قصة «بياض الثلج»، المعروفة بـ»snow white«، من القصص التي عبرت الأجيال والأزمان منذ صدروها عام 1812 بقلم الأخوين الألمانيَين جاكوب وولهايم غريم. الأخوان انتجا العشرات غيرها، أكثرها ذيوعاً بيننا قصص «سندريلا»، «الجميلة النائمة»، «ليلى والذئب»…. وكل قوامها أساطير وخرافات كانت منتشرة في أوروبا، ألمانيا خصوصاً، أعاد الأخوان غريم روايتها بقالب مشوّق، تسيطر عليها قوى سحرية، شريرة وخيرة. و»بياض الثلج» أيضا، نُقلت الى السينما والرسوم المتحركة أكثر من عشر مرات، وكذلك الى المسرح، الميوزك هول وكتب الرسوم الكرتونية؛ وحظيت بقدر هائل من النقد والتفسير والتأويل، والتحليل النفسي خصوصاً. ومؤخرا خرج الى الشاشة الكبيرة فيلمان، أحدهما، «بياض الثلج والصياد»، من إخراج الأميركي روبرت ساندرز، «عصْرن» القصة على نحو خاص، بحيث ان كل الأعمال السحرية التي نسجت بها حبكاتها، بدت مثل عنصر ثانوي، أوربما غير قابل للكثير من الإلتفات الا من قبل محبّي سحر التكنولوجيا السينمائية.
والقصة نعرفها جميعاً: البطلة، الأميرة بيضاء الثلج، وظروف ولادتها التي سبقتها نقطة دم حمراء فوق ثلج يغمر المكان. ثم وفاة والدتها، وزواج والدها من أخرى، جميلة وحسودة، تضطهد بيضاء الثلج في الأوقات التي تكون فيها غير مشغولة بمرآتها. تحفظ لها المرآة لقبها كأجمل امرأة في المملكة، الى اليوم الذي تكشف لها فيها عن إحتلال بيضاء الثلج هذا اللقب. تغضب زوجة الأب، فترسلها مع صياد تكلفه بقتلها في الغابة، لكنه يتركها في حال سبيلها، حيث يأويها الأقزام السبعة. تلاحقها زوجة الأب متنكرة بعجوز تطعمها تفاحة مسمومة. يعتقد الأقزام انها ماتت، يضعونها في نعش من زجاج، حيث يأتي أمير ويُؤخذ بجمالها، يقبلها، فتستفيق، ويعيش الإثنان بقية حياتهما في سعادة….
أما في شريط روبرت ساندرز، فالوقائع معدّلة او مضافة، بما يتناسب مع جديد عصرنا. من هذه التعديلات ان بيضاء الثلج ليست تلك الضحية الدائمة التي ينقذها أمير. انما هي التي تقود، بعدما حبستها الشريرة طويلا اثر قتلها لوالدها، معركة استعادتها لحريتها ومملكتها. تركب الخيل، تحمل السيف، تخطب بالرجال والنساء، وتتواجه في نهاية معركتها مباشرة مع زوجة أبيها بشجاعة فائقة، تتفوق خلالها على السحر والخنجر.
أما حبها، فلا يقع على الأمير من مرتبتها، إنما على الصياد الذي أنقذها من براثن الغابة المسحورة، وهو معروف وسط أهل المملكة انه صعلوك، أرمل سكّير. تغرم الأميرة بهامشي اذن. والحب لم يحصل، كما في القصة الأصلية، بين أميرة مغمضة العينين، وأمير انبهر بجمالها من دون ان يرى عينيها. انما، أيضاً، بعد تبادل النظرات والخبرات والاشتراك في معارك ومغامرات، بحيث عرف كليهما الآخر… كما هو المطلوب في العصر الراهن.
شخصية زوجة الأب، التي لا تنطق الا بصفتها كذلك، ليست هي بالضبط الشخصية التي نشاهدها في الشريط: كونها زوجة أب ثانوي جداً أمام كينونتها التي بلورها الشريط، وكانت مثل الكامنة في القصة الأصلية: نرى زوجة الأب في مشهد فلاش باك في طفولتها، يخطفها جنود، يفصلونها عن أمها، التي تزودها بآليات السحر، وتصرخ لها في يأسها بأن لا تنسى: «حافظي على جمالك، انه مصدر قوتك». ويكون ما يكون، وتلتقي زوجة الأب بالملك الأرمل في موقعة سحر، يقع في حبها ويتزوجها في اليوم التالي، حيث تقتله وتستولي على عرشه، وتزجّ بيضاء الثلج في السجن، ثم تبدأ معركتها مع المرآة. هي التي لا ترى سلطة مطلقة غير جمالها، تعيش على وتيرة جهنمية واحدة، لا يديرها الا الوقت. كلما مرّ، هذا الوقت، وبدأت مرآتها تنذرها بتراجع جمالها، أي سلطتها المطلقة… تقبض على الصبية التي تهدد هذا الجمال، تمسكها من رقبتها بأظافيرها الحديدية المروّسة، تشفطها بعنف بالغ، أو ربما تشفط نضارتها وجمالها اليافع، ثم ترميها في السجن؛ وغرضها طبعاً حفاظها على رونقها وجمالها، مصدر سلطتها المطلقة…
هكذا إلى أن يصل دور بيضاء الثلج بعد بلوغها سن الشباب، فتحصل مغامرات ملاحقتها ومعارك استعادة المملكة الى صاحبتها الشرعية. هذا هو «التصرف» الأهم الذي قام به المخرج: انه ناقش، عبر قصة خرافية، يفترض بها انها موجهة الى الأولاد، مسألة الجمال الأنثوي والسلطة. ليس السلطة بالمعنى الذي روته القصة الأصلية، والذي يقتصر على الشأن الخاص لأفراد العائلة الذين يتزعمون المملكة. بل السلطة السياسية، الأوسع مجالاً التي تملي السيطرة المطلقة على حياة وموت جماهير محيطها، أو مملكتها في حالتنا. توسعت اذن أفق السيطرة المحتملة لزوجة الأب، كما توسع أفق النساء في ممارسة السلطة، حتى بلغت السياسية منها. فصارت سيطرة ملتبسة، تستخدم من أجل إدامتها سلاحين: «الناعم»، القديم، الذي لا يتوسّل غير الجمال والصبا؛ وسلاح القوة الرجولية، القائمة في حالتنا هذه على القتل والقتال.
اننا هنا بازاء آتونَين متلازمَين: الاول أتون الهوس بالإبقاء على الجمال، هوس يحركه الوقت، فيما هذا الوقت نفسه هو المسؤول عن ذبوله. ولكن الوقت ايضاً، يحوّل سلطة الجمال الدائم الى عادة راسخة، و»شبكة أمان»، يصعب الخلاص منها. فيكون هشاشة وعذاباً دائمين، تحترق صاحبتهما بشغف السلطة المطلقة. والأتونان يقترنان بأصناف من العنف، ولا نهاية له بغير الموت أو الهزيمة. الأتون الثاني هو السلطة نفسها، بصرف النظر عن أداتها. كل سعي للسلطة فيه شر. وكل سعي للسلطة يتبنى ملامح عصره، يعتمد وسائله، أو شروره. القتل يعبر النماذج كلها، الا عندما تحميها الضوابط الديموقراطية. ولكن هذه الضوابط ليست عريقة، ولا قديمة. والشريط يذكرنا بعيوبها ونواقصها عندما يسرد لنا السهولة التي كان يأخذها حكام ايام زمان في اعتماد القتل، أي القدرة على القتل، الحق بالقتل، كميزان وحيد للبقاء في السلطة. حتى لو كانت قاعدة هذه السلطة تعتمد على الجمال الأنثوي، الجذاب والرقيق. يبقى إغراء القتل وفنونه المختلفة هو الأكثر ديمومة.
هذا الشريط ابن عصره لأنه أدخل معايير جديدة وعدل بالادوار بحيث يكون واقعياً، ويخرج من براءة الرؤية الوردية الأولى؛ لذلك ربما ضجّ الصغار من بين جمهور بالفيلم، أثناء عرضه؛ بعضهم ثرثر طوال الوقت، والآخر خرج من الصالة… والرسالة التي يمكن استنباطها من حبكته ومجرياته انه حسنا، فليكن هناك نساء في السلطة، في أعلاها، شرط البراءة والشرعية. حسنا أيضا، فلتضع النساء «جمالهن» جانباً، فعلا جانباً، ولتتعاملن معه كما تعامل معطيات الطبيعة الأخرى، كما تتعامل معه بيضاء الثلج.
هل عكسَ روبرت ساندرز وكاتب السيناريو بأمانة معطيات عصرهما الغربي؟ أم وقفا دونها؟ أم تجاوزاها؟
بعض الاجابة تجدها في الرواية الدرامية الدائرة أحداثها واقعياً، على خشبة المسرح الفرنسي السياسي الاولى: سيغولين روايال (59 سنة) المرشحة السابقة، الخاسرة، لرئاسيات فرنسا عام 2007 ضد نيقولا ساركوزي، ورفيقة فرنسوا أولاند، الرئيس الجديد (2012)، طوال ثلاثين عاماً، وأم أولاده الأربعة، انفصلت عنه قبيل بدء حملتها الانتخابية، بعدما علمت بقصة حب جديدة تجمعه بفاليري ترييرولر (47 سنة)؛ أي انه بدل أن ينشغل بدعمها في معركتها السابقة من أجل الرئاسة، وقع في غرام أخرى… اما في الحملة الحالية، التي ترشح هو فيها للرئاسة، تعاملت الامرأتان مع بعضهما بشيء من التحفظ والتهذيب. سيغولين، التي تحلم برئاسة البرلمان لو فازت بمقعد برلماني في مقاطعة لاروشيل، حيث تتنافس مع اشتراكي منشق، وتتلقى دعما رسميا من أولاند، كتعويض سياسي أو عاطفي، ربما. ما بين الدورتين، ترسل فاليري على التويتر رسالة دعم لمنافس سيغولين. فتكون الدراما، ويكون انكشاف حلقاتها السابقة التي كانت شبه سرية… ويبدأ فصل جديد، حرب جديدة بين امرأتين، جميلتين، في عمر ما زال يسمى بـ»اليأس»، وما بعده، مستقلتين، بل سلطويتين (كما تصفهما الصحافة الفرنسية)، من جذور ريفية واحدة… هاتين السيدتان تخوضان الآن معركة سلطة تدور رحاها في شخصية اولاند، التي لا تبدو قوية، حتى الآن: واحدة من أجل رئاسة البرلمان، وقد خسرتها، ولكنها مستمرة… والثانية من أجل الهيمنة الغامضة الملتبسة، وابتكار نموذج جديد للـ»سيدة الأولى»، لا هي زوجة ولا هي متخلية عن مهنتها الأصلية كصحافية، تغرف من نموذجها هذا قوة الفرادة، الشهرة، والهيمنة…. أين منهما سذاجة زوجة الأب الراغبة بتجديد جمالها البراني، والتي لا تعرف سبيلا الى هيمنتها بغير القتل….؟ كلا روبرت ساندرز، وإن بدا ابن عصره في تصرفه بقصة بياض الثلج، غير ان الواقع، الفرنسي تحديداً، قبل الأميركي، كان أكثر عصرية منه.
هل يمكن تصور قصة بيضاء الثلج سينمائياً بعد عقدين او ثلاثة أو حتى أربعة من الآن؟
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل