في كلامه الصيف الماضي، إثر حرب إسرائيل على لبنان، قال بشار الأسد إن الحرب “عرت الوضع العربي،” وأضاف “لقد أسقطت الحرب أصحاب أنصاف المواقف والمواقف المتأخرة وأنصاف الرجال.” من المؤكد أن بشار الأسد ـ أو من كتب له هذا الكلام ـ يتوقع أن يحرك مشاعر كل العرب، لا لأن كلمات الأسد هي تعبير صادق عن حال قائلها ـ وهي قطعاً لا ـ فهو لا يشعر، مثل كل عربي، بخيبة الأمل على صعد متعددة منها الوطني، القومي والإنساني، بل لأنه يظن أنه قادر على خداع شعوب البلدان العربية (بما فيهم السوريين) أو يستطيع حرف أبصارهم اعتمادا على تحريك عواطفهم كمقهورين. ربما كانت كلمات الأسد ستلقى صدى لو أنه كان يرأس مثلاً فنزويلا أو أي بلد بعيد آخر (وليس سوريا) ويتكلم بهذه الطريقة، وربما كان الأسد سينجح إلى حد ما في اللعب من هذه الزاوية لو أن لديه رصيد بسيط من المصداقية اكتسبه في ميدان “الجد” لا في “حلبة الكذب”، والأهم من هذا وذاك، ربما كان الأسد سينجح لو أن ذاكرتنا قصيرة ولا نعرف أنه ابن أبيه حين يتكلم عن الرجولة والعنتريات إلخ… حقاً، وبالطبع، لم ننخدع ولم نصدم حين رشحت الأخبار عقب وقت قصير من كلام بشار الأسد عن “الرجولة” ـ التي اعتقد أنه يستقيها “أو يستفتيها ويجدد بيعتها” من التعريض لغيابها عند نظرائه من “الزعماء العرب” ـ وقرأنا وسمعنا أن رجولته (وتوجيهه اللوم إلى الآخرين) كانت غير بعيدة عما تحمله سراً أخبار مفاوضه “إبراهيم سليمان” مع الإسرائيليين، ومن ثم نتأكد من دقة معرفتنا به ويتوثق أكثر فأكثر لدينا أنه ابن أبيه حين نقرأ لاحقاً أنه يفاوض لا على استعادة الأرض السورية المحتلة إلى سوريا لتصبح تحت السيادة السورية بل إلى تحويل الجولان إلى حدائق للإسرائيليين (نقول حدائق للإسرائيليين لأن السوري سيحتاج بالتأكيد إلى تصريح أمني ليزور الحدائق المعنية ـ فيما لو تم ذلك).
هذا ما يجري الآن، ولو عدنا قليلاً إلى الوراء لوجدنا أن بشار الأسد ليس إلا نسخة من والده يعاد إنتاجها و تكرارها، ففي تصريح لصحيفة البعث (منكوش من تاريخ سوريا المنسي انظر الرابط في أسفل صفحة “الحقيقة”) بتاريخ 21 أيار 1967، أدلى به حافظ الأسد، وزير الدفاع حينها، يؤكد أن الوقت قد حان لطرد “العدو الصهيوني من وطننا العربي” وأنه سيوقع”بالعدو خسائر اكبر بكثير مما يمكن أن يسببه لنا سلاح العدو وقد أثبتنا ذلك …، رغم أن ..[المعارك] كانت محضرة من قبل العدو ومنسقة مع الرجعية التي أباحت للعدو أجواء يعمل فيها بحرية في محاولة للضرب من الخلف.” ويتابع “أصبحت استعداداتنا لمواجهة أي عدوان كاملة وقد أخذنا بعين الاعتبار احتمال تدخل الأسطول السادس.” بعد تصريح الأسد وزير الدفاع هذا عن استعداده لكل شيء، بما في ذلك احتمال تدخل الأسطول السادس الأمريكي، ما هي إلا أيام ـ وليس أشهرـ حتى كان البلاغ العسكري بسقوط القنيطرة، مع العلم، وما هو غني عن التذكير، أن القوات الإسرائيلية كانت بعيدة عن القنيطرة عند إذاعة البلاغ، وعلى الأرض كانت التعليمات للجيش بالانسحاب، وقد كرر الكثير من المعنيين حينها أن حافظ الأسد هو الوحيد الذي كان وراء بلاغ سقوط القنيطرة. ولاحقاً، على سبيل المثال ـ وضح في أحد الاجتماعات الحزبية في دمشق، اللواء أحمد سويداني الذي أجاب حول ملابسات إذاعة البلاغ: “أنا كمسؤول لم أستشر في البلاغ الذي أعلن عن سقوط القنيطرة…وكمواطن سمعته من الإذاعة كغيري”.
نعلم، من تاريخ العالم، أن بين الجنرالات من حاكموا، و حاسبوا، أنفسهم حين خسروا في المعارك والحروب فمنهم من انتحر لعدم قدرته على مواجهة نفسه والآخرين. على عكس هؤلاء وبما لا يقدر واحد منا على فهمه ضمن معايير العقليات المسؤولة، تباهى نظام الخسارة عندها بأنه ربح مادامت “المخططات الصهيونية والإمبريالية” قد فشلت في إسقاط النظم “التقدمية” في المنطقة، أي أن خسارة الأرض لا تعني شيئا مادام من فرط بها ولم يدافع عنها لم يصب بأذى، بل ورقى جنرال الخسارة، حافظ الأسد، نفسه بسيطرته الكاملة على الدولة والسلطة في سوريا في انقلاب عام 70 وشرع في هندسة نظام على الشكل الذي يريده ويناسبه بالتحديد.
لكن الأسئلة التي تصر على الاستمرار في طرح نفسها، في كل لحظة ولمدة أربعين عاماً، تبقى حول: ماذا جنت سوريا وماذا جنى شعبها من النظام التقدمي الذي نتج عنه حافظ الأسد!؟ أين أصبحت سوريا وأين أصبح شعبها من قضية الجولان!؟ كيف أصبحت نفسية وعزيمة الشعب السوري بفضل سياسة الأسد!؟ أين موقع سوريا وأين شعبها على خارطة العالم، لا الجغرافية فقط بل أيضاً السياسية، المعرفية، الثقافية، والإنسانية!؟ إلخ من الأسئلة التي يكون القاسم المشترك في الجواب عليها جميعاً أن حكم الأسد هو، وبكل دقة، النكسة والهزيمة والنكبة المستمرة لسوريا ولشعبها.
بخلاف إسرائيل، التي يتمتع المواطن فيها بالحرية الكاملة ولا يعرف أن حقوق المواطنة تؤجل بسبب “حالة حرب”، وضع حكم الأسد الشعب السوري ـ وبذريعة الحرب ـ تحت شروط تنعدم فيها المواطنة وكافة الحقوق والمعايير والأسس المطلوبة التي تنسجم وشروط المواطنة. ولضمان أن تبقى الأمور تحت السيطرة زادوا في عدد مخبريهم فأصبح السوري يعيش في دائرة الخوف المستمر، الخوف ليس فقط من انتقاد ما يمارسه حكم الأسد من مفاسد واستلاب لإنسانية الإنسان ومن المطالبة بحقوقه بل أيضاً الخوف من أن يقع في الخطأ ويظن أنه يعيش في سوريا السوريين وليس في “جملوكية الأسد”، ولا نبالغ إن قلنا أن السوري أصبح يخاف ما ستكون عاقبته إن تكلم حتى عن أرض محتلة.
في حكم الأسد أصبحت ميزانية الدولة تذهب بمعظمها إلى شريحة تسمى “عسكرية” في حين أنها، في الواقع، مخابراتية محصورة بتشكيلة لها طابع عشائري عائلي ممتد قليلاً إلى المحسوبين والمنتفعين. بشكل عام، وبمختصر الكلام، كل ما جناه السوري من نظام الأسد هو المآسي وتردي الأوضاع بشكل مضطرد من سيء إلى أسوأ سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً، صحياً وغير: الأساليب القمعية، حملات الاعتقال والمداهمات الليلية دون أي حساب لحقوق الإنسان، حبس معتقلي الرأي، فساد الإعلام، البطالة، أزمة السكن، ارتفاع الأسعار، الواسطة، الرشاوى والمحسوبية، إهمال المشافي، انتشار الأمراض وانخفاض معدل عمر الفرد، فساد القضاء وغياب القانون، استمرار العمل بقانون الطوارئ، تفصيل الدستور ليتناسب ومقاييس حافظ الأسد وخلفته، انتشار “رجال الأعمال” “الأذكياء” و”النابغين”[أمثال آل مخلوف والأسد وطلاس وغيرهم..]، فساد التعليم، تحويل الجامعات من مؤسسات يفترض أن يكون لها طابع أكاديمي لتصبح أماكن تابعة لأهل النفوذ والمافيات، ظاهرة الدروس الخصوصية والمعاهد الخاصة التي يعتمد مالكيها على تفسيد التعليم في المدارس والجامعات العامة.
بين حزيران 1967 وحزيران 2007 تموت أجيال وفي قلبها غصات وحرقات كثيرة تبدأ بخسارة الأرض وتبلغ ذروتها بخسارة الإنسان… في ظل حكم الأسد، تهاوت واختفت الأحلام بوطن هو لنا ونحن له ومن بقي قادراً أن يحلم على الإطلاق تقلصت أحلامه إلى التفكير بالسبل التي تساعده كيف سيقضي عمره دون أن تطاله شرشحة وسجون آل الأسد وعصاباتهم وحواشيهم وهم يتوارثونا! كنا نريد سوريا بلداً ديمقراطيا يتساوى كل أبنائها بالحقوق ولكنها تحولت إلى سجن لأبنائها وتدير هذا السجن عصابة مارقة. من كانت لديه أحلام من قبل تكسرت أحلامه وهو ينتظر أما الراديو والتلفزيون لخبر “زودة معاش” أو لخبر “إفراج” عن سجين سياسي أو سجين رأي، من كان لديه حلما ببناء بلد تقلص حلمه إلى التوسط ليستطيع تأمين أسطوانة الغاز وكم من سنين أضاعها في الانتظار أمام ما يسمى بالمؤسسات الاستهلاكية للحصول على حفنة من الرز والشاي والسكر والسمن… بالتأكيد انتهج الأسد وحواشيه هذه السياسة لمعرفتهم أن من ينتظر أمام أكشاك الخبز لتأمين ربطة خبز له ولأسرته لا وقت ولا نفس لديه ليفكر بشيء آخر، فكيف سيكون إذا ما الأمر يتعلق ببناء الأوطان!؟ الشعب السوري تحول إلى أشباح بشرية تتحرك بصعوبة ريثما تموت… وبين حزيران 1967 وحزيران 2007 تولد أجيال، تكبر ولا تعرف من، وعن، سوريا إلا ما اجتهد أباطرة و”أرضناصية” وأبواق حافظ الأسد ووريثه لتعليمها: فسوريا مختزلة بتاريخها وجغرافيتها وكلها إلى شخص وأسرة الأسد. وفي سوريا الأسد أصبحت الهزيمة انتصاراً. في سوريا “الأسود” أصبحت خارطة سوريا خالية من لواء اسكندرون، وهاتف موشي دايان لم، ولن، يرن(إشارة إلى النكتة المتعلقة بتصريحات موشي دايان بعد حزيران 1967)، والحقائق التي خلقتها إسرائيل على الأرض يمتنع عن ذكرها الأسود.
وأما ما يجب أن نسمعه نحن السوريون، بما هو تحد لمشاعرنا وإطناباً في عنجهية المتسلطين على سوريا وشعبها هو الـ”نعم لبشار” وفوزه بالنعم بنسبة 99,82 بالمائة (كما لفت انتباهي أحد الأصدقاء لأن الأوراق الملغية لا تدخل في الحساب والنسبة..) ولأسبابهم أعلنوها (97,62). هل هناك مذلة وإهانة للشعب السوري أكثر من سماع الكلام عن الإنجازات والنجاحات والانتصارات وترديد قول: “هذا الشبل من ذلك الأسد”؟ أي أسود هي وأي أشبال هي تلك التي تمنح الأرض والعرض مقابل الحفاظ على كرسيهم المغتصب أصلاً!؟ أي شبل هو ذلك الذي يخرب البلد وينهج نهج والده في عرض أراضي سوريا للمتاجرة!؟ أنستطيع هنا إلا أن نقول، وبالاستئذان من أبو عادل، مظفر النواب، أن “”…النملة تعتز بثقب الأرض… أما أنتم …القدس [واسكندرون، والجولان، وكل سوريا…] عروس عروبتكم”؟ ترى إلى أي حد من الذل كان الشعب السوري سيخضع له فيما لو أن حكام دمشق فعلا قد انتصروا أو أنهم حققوا إنجازات ما يستطيعون التباهي بها!؟
ذكر توفيق الحكيم (في عودة الوعي، ص.67) أنه غلبت عليه العواطف إثر وفاة جمال عبد الناصر (بعد ثلاث سنوات من هزيمة حزيران) فاقترح إقامة تمثال له في ميدان بالقاهرة فوصلته رسائل محبذة مليئة بالعواطف ورسائل أخرى مترددة و”بينها خطاباًَ يقول فيه صاحبه انه موافق على إقامة التمثال ولكنه يرى أن يكون مكانه ليس في القاهرة بل في تل أبيب لأن إسرائيل لم تكن يوماً تحلم بأن تبلغ بهذه السرعة هذه القوة العسكرية ولا أن تظهر أمام العالم بهذا التفوق الحضاري، إلا بفضل سياسة عبد الناصر….” مع العلم أن عبد الناصر اعترف، بشكل أو بآخر، بأخطائه ولم ينهب بلده وشعبه. نتذكر هذا ونتساءل: هل هناك من يجد الغرابة في أن إنجازات بشار الأسد في سوريا تجعله بنظر الحكومة الإسرائيلية هو الأفضل وأنها لا تريد بديلاً له حين توضح لجهات فرنسية سياستها “إزاء سورية” بالقول إن إسرائيل تريد ترك سورية على وضعها الحالي، … و[هي] لا تريد إضعاف الرئيس بشار الأســد، [ويجب] تركه في السلطة حتى مستقبل منظور على الأقل”؟ (انظر صحيفة الحياة عدد22/03/2007 ) أليس من حقنا كسوريين أن نقول أن صور الأسود وتماثيلهم يجب أن تكون في تل أبيب وليس في سوريا؟ أليس من حقنا أن نقول أن “المليارات” التي تصرف من أجل استفتاءاتهم وبيعاتهم وتجديد بيعاتهم يجب أن تدفع من إسرائيل وليس من أموال السوريين؟
saidabugannam@yahoo.com