الثورة في سوريا ثورة حقيقية. هناك شعب طفح به الكيل. لم يعد يسأل عن شيء بعدما انقطعت به كل سبل الحياة وفقد الأمل في مستقبل افضل يُسمح له فيه باستعادة بعض من كرامته المهدورة. لهذه الأسباب وليس لغيره، كشفت سوريا الجميع، بل فضحت الجميع. لأنّها كشفت الجميع وفضحتهم، تستحقّ سوريا، بشعبها أوّلا، كلّ شكر على ذلك.
بات يمكن الآن قول “شكرا سوريا” من دون خجل او وجل وليس لتغطية الجرائم التي ارتكبها النظام العلوي في حقّ لبنان واللبنانيين، على غرار ما فعل الأمين العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصرالله في الثامن من مارس ـ آذار 2005. وقتذاك، شكر حسن نصرالله سوريا بعد اقلّ من شهر من اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه.
هل كان الأمين العام لـ”حزب الله” يشكر النظام السوري على تغطيته اغتيال رفيق الحريري، ام كان يشكر النظام على دخوله تلك اللعبة الخطيرة التي ادّت إلى خروج الجيش السوري من لبنان؟
كان خروج العسكر السوري من لبنان فرصة لا تعوّض لإيران كي تملأ، عبر الميليشيا المذهبية التي تتحكّم بها في لبنان، الفراغ العسكري والأمني في البلد وتسعى في الوقت ذاته الى الحلول مكان الوصاية السورية على الوطن الصغير.
فضحتت سوريا أوّل ما فضحت بشار الأسد والنظام الذي يرمز اليه والذي عمره من العام 1970 حين احتكر والده السلطة واستخدم البعث كي يصبح أوّل رئيس علوي للبلد. الرئاسة في سوريا حقّ من حقوق اي مواطن سوري مسلم. لكنّه ليس مقبولا فرض شرعية عن طريق انقلاب عسكري وعن طريق الطائفية والمذهبية والأجهزة الأمنية.
ما اكّدته ثورة الشعب السوري ان لا شرعية للنظام مهما تلطى بحزب البعث الذي هو في الأصل حزب علماني. كان يمكن لشعارات البعث ان تكون جذّابة لو لم يتبيّن أنّه لا يبقى، في احزاب فارغة من هذا النوع، سوى المتخلفين. هؤلاء يعتقدون ان في استطاعتهم التغلّب على منطق التاريخ عن طريق استخدام شعار “العروبة” او “الممانعة” وكلّ ما له علاقة بمواجهة اسرائيل. تبيّن ايضا أن البعثي، الذي يبقى بعثيا، لا علاقة له بأي شيء حضاري في هذا العالم وانّه ليس سوى احد دعاة حلف الأقلْيات الذي لا مستقبل له في الشرق الأوسط، اللهمّ إلّا اذا كان المطلوب تفتيت المنطقة وجعلها دويلات طائفية ومذهبية تدور في الفلكين الإسرائيلي والإيراني.
فضحت سوريا “حزب الله” ايضا ومدى ارتباطه بالنظام العلوي السوري من زاوية محض ايرانية. كشفت ان “حزب الله” مرتبط بايران الى درجة انّه كان كافيا ان تأتي تعليمات “المرشد” بالمشاركة في الحرب التي يشنّها النظام على شعبه، حتّى غرق الحزب، الذي يفترض أنّه لبناني، في الرمال المتحركة السورية. لا مجال لأيّ اخذ ورد في شأن “الكلفة” عندما يتّخذعلي خامنئي قراره. لا يعود امام الحزب سوى التزام قرار “المرشد” بغض النظر عمّا اذا كان هذا الإلتزام يعني خرق ما يقي من سيادة للدولة اللبنانية والحدود الدولية لهذه الدولة. العامل المذهبي يتقدّم، من وجهة نظر “حزب الله”وامينه العام السيّد حسن نصرالله على كلّ ما عداه، بما في ذلك الحدود اللبنانية ومصير مئات الشباب.
نعم، فضحت سوريا الجميع. كشفت القدرة التركية المحدودة على التدخل وحجم المشاكل التي يواجهها الرئيس رجب طيب اردوغان في الداخل التركي، خصوصا مع الأكراد.
كشفت سوريا حقيقة النظام الجديد في العراق الذي فرضته الدبابة الأميركية. ظهر بوضوح ان الحكومة المركزية في بغداد لا تزال تحت الهيمنة الإيرانية وان لا فارق كبيرا بين نوري المالكي وحيدر العبادي، حتّى لو كان رئيس الوزراء الحالي يمتلك كلّ النيات الحسنة. مركز القرار في بغداد لا يزال في يد الميليشيات المذهبية الموالية لإيران والتي حاربت معها ضدّ العراقيين بين العامين 1980 و 1988.
لكنّ اهمّ ما فضحته سوريا هو حدود الدور الإيراني، بالتعاون مع “حزب الله” او من دونه. تستطيع ايران بفضل تدخلها المباشر وادواتها اللبنانية والعراقية والأفغانية، اي الميليشيات المذهبية التي تستخدمها لدعم النظام، المشاركة في تقسيم سوريا. لكنّ ايران لا تستطيع تحويل كلّ سوريا مستعمرة، كما حاولت، وما زالت تحاول، ان تفعل في العراق واليمن والبحرين…
كان العجز الإيراني، الذي لم يبدّله الإتفاق في شأن الملف النووي مع “الشيطان الأكبر”، وراء الإضطرار الى الإستنجاد بالدبّ الروسي الذي لديه مصالح خاصة به في سوريا. في مقدّم هذه المصالح الغاز السوري. الأمر لا يقتصر على كميّات الغاز الموجودة في سوريا، وهي كمّيات كبيرة، بل يشمل ايضا منع ان تكون الأراضي السورية ممرّا للغاز الخليجي الذي يمكن ان يصل الى اوروبا.
فرض العجز الإيراني الإستعانة بالقوّة العسكرية الروسية التي لا يمكن ان تنقذ رأس بشّار الأسد ونظامه المتهاوي. لعب هذا النظام دورا محوريا في تمدّد “داعش” التي يدّعي الروسي محاربته، في حين ان حربه الحقيقية هي على الشعب السوري.
اذا كان من حسنة للتدخل الروسي المباشر، الذي يتمّ بالتنسيق الكامل مع ايران واسرائيل، فهو اثبت ان النظام انتهى. انتهى النظام من جهة وظهر ان العلويين ليسوا مغرمين بدعوات التشيّع الإيرانية من جهة اخرى. يفضّل العلويون الروس على الإيرانيين في مناطقهم!
فوق ذلك كلّه، كشفت سوريا العجز الأوروبي. اوروبا لم تعد لاعبا في الشرق الأوسط لا اكثر ولا اقلّ، خصوصا في غياب الإستراتيجية الأميركية وزيف مثاليات ادارة اوباما. يعبّر عن هذا الغياب الكلام الكثير الصادر عن رجال الإدارة الذي يظلّ كلاما بكلام.
ما الذي تريده الإدارة الأميركية في سوريا؟ لا جواب عن ذلك. هل هي مع التدخل الروسي ام لا؟ لا جواب ايضا.
هل كشفت سوريا ان الشرق الأوسط لم يعد همّا اميركيا اساسيا؟ ربّما كان ذلك الجواب المعقول، اقلّه في ما يخصّ الأشهر الـ14 المتبقية من ولاية اوباما الذي اختزل المنطقة ومشاكلها وازماتها بالملفّ النووي الإيراني.
يتجاهل الرئيس الأميركي ان حربا حقيقية تدور حاليا في غير مكان، في سوريا تحديدا، وان التدخل الروسي الوقح لن تكون له من نتائج سوى اطالة هذه الحرب الى ما لا نهاية… مع انعكاسات في غاية السلبية على بلد صغير مثل لبنان تحاول ايران تغيير طبيعة نظامه وتركيبته السكانية، وتغيير طبيعة المجتمع الشيعي المعروف بانفتاحه وطليعيته على غرار ما تفعل في سوريا.