**
ترجمة: بيار عقل
تقديـــــم:
تسبّب القلق الغربي إزاء برنامج إيران النووي، وعدم فعالية الديبلوماسية المتّبعة حالياً، في تعزيز المخاوف حول أهداف زعماء إيران. ويشعر الغرب بصورة خاصة بالقلق إزاء عقلانية أولئك الزعماء أو، أقلّه، إزاء طبيعة تفكيرهم. وكان بين الأسباب الرئيسية لهذا الإنزعاج بروز رئيس جمهورية إيراني يكثر من الحديث عن تمهيد الطريق للعودة الوشيكة لـ”الإمام الغائب”. فإذا كان مثل هذا الرئيس يملك سلطة ما على البرنامج النووي، فماذا ستكون العواقب إذا ما تضافرت رؤيا تعتقد بـ”آخر الزمان” الوشيك مع امتلاك أسلحة نووية؟
للإجابة على هذا السؤال: ستتطرق هذه الدراسة إلى خمسة قضايا:
“المهدوية”، أي فكرة عودة المهدي (أو “عودة المنجي”، كما يُقال في إيران) في التراث الشيعي قبل نشوء الجمهورية الإسلامية في إيران؛
دور “مشهد” ومتطرّفيها؛
المهدوية في جمهورية إيران الإسلامية؛
وجهات النظر الدينية لكل من آية الله علي خامنئي والرئيس محمود أحمدي نجاد؛
ومكانة الإيديولوجية في السياسات الإيرانية.
*
المهدويــــــــة التراثيـــــــــة وقبل الثـــــــورة الإسلاميـــــــة
“يُحتمل أن يكون الإسلام قد ابتدأ كحركة تؤمن باقتراب آخر الزمان، وظلّ الإسلام يتّسم بفكرة آخر الزمان الوشيك وبفكرة المهدوية طوال تاريخه، وعبّرت هذه السمة الإسلامية عن نفسها سواء في الأدب أو في الإنفجارات الإجتماعية بين حقبة وأخرى”. (دافيد كوك في:
David Cook, Contemporary Muslim Apocalyptic Literature (Syracuse University Press, 2005), p.1)
(1) يلاحظ مهدي خلجي أن كتاب دافيد كوك يتناول الإتجاهات الإسلامية المعاصرة التي تؤمن باقتراب آخر الزمان وأنه، أي كوك، يشير إلى تناوله بصورة أساسية التيارات السنّية وليس الشيعية، والمصادر العربية أكثر منها الفارسية. ويبدو أنه لا توجد دراسة مماثلة لتيارات آخر الزمان في العالم الشيعي، وخصوصاً في إيران).
على غرار الحال في عدة أديان أخرى، فإن فكرة “آخر الزمان الوشيك” تمثّل تيّاراً هامشياً في الإسلام. مع ذلك، يجمع علماء الإسلام على أن فكرة “آخر الزمان الوشيك” ضمن “الشيعة الإثني عشرية” تمثّل العنصر الأهم في تراث آخر الزمان الإسلامي بسبب ارتباطها بفكرة الإمام الثاني عشر، أو الإمام الغائب- وهذا ما يخلو منه نظام الفقه السنّي.(يلاحظ مهدي خفجي أن كلمة “الإمام” هي كلمة قرآنية يستخدمها المسلمون جميعاً، بما فيهم السنّة. ولكن الشيعة يستخدمونها بطريقة فقهية مختلفة جداً.) ومع أن محمد هو آخر الرسل في التراث الإسلامي، فالشيعة يعتبرون الإمامة إمتداداً لنبؤة محمد، لاعتقادهم أنه لا يجوز بقاء البشر بدون توجيه إلهي (“عدم خلو كل زمان من معصوم”). إن الإمام يتولّى شؤون الأمة الشيعية في ما يختصّ بهذا العالم وبعالم الآخرة حتى نهاية الزمان.
المهـــــــدي والإمـــــــــــــــــــام الغائــــــــــــــــب
ترتبط فكرة آخر الزمان الوشيك بفكرة المهدي، وهو لقب “المنجي” الإسلامي الذي سيظهر قبل آخر الزمان ويقيم حكماً عالمياً عادلاً (إضافة من المترجم: “يأتي في آخر الزمان من يصلح الأرض، ويملأها قسطاً وعدلاً”). يعتقد الشيعة أن المهدي ولد في العام الميلادي 868 بصفة الإمام الثاني عشر، وأنه غاب غيبته الصغرى لمدة سبعين عاماً تقريباً ثم غاب غيبته الكبرى، التي ستدوم حتى يبعثه الله مجدّداً. وينص التراث الشيعي التقليدي على أن أية محاولة لإقامة حكومة إسلامية شرعية قبل عودة “الإمام الغائب” تمثّل بدعة، حيث أنه هو الوحيد الذي يملك الحق الديني بالحكم. (يضيف مهدي خلجي أن: “معارضة التقليديين لفكرة “الجمهورية الإٍسلامية” تشبه معارضة بعض اليهود للصهيونية ولسعي بشر لإقامة حكم يهودي في أرض إسرائيل مجدداً).
إن الإنحراف عن الإسلام هو أحد علامات عودة الإمام الغائب. وحسب القرآن، فقد أرسل الله المسيحية إلى العالم لأن اليهود حرّفوا التوراة وتعاليم موسى. ويرد في القرآن، كذلك، أن الله بعث الإسلام وجعل محمد رسوله بعد أن قام المسيحيون بتحريف الإنجيل وبعد أن انحرفوا عن رسالة يسوع المسيح. وفي يومنا، يؤمن المهدويون بأنه بعد قرون من الهيمنة، بات الإٍسلام فاسداً وأن المهدي سيعود حاملاً التأويل الصحيح للإسلام. وحسب تراث آخر الزمان، فحينما يعود المهدي حاملاً “الإسلام الصحيح”، فسيعتقد الناس أن ذلك “دين جديد”، وسيقف علماء المسلمين ضدّه، فيجد نفسه مرغماً على قطع رؤوسهم.
وفي أحد الأحاديث يحدّث الإمام الشيعي الخامس أنه حينما يظهر المهدي (مثل محمد رسول الله، فإنه سيدمّر كل ما سبق ويعيد الإسلام إلى أصله). ويعتبر المهدويون أن تاريخ الإسلام ليس سوى مسار إنحدار وفساد. وبالنسبة للمهدويين الأصوليين، فإن “المدينة”، أي حكومة محمد، هي المثال الأعلى للمجتمع الإسلامي والسياسات الإسلامية. وحيث أنه لم يكن بوسع محمد أن ينجز كل ما رغب به، فإن المهدي سيُبعَث لينجز ما تركه محمد غير ناجز.
مع أن القرآن يصف أحداث آخر الزمان ويصوّر الفوضى التي ستعمّ نظام الطبيعة، فمن الصعب إستخلاص صورة متماسكة لما سيحدث قبل نهاية العالم. وفي جميع الأحوال، ترد الإشارات إلى فوضى العالم بدون أي ذِكر لانتهاء الزمان. وبالعموم، يخلص قارئ القرآن والحديث إلى أن نهاية العالم وشيكة، ولكن العلم بساعة انتهائه محصور بالله- ونبي الإسلام نفسه لا يسعه أن يتنبّأ بهذه الساعة. ولهذا السبب، ينحو فقهاء الإسلام التقليدي إلى عدم التعليق على نصوص آخر الزمان الدينية أو إلى عدم الإستطراد منها، ويعتبرون تحديد ساعة انتهاء العالم مهمة مستحيلة. ويكتفي أبرز فقهاء العلام الإسلامي بمجرّد عرض علامات الساعة من غير أن يسعوا لزعم انطباقها على عصر معيّن. مثلاً، في قلة من الكتب وردت العلامات الصغرى والكبرى لآخر الزمان، مثل “الملاحم والفتن و”الفتن وأشراط الساعة”.
تجدر ملاحظة أن أحاديث آخر الزمان الشيعية تشتمل على رؤى دموية لما سيحدث عند عودة الإمام الغائب. ووفقاً للحديث، حينما يظهر المهدي، سيكون هنالك نوعان من الموت، موت أحمر وموت أبيض، يبيد كل منهما ثلت البشرية. ويكون الموت الأحمر بسيف المهدي والموت الأبيض بالطاعون، بحيث لا يبقى سوى ثلث البشرية. وفي بعض الأحاديث أن المهدي سيقتل ثلثي البشرية، وانه (سيطهّر الأرض من الكفار ومن منكري الإسلام… وأنه سيظل يقتل أعداء الله إلى أن يكتفي الله). وأن المهدي (سيأمر جنده وهم إثنا عشر ألفاً بقتل كل من لا يؤمن بدينك). (ملاحظة من المترجم: وضعنا بعض الإستشهادات ضمن هلالين باعتبارها مترجمة وليست النصوص الأصلية بالعربية، أي أننا اكتفينا بالمعنى التقريبي).
هنالك أحاديث متعارضة حول اليهود والمهدي. ففي حديث أن شاباً يافعاً لحيته قصيرة ووجهه باهت سوف ينهض مع حفنة من الجند، حاملاً سيف المهدي وسيفتح “إيليا”، أي مدينة القدس، في حين جاء في حديث آخر أنه سيدمّرها. وجاء في حديث ثالث أن معظم اليهود سيعتنقون الإسلام حينما يُبعَث المهدي. مع ذلك، هنالك أحاديث كثيرة مقبولة لدى الشيعة يأتي فيها أن اليهود سيُقتَلون: “لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر فيقول الحجر يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله..”. وتجدر ملاحظة أن العرب هم محور مثل هذه الأحاديث. أي أن المهدي في هذه الأحاديث هو عربي يواجه اليهود والفرس والترك والشعوب الأخرى. وتبدو الطبيعة “الإثنية” لهذه الأحاديث من القلق العميق الذي يتخلّلها إزاء سلطة الفرس قبل عودة المهدي: (جاء في ملاحم إبن طاووس حديث منسوب للنبي فيه أن الله سيجعل الفرس يتفوقون على العرب قريباً. وسيطاردكم الفرس ويقتلونكم ويصادرون أملاككم.. وحينما يبعث المهدي فإن كل الترك سيقعون في الأسر أو يقتلون). باختصار، معظم حروب آخر الزمان ستكون بين العرب وغير العرب أكثر منها بين المسلمين وغير المسلمين.
بعض الأحاديث تصف الأحداث التي ستقع قبل عودة المهدي، وبعضها ما سيقع عند عودته، ولكنها جميعاً تظل وصفية ولا تدعو العابد للقيام بأي عمل للتعجيل بعودته. وحسب أحاديث آخر الزمان الشيعية، فكل ما يتوجّب على المؤمن الشيعي هو أن يصلي لصحّة المهدي وأن يصلّي لكي يكون هو حيّاً عند عودة الإمام لكي يتاح له القتال تحت رايته.
ينحو دعاة فكرة آخر الزمان، الذين يمثّلون تياراً هامشياً في المجتمع الديني، إلى تحويل سلبية المؤمن إلى تعرّف فعّال على علامات الساعة. وهم يسعون إلى مطابقة الأحداث، والأبطال، والأنذال، المذكورين في سيناريوات آخر الزمان مع أحداث وأشخاص عصرهم. وهذه إشكالية تواجه الشيعي التقليدي لأن الأحاديث النبوية تحرّم التنبؤ بالمستقبل. وقد حظر الأئمة على الشيعة أن يحددوا وقت عودة المهدي، كما ليس مسموحاً لأحد أن يزعم أنه شاهد المهدي أو اتّصل به. ولكن التاريخ لا يتطابق مع المعتقدات الفقهية، بدليل أن كثيراً من الناس زعموا أنهم اتصلوا بالمهدي، الأمر الذي أكسبهم إحتراماً ومصداقية لدى المتعبّدين. وحيث أن عودة المهدي قد تأخّرت، فلم يبقَ لبعض الشيعة من خيار سوى إثبات أنه حي وسوى تبرير إمكانية مثل هذا العمر الطويل لإنسان عادي. ولهذا السبب، صارت مزاعم الإتصال بالمهدي مبرّرة، بل وضرورية في العديد من الحالات حتى لا تفقد الأمة إيمانها به.
**
المهدويـــــــــــة والثـــــــــــــورة الإسلاميــــــــــــــة
المؤسسات الشيعية الكبرى في إيران هي نتاج التاريخ الحديث للبلاد، وتأويلها لرسالة الإسلام المهدوية ناجم عن تفاعلها مع الأزمنة الحديثة.
لم تكن المهدوية قوة سياسية مهمّة في حقبة محمد رضا شاه (1941-1979) باستثناء المنحى المناوئ للبهائية الذي اتخذه رجال الدين. فقد طالبوا الشاه بالتأكيد على الطابع المهدوي التقليدي في المذهب الشيعي بغية رفض المزاعم المهدوية للبهائية. وتزعم الحركة البابية والمذهب البهائي أن مؤسسها هو علي محمد شيرازي (1819-1850). وقد زعم في البدء أنه “باب” الإمام الغائب ثم تدرّج ليعلن نفسه الإمام الثاني عشر نفسه. وبإعلانه أنه هو الإمام الثاني عشر، فإن البهائية لم تقتصر على الطعن بشرعية الأئمة بصفتهم المؤتمنين على النصوص الشيعية، بل وعلى الطعن في شرعية الملك بصفته سلطاناً شيعياً. وهكذا لم يعد أمام رجال الدين من سبيل سوى إعادة إحياء فكرة الإمام الغائب بغية مواجهة أية مزاعم بأنه ظهر فعلاً. وفي عهد الشاه، طلب الملا محمد حسين بوروجوردي، الذي كان الزعيم غير المنازع للشيعة، من الحكومة أن تدمّر معابد البهائيين وأن تمنعهم من التجمّع للصلاة، وأن تحظر توظيفهم في الوظائف الحكومية. وعبّر هذا الموقف من المهدوية عن وجهات النظر التقليدية لدى الشيعة حول الإمام الغائب وعودته، علماً أنه يتناسب مع دعم رجال الدين الشيعة لنظام الشاه. فبالنسبة لهم، السلطان هو الحاكم الشرعي الوحيد قبل عودة الإمام المهدي.
شكّل موقف آية الله روح الله الخميني من أمور السياسة والدين نقطة انعطاف. فقد ظهر الخميني، الذي تذرّع بـ”ولاية الفقيه”، كفقيه شيعي مناوئ للمهدوية يؤمن بأن انتظار المهدي لا يفترض السكون السياسي، وإنما يقتضي، بالأحرى، قيام حكومة دينية. ولهذا السبب، كافح الخميني الجماعات الإيديولوجية، مثل “الحجّتية”، التي كانت تعتنق النظرة التقليدية للمذهب الشيعي، وذلك حتى في سنواته الأخيرة. إن جوهر رسالة الخميني الثورية كان، تحديداً، نبذ المهدوية: فقد أصرّ على قيام الحكومة الإسلامية حاضراً، بدون انتظار الإمام الغائب. وعرضت نظريته أنه يمكن للفقيه أن يحكم بإسم الإمام الغائب، وأن المؤمنين ليسوا ملزمين بالبقاء خارج الحياة السياسية حتى عودته. إن ثمة شبهاً قوياً بين رؤيا الخميني للحكومة الدينية وفلسفة التاريخ الماركسية: ومفادها أن على البشر أن يعملوا لتحقيق “اليوطوبيا”.
مهّد الإيديولوجيون الإسلاميون في سنوات الستينات والسبعينات من القرن العشرين، ومنهم علي شريعتي، الطريق للثورة الإسلامية عبر إعادة تأويل المفاهيم التقليدية في إطار إيديولوجي جديد. مثلاً، رفض شريعتي مفهوم “إنتظار عودة الإمام الغائب” التقليدي وحوّله إلى مفهوم فاعل. في خطاب شهير بعنوان: “بالإنتظار: دين الإحتجاج”، نادى شريعتي بفكرة “الإسلام كإيديولوجيا” بدلاً من “الإسلام كثقافة”. وأوضح أن ثمة نوعين من الإنتظار، سلبي وإيجابي. وفي نظره، فـ”الإنتظار السلبي هو سبب الفساد والتآكل والإنتظار الإيجابي هو العنصر الأهم في الحركة والصعود”. يقود الأول إلى الإقرار بالأمر الواقع والخنوع، في حين يمثل الثاني حافزاً للتقدم والرؤيا المستقبلية. وأعرب عن إعتقاده بأن الإنتظار كان “حتمية (جبرية) التاريخ”، وأنه ثورة عالمية لن تتحقق عبر الصلاة والسكون، بل “بالراية، والسيف.. والجهاد”. وقال شريعتي أن هذه الحركة سوف تنتصر “لأنني أؤمن بجبرية التاريخ، وليس بانقطاع عرضي وتاريخي”. ويؤوّل شريعتي “الدجّال” ليس كإنسان حقيقي يظهر في آخر الزمان وإنما كـ”رمز للنظام الثقافي والروحي اللاإنساني الذي سوف يسيطر على البشر في آخر الزمان”. ويخلص إلى أن “دين الإنتظار هو فلسفة إيجابية للتاريخ”، وأنه “جبرية تاريخية”، و”تفاؤل فلسفي”، وعنصر فكري وروحي يولّد الحركة، والإلتزام، والمسؤولية، وأخيراً، أنه فلسفة “إحتجاج” ضد “الأمر الواقع” و”نفي للقِيَم والنظم القائمة على مدى التاريخ”.
(ملاحظة: اقترح علينا مهدي خلجي في لقاء قبل أيام أن نستخدم تعبير “آخر الزمان” المعتمد في الفقه الشيعي وفي إيران بدلاً من تعبير “نهاية العالم”. كما اقترح تعبير “عودة المنجي” الذي يستخدمه الإيرانيون. وتجدر الإشارة إلى أن مهدي خلجي كان أمّ المدرسة لمدة 14 سنة في “قم”).
يتبع: “مشهد” ومتطرّفيها
الحلقة الأولى:
المهدوية التراثية وقبل الثورة الإسلامية
العزيز بيار
بدل “المنجي” الترجمة الصحيحة هي “المخلّص” كما في اليهودية والمسيحية The Savor,The Messiah ..والفقرة الشيعية عن عودة المهدي تقول : “فيملأ الدنيا عدلاً وقسطاً بعد أن امتلأت ظلماً وجوراً…وهو صاحب الأمر والزمان..أرواحنا لمقدمه فداء..