعضاء المجمع الكاردينالي الذين ينتخبون البابا قسيس تونسى إسمه محمد.
لقد عاشرت عن قرب مفتى ليبيا الشيخ “محمد أبو الاسعاد” العالم والشيخ “الطاهر الزاوى”، وكانا كما كان الائمة الاخرون شخصيات بسيطة متواضعة لم يدخلوا فى مهاترات السياسة، و لم يهددوا بإسم الدين، ولم يكفروا أحدا ولم يتخذوا الفتيا سبيلا لتحقيق المنافع الشخصية أو سلما للتسلط والسعي. للسلطة لكن مولانا الامام الحالى يقدم صورة مختلفة ستضر بالدار ولا شك.
وحفاظا على هيبتها وعودة الاحترام إلى شخص المفتي أو شيخ البلاد، نريد أن يتولى المنصب شخصية سمحة يتسع صدرها للجميع فتقبل المذنب وتقيل عثرة المخطئ وتدعو للمعسر بالمغفرة والرحمة ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة لا أن يهددهم بمكاليب النار وقتل المرتد والتفتيش على الضمائر والتشكيك فى إيمان المسلم لان الله هو(أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل 125
نريد أن نرى عالما لا يتحدث إلا إذا سئل ويقبل يالاختلاف، يطرح فى الفتوى الاراء الفقهية المتعددة ثم يترك للسائل أن يختار بينها فلا يلزمه برأي واحد لانه ليس وصيا عليه ولانه لا يدرك على نحو يقيني أى رأي هو الاصح.
وأدعو لو انضم الحقوقيون إلي فى مطالبة الشيخ بالتنحى عن منصبه لانه وهابي العقيدة وعقيدة الليبين مالكية، ومن حقهم أن يكون مفتيهم على نفس مذهبهم. ويا حبذا لو إنضم المحامون إلي لرفع دعوى بعدم دستورية قانون دار الافتاء المليء بالمطاعن والسخي فى الامتيازات التى مُنحت للشيخ دون وجه حق مدعيا أنه يطلبها للدار لا لنفسه لانه لا يفصل بين شخصه وبين المنصب الذى يشغله.
نريد كذلك ومن حقنا كمواطنين أن نعلم من يدقق فى حسابات الدار ومن أين سيدفع ساكنها تكلفة هذه الحملة الاعلامية التى سيكون هدفها المحدد هو تلميع صورته والدفاع عن أخطائه لانها ستكون من أموال الدولة التي يضعها فى موقف هزلث مضحك وكأنها تنفق عليه ليخطئ ثم تنفق عليه لتصحيح أخطائه، وكما قالت البادية قديما أجرح وداوي، يا شينك دعاوي.
magedswehli@gmail.com
كاتب ورجل أعمال ليبي- طرابلس
شئون ليبية: إجرح وداوي فى دار الفتاوى
أين كان كاتب المقال قبل ثورة 17 فبراير؟؟