زار الصحفي الأميركي “تشارلز غلاس” ما يسمّى “سوريا الأسد” خلال شهر أيلول/ سبتمبر الماضي (يمكن قراءة مقاله كاملاً بالإنكليزية هنا). في ما يلي ترجمة لأبرز مشاهداته. وخلاصة زيارته هي أن ما يمكن تسميته “سوريا المفيدة” (وهو تعبير استخدمه الفرنسيون في مستعمراتهم بشمال إفريقيا في القرنين التاسع عشر والعشرين)، أي المناطق التي تتحكم بها السلطة، هي في الواقع “جيب صغير” يمتدّ من العاصمة دمشق، التي لا يبعد ثوّار “جوبر” أكثر من كيلومتر عن وسطها، إلى “حمص” التي يسيطر الثوار على أحد أحيائها، ثم إلى “حلب” التي يخوض النظام والثوار الآن معركة كبرى لحسم الوضع فيها، ثم إلى “طرطوس” و”اللاذقية” وما يسمّى جبال العلويين فوقها!
يعني ذلك أن ٩٠ بالمئة من أراضي سوريا خارج “سوريا الأسد” التي تقتصر على المناطق القريبة من لبنان، وأن سيطرة النظام على “مناطقه” يمكن أن تتعرّض للخطر في أي لحظة! وأن انسحاب حزب الله و”الباسداران” من سوريا (بعد الإنسحاب الإجباري للميليشيات الشيعية العراقية) سيقوّض نظام الأسد.
التحاليل الغربية التي تتحدّث عن “استعادة السيطرة” من جانب النظام تبدو.. “وهماً”!
الشفاف
*
أسواق دمشق القديمة ما زالت مفتوحة، بعكس أسواق حلب التي كانت أكبر والتي باتت كلها مدمرة اليوم.
وتزدهر الدكاكين التي تبيع اللحوم والخضار والتوابل وغيرها من المواد الأساسية، مع أن الدكاكين السياحية في “سوق الحميدية” الشهيرة، وعلى مقربة منها، تخلو من الزبائن باستثناء ما تبقى من موظفي الأمم المتحدة وحفنة من الديبوماسيين. وفي الليل، فإن المطاعم ممتلئة في الغالب. وتتوفّر كل المواد الضرورية، من الخمور إلى الدجاد المشوي، ولو أن الأسعار باتت أغلى مما كانت قبل الحرب. ويظل ازدحام السيارات ملحوظاً، مع أنه بات أقل منذ شهر حزيران/يونيو حينما شعر النظام بثقة كافية لإزالة العديد من الحواجز العسكرية. وتظل الكهرباء متقطعة، ولكن القادرين مالياً يستخدمون المولدات الخاصة في ساعة انقطاع الكهرباء.
في المدينة القديمة، حيث مكثت في قصر عثماني تم تحويله إلى فندق، كنت أسمع في الثامنة من صباح كل يوم هدير المقاتلات السورية. وكانت تلك المقاتلات تقوم بعمليات قصف لضاحية “جوبر” التي لا تبعد سوى مئات الأمتار عن أسوار المدينة القديمة. لقد رحل معظم سكان “جوبر” منذ زمن طويل، وتحوّلت مبانيها إلى ركام بفعل القصف المتواصل. ويُقال أن الثوار يعيشون آمنين تحت الأرض في أنفاق قاموا بحفرها، هم أو سجناؤهم، خلال العامين الماضيين. وبين حين وآخر يطلق ثوار “جوبر” قذيفة هاون يتجاهلها الدمشقيون.
يرفض الناس في دمشق أن يروا أو أن يسمعوا العنف المستشري في ضواحيهم، مثلما تجاهلَ سكان “بيفرلي هيلز” أعمال الشغب التي وقعت في “واتس” في ١٩٦٥ و١٩٩٢! ومن السهل الزعم بأنه ليس هنالك حرب، إلا إذا وقعت قنبلة على مقربة منك أو قتلت شخصاً من معارفك. في صبيحة أحد الأيام، كنت أقود سيارتي في حي “أبو رمانة” الراقي حينما صفرت قذيفة هاون اطلقها الثوار فوق رأسي وانفجرت في خزان وقود احترق ووصل دخانه الأسود إلى السماء. ومع ذلك، تصرّف المتسوّقون في المحلات المجاورة وكأن شيئاً لم يكن.
“جوبر” ليست الضاحية الوحيدة التي يسيطر عليها الثوار، ولكن الحكومة نجحت أكثر في التعامل مع الضواحي الأخرى. فقد استعادت بعضها، مثل “مليحه” في ١٤ آب/أاغسطس. وفي غيرها، قال لي موظف في الأمم المتحدة أن استراتيجية الحكومة كانت أبرع. فقادة الوحدات المتحاربة يعقدون اتفاقات هدنة محلية. وأضاف أن “الهدنات المحلية تشكل جزءاً من استراتيجية الحكومة التي تعتمد مبدأ “قسّم المناطق، اعزلها، وحاصرها، إلى أن يفهم الناس أنهم لن يكسبوا الحرب وعندها فإنهم يقبلون بالتفاوض. وتطلق المعارضة على هذه السياسة تسمية “إركع أو تعرّض للمجاعة”.. ولكن الحكومة تسميها “مصالحة”. أما نحن فنسميها “إستسلاماً”!
وقد أقر موظف الأمم المتحدة بأن ”الوضع أهدأ بكثير في دمشق، ولكن هنالك أماكن أخرى تحترق” خارجها. سوى أن النيران تحتدم على مسافة بعيدة إلى الشمال من دمشق وإلى الشرق منها، وعلى أميال عديدة من المناطق المكتظة بالسكان.
إن الطريق المؤدي إلى الغرب باتجاه لبنان والطريق المؤدي إلى الشمال باتجاه حمص يوحيان بأن المركز الدمشقي بات متصلاً مع المناطق التي يعتبرها حيوية لبقائه. وأول ما شاهدته حينما قدت سيارتي على الطريق الشمالي السريع كان منطقة “حرستا” التي باتت مدمرة ومهجورة كلياً. ثم “عدرا“، وهي مدينة صناعية استولى عليها الإسلاميون في العام الماضي وذبحوا سكانها العلويين. ولكن، بعد أيام من عبوري فيها، نجحت قوات الحكومة في استعادتها ودعت عمالها للعودة.
وبعد “عدرا”، يطل الطريق السريع على مناطق مفتوحة تضم مزارع وقرى فلاحين. وكانت هذه الطريق غير آمنة قبل عام واحد. وكان قطاع الطرق والثوار يقيمون حواجز “طيّارة” فيها لابتزاز الأموال أو لسرقة السيارات أو لخطف من يبدو قادراً على دفع فدية. وكانت هذه المنطقة محظورة على العلويين والإسماعيليين والمسيحيين، وكذلك على الغربيين الذين يزورون سوريا. ولكن الوضع تغيّر الآن.
فقد سلّم ثوار حمص، التي كانت تُعتبر مهد الثورة في ٢٠١١، مراكزهم للحكومة وغادروها مع أسلحتهم الخفيفة في شهر أيار/مايو الماضي. ولم تبقَ سوى منطقة “الوعر”، التي تبعد حوالي الكيلومتر عن المدينة القديمة، في أيدي الثوار وتحت حصار النظام. وتسود حالة هدنة متوترة يتم خرقها بصورة دورية، ولكن المدينة هادئة عموماً. وبدأ بعض سكان حمص بالعودة إليها، حتى إلى بيوتهم التي باتت بحاجة لإعادة بناء بعد ٣ سنوات من القتال. ووجد المسيحيون الفارّون من “داعش” ومن “الجبهة الإسلامية” ملاذاً في الكنيسة الأرمنية، وتقوم منظمات محلية بتقديم العون لكل الطوائف.
من حمص، فإن الطريق نحو الشمال غير آمنة بعكس الطريق غرباً نحو البحر التي تُعتبر آمنة كلياً. إن “حلب“، التي تزعم مثل دمشق أنها أكبر مدينة في سوريا، هي منطقة قتال رئيسية بين النظام وقوات المعارضة المتنافسة، التي تقاتل بعضها البعض بقدر ما تقاتل جيش النظام. وأفاد تقرير لمنظمة “هيومان رايتس ووتش” صدر خلال الصيف أن مئات المواقع في حلب تعرّضت لهجمات بـ”براميل متفجرة” من القوات الحكومية.
بالمقابل، فالطريق المتّجه غرباً آمن لكل من لا يتعاون مع الثوار. فقد استعادت الحكومة السيطرة على “قلعة الحصن” التي كان الثوار يقصفون منها الطريق السريع والقرى المجاورة. واستعاد السيطرة على مدينتي “القصير” و”القلمون”، التي كان الثوار يستخدمونهما لإبقاء خطوط إمداداتهم مفتوحة مع لبنان. ويمر الطريق السريع عبر حقول بدأ فيها قطف موسم التفاح، بانتظار قطف الزيتون قريباً.
وتعج مدينة “طرطوس” الساحلية بالحياة، وكأن البلاد لم تشهد حرباً. وما تزال العائلات تقصد جزيرة “أرواد” لتناول طعام الغداء بزوارق تبحر كل ٢٠ دقيقة.
وإلى الشمال من ”طرطوس”، فلم تتعرض ”اللاذقية“ للقصف إلا نادراً، حينما استولى الثوار على مواقع في القرى العلوية الواقعة فوقها قبل أن يدحرهم الجيش منها بسرعة. وقد يبدو الأمر غريباً لمن يتتبع الحرب السورية من بعيد، ولكن الشاطئ الواقع قبالة فندقي كان يعج بعائلات المستحمين، وبينهم نساء بالبيكيني.
مع ذلك، هنالك خشية من أن أي هجوم كبير تشنّه ”داعش” أن جماعات جهادية أخرى يمكن أن يهدّد ”جيوب” الحياة العادية هذه. ويصعب على بعض السوريين (المؤيدين للنظام) أن بتقبلوا أن دول الخليج وغيرها التي كانت تددعم ”داعش” بالسلاح والمال والمقاتلين قد تحالفت الآن مع الأميركيين ضد ”داعش”. فالخلافة التي اعلنتها ”داعش” وجدت مؤيدين بين المتعصبين الإسلامويين في السعودية وقطر وتركيا وغيرها. وربما كانت تلك الدول تخشى من أن الجماعة التي آزرتها في سوريا قد ترتد عليها الآن.