**
*
وضّاح شرارة
في بيانها الذي أذاعته في 19 أيار (مايو) بالدوحة، قالت كتل 8 آذار (مارس) ان انتخاب العماد ميشال سليمان «تتويج» الاتفاق على «وزارة المشاركة» وعلى قانون انتخابات 1960، وأن لا انتخابات رئاسية إلا على هذه الشاكلة. وكان بيان اللجنة الوزارية العربية، قبل ثلاثة أيام، صور انتخاب قائد الجيش مدخلاً الى الاتفاق العتيد، ولحظ علاقة الدولة بـ «التنظيمات» بنداً رابعاً من بنوده. وانتهى التحكيم العربي – القطري، صبيحة 21 أيار، الى «التتويج» هذا. فختم به، فعلاً، نزول كتل 14 آذار عن حصانة الحكومة بوزير واحد يزيد عن الثلثين، وتخليها عن بعض ما كانت تأمله في انتخابات بيروت، لقاء «إشارة» الى السلاح. وقلص الحل المَرْضي حصة العماد والرئيس العتيد الوزارية من الثلث، او من التتمة المرجحة في تصويت مجلس الوزراء، الى العشر (3 وزراء من 30 وزيراً). وعلى هذا، تأخر انتخاب رئيس الإجماع المفترض من مقدمة الحل وبابه الى محصلته وذيله. وصاحب التأخير هذا تقليص حصته أو عهدته ثلاثة أضعاف. فإذا انحاز وزراء العهدة الى واحد من القطبين لم يغيروا شيئاً في ميزان القرار الحكومي.
ولعل هذا من مترتبات «الهرجة» العسكرية، أو «الثورة» (على ما كان يقال في «حوادث» 1958 اللبنانية والأهلية و «الناصرية») التي نظمها «حزب الله» وقادها، في 8 أيار، على جمهور كتل 14 آذار وأهالي الكتل هذه أو بعضها. فالوجه الأهلي من الهرجة هذه – وهو الهجوم الذي شنته القوات المسلحة المتحالفة، تحت جناح المنظمة الخمينية, على احياء السنّة ببيروت وبعض عكار ومرافق «تيار المستقبل» (الحريري) الإدارية الخيرية والإعلامية، وعلى بلدات الدروز بعاليه والشوف – الوجه الأهلي هذا رافقه ولازمه شرط سياسي عسكري هو حمل الجيش اللبناني، وعلى رأسه مرشح الإجماع المفترض، على التزام «الحياد»، والإحجام عن حماية أمن مواطني الدولة والوطن.
وكان الناطق باسم الحزب الخميني المسلح في 8 أيار، سوغ رفضه، والقيادات الشيعية المجتمعة قبل يوم واحد، قراري الحكومة التحقيق في شبكة اتصالات الحزب العسكري («سلاح إشارته» على قوله) ونقل عميد «أمن» المطار، بحماية أمن «المقاومة الإسلامية» طبعاً، وبالحؤول دون ضرب الجيش اللبناني النظامي بقوات الجيش «الإسلامي» الذي يأتمر بأمر الحزب الخميني. وإخراج الجيش النظامي من النزاع بين الحكومة وبين القوة الأهلية الشيعية، أو بين الحكومة وبين أي قوة أهلية أخرى، يؤدي حكماً واضطراراً الى الاقتصاص من الحكومة، ومن قواعدها الأهلية وجمهورها الناخب والشعبي.
وهذا ما صنعته فعلاً الهرجة الحزب اللهية والأملية (الشيعية)، وما أرادته. وهذا ما دعت الجيش و «عماده» إليه، وقسرته عليه، وانقاد إليه طوعاً وكرهاً، على ما علل الجيش الأمر في بيانه الأول غداة بلوغ الهرجة غايتها. وأغفل حسن نصر الله ونبيه بري عمداً دعوة حكومة فؤاد السنيورة الى الاستقالة. فتركا الدعوة، العابرة، الى عبدالأمير قبلان وميشال عون. واستقام في منطق الهرجة السياسي استهداف الحكومة من دون استهداف جيشها، واستهداف الأهالي وبعض مرافق منظمات سياسية (وأهلية) من دون استهداف المسؤولين السياسيين الرسميين وأهل الحكم. ورضخ الجيش، بذريعة الحفاظ على وحدته، الى تخييره بين حماية المدنيين، والمرافق المدنية والممتلكات وبين الانهيار والتصدع.
جنود لبنانيون قرب مخيم نهر البارد
وحملت الحماية، وهي في صلب مهمات القوات المسلحة الوطنية، على عدوان على «المقاومة». وحمل الانهيار والتصدع، آجلاً إن لم يكن عاجلاً، على «حماية ظهر المقاومة». وخلط الأمور على هذا النحو جزء من تصديع أركان فهم الناس بعضهم عن بعض وتفاهمهم ومخاطبتهم بعضهم بعضاً. وتهوين فداحة الأمر، تارة بالزعم ان الخلاف و «التأديب» سياسيان وليسا مذهبيين وتارة أخرى باستعارة مجازات طبية (عملية موضعية، الليزر…)، إنما يحاول التستر على أصداء التأديب العربية والإقليمية: فسنّة بيروت وعكار وطرابلس (والبقاع الغربي والأوسط وإقليم الخروب وصيدا) الذين يقتلون ويهانون ويكمون، الى دروز بيروت وعاليه والشوف، ليسوا من صنف سنّة دمشق وحمص وحماه وحلب، ولا من صنف دروز ضواحي دمشق والجولان وجبل العرب. فهم سنّة ودروز «أميركيون» و «متصهينون»، ولا بأس بقتلهم ما دام قتلهم «سياسياً». وكان هذا الخلط صوَّر قتلة «القاعدة» و «الجيش الإسلامي» وفرق الاغتيال البعثية في العراق «مقاومة». ولا يزال يصورها على هذه الشاكلة. وتأليب «إخوان» مصر والأردن وفلسطين وبعض «الدعاة» المحليين، باسم «المقاومة»، أجهزة وقتلة، على السنّة اللبنانيين، واللبنانيين الوطنيين عموماً، جزء من حماية أهلية داخلية تحتاج إليها قيادات إقليمية تتربع على أنظمة أهلية ومذهبية.
وتخيير الجيش بين القيام بأولى تبعاته ومهماته الوطنية وبين الانهيار العاجل حلقة في سياسة انتهجتها القوة الخمينية المسلحة منذ بعض الوقت. وهي تستأنف السياسة التي انتهجتها الوصاية السورية في «بناء» الجيش الوطني، وعهدت بها الى وزراء دفاع صوريين توالوا على المهمة هذه. وكانت محصلتها إلحاق القوات المسلحة الوطنية ذيلاً بـ «المقاومة» المفترضة، ورديفاً. فـ «الدولة» التي انشئت القوات المسلحة على الولاء لها، ليست دولة الشعب اللبناني، بل «دولة المقاومة»، أو ولايتها وإمارتها الفرعية. وجاز الالتباس ما أقامت القوات المسلحة في عهدة الفريق السوري – اللبناني الحاكم. فلما طويت العهدة، وقامت حكومة وطنية، وقعت القيادة العسكرية في ورطة توالت فصولها المحرجة والمأسوية مذذاك. وكان فصل حرب نهر البارد، وتحريك «فتح» الإسلام، أبرز هذه الفصول.
وفاقم اختيار كتل 14 آذار العماد ميشال سليمان، في أواخر صيف 2007، الورطة التي رمي فيها الجيش، وجر إليها. فإحجامه عن قمع التظاهرات الشعبية التي أخرجت القوات السورية من لبنان وقوضت حكم الفريق السوري – اللبناني، ومبادرته الى خوض معركة مخيم نهر البارد على رغم تبعاتها الطائفية والمذهبية و «القومية» والإقليمية (الفلسطينية والإيرانية)، نهضا قرينتين على وطنية الجيش اللبناني ورجحا احتمال تماسكه على الدور والموقع هذين. ولا يسع كتل 8 آذار، و «راعييها» الإقليميين (والمذهبيين)، قبول الدور والموقع. ومذذاك تزاحمت المحن التي توجتها محنة 8 أيار (وامتحانه). ورمت كلها الى إخراج الجيش الوطني من تولي مهماته، وقسره على التمسك بوحدة السلك الشكلية من غير وظائف السلك الوطنية والداخلية.
فعشية بدء دورة المجلس النيابي الانتخابية الرئاسية، قتلت فرق الموت المحترفة، على ما وصفها قاضي التحقيق الجديد الدولي دانيال بيلمار، النائب انطوان غانم (في 19 ايلول/ سبتمبر 2007). وهو رابع نواب 14 آذار القتلى، والأخير الى اليوم. وكان اغتيال نائب دائرة عاليه – بعبدا الماروني والكتائبي الإيذان بصفحة اغتيالات من صنف آخر، طاولت الجيش الخارج منتصراً ومثخناً من مخيم نهر البارد. ففي 12 كانون الأول (ديسمبر) 2007، اغتالت الفرق نفسها العميد فرنسوا الحاج، مدير العمليات في الجيش، وخلف العماد سليمان المتوقع في قيادة الجيش.
ولم يشك المراقبون، ولا شك سليمان نفسه، في دلالة الاغتيال. فهو «كافأ» الرجل الذي تولى قيادة حرب المخيم الميدانية، وهزم ميليشيا «فتح الإسلام» التي شاء محركوها صبغها بصبغة الالتباس (وهي منها «براء»، على قول الظواهري). واختبر الاغتيال رئيسَ العميد الركن الحاج، أي قائد الجيش ومرشح الإجماع الذي رضيت به كتل 14 آذار مترددة، وردَّه على اغتيال مساعده وخلفه، وعلى اصحاب الاغتيال. فأظهر الممتحن صبراً «جميلاً»، ولم يحر جواباً.
بعد هجوم مسلحي «حزب الله» على بيروت
وغداة شهر ونصف الشهر على قتل فرق الموت المحترفة قائد شعبة العمليات، اغتالت الرائد وسام عيد، رئيس القسم الفني في شعبة المعلومات في قوى الأمن (إلى خمسة آخرين بينهم مرافق عيد)، في 26 كانون الثاني (يناير) 2008. ونسب الى الرائد القتيل (والسني) سهم راجح في الكشف عن شبكة قتلة اغتالت بعين علق، قبل نحو السنة، ثلاثة ركاب حافلة نقل على إحدى طرق المتن. وظهر من بعد انه نبه باكراً، في ضوء التحقيق في جريمة عين علق، الى تداخل شبكة اتصالات الحزب الخميني وجيشه مع الشبكة العسكرية والأمنية السورية، وعملهما شبكة متصلة وواحدة في بعض أجزائهما. وأصابت الضربة مسعى الحكومة الوطنية والاستقلالية في بناء جهاز استخباري وأمني خارج أشباه أو نتف الأجهزة المتضاربة والملحقة بأقطاب الفريق السوري – اللبناني الحاكم التي تعمد الساسة السوريون إنشاءها في لبنان، وندد بها المحقق الأول في اغتيال رفيق الحريري، فيتزجيرالد. ولم يستهدف الاغتيال الجيش مباشرة، ولكن مناعة الأشخاص والهيئات والأسلاك كلها امتحنها الاغتيال وأضعفها. وغداة اغتيال الرائد عيد، أي في 27 كانون الثاني، انفجرت حوادث مار مخايل – الشياح – عين الرمانة، على تخوم الضواحي الجنوبية، حيث قامت طوال عقد ونصف العقد حدود «تماس» حجزت بين الشيعة وبين المسيحيين. وكان الانفجار من صنع محرضين اعدوا للأمر عدته، وتعمدوا استفزاز القوات المسلحة المنتشرة على حدود الدائرتين السكنيتين، وحمل ضباطها (المسيحيين منهم أولاً) على الخوف والتهور واستعمال السلاح الوطني والنظامي في «الدفاع» عن أهلهم المهددين. وتولت حملة سياسية وتحريضية إعلامية عنيفة التشكيك في قيادة الجيش، والتستر على المحرضين، والطعن في حق العسكريين المرابطين بوسط أهلي (مذهبي) في الدفاع عن أنفسهم. وأجبر العماد سليمان على التحقيق «الجنائي» في مسلك مرؤوسيه، وألزم إفشاء التحقيق. ونسي الأمر، والضحايا السبعة، غداة الحادثة والحملة التي تذرعت بها، وأتت أكلها المعنوي القبيح.
ومذذاك الى اليوم، نيط بالجيش السهر الموادع، وغير المسلح، على «أحوال» الأمن في شارع محمد الحوت برأس النبع، وفي محلة بربور بالمزرعة، وأحياء النويري والبسطة والخندق الغميق. وبعض الأحياء هذه مختلط، وتقيم فيها أقلية شيعية متعاظمة العدد بجوار غالبية سنية متضائلة. ونشأت «الأحوال» عن إقدام ناشطين مسلحين، بعضهم في جهاز حرس مجلس النواب، أي رئيسه، على تهديد أهالي «المحلات»، وبعضهم من منتسبي «تيار المستقبل» وحرس مكاتبه، وجلهم من الأهالي السنّة «العاديين»، إذا جازت العبارة. وأوقعت الحوادث المفتعلة عشرات الجرحى. واستدعى بعضها، في منتصف شباط (فبراير)، دعوة «لجنة أمنية» من ممثلي المنظمات «السياسية» الى المداولة، والنظر في أحوال الأحياء والمحلات هذه. وروَّع الناس قبول الجيش، ومندوبه، لقاء مندوبي المنظمات الأهلية المسلحة (ما عدا «تيار المستقبل») على قدم المساواة، وعلى مثال لقاءات خالها الناس طويت وفاتت. والحق ان هذا ما رمت إليه تحرشات المنظمات المسلحة الفظة، ولم تفلح قيادة الجيش في تفاديه.
وفي الأثناء، وعلى وجه الدقة في 30 آذار (مارس) المنصرم، أمرت دورية إيطالية من قوات الأمم المتحدة (اليونيفيل) على طريق جنوب صور الشرقي، أي جنوب الليطاني، شاحنة اشتبهت في نقلها السلاح، وواكبها مسلحون، بالتوقف. فلم يمتثل سواقو الشاحنة، ولا مواكبوها. وفي حال مثل هذه، يُفترض في الجيش اللبناني معالجة أمر المسلحين المنتهكين القرار 1701، ومساندة القوة الدولية. فلم تبادر القوة الإيطالية الى إعمال «قواعد الاشتباك» (وتردد صدى الإحجام في خطب رئيس الوزراء الإيطالي الجديد بيرلوسكوني ووزير دفاعه). ولم يعمد الجيش الى «معالجة» الانتهاك الصريح. والحادثة تفصيل ضئيل في عملية انتهاك متصلة ومتعاظمة جددت تسليح «المقاومة» الشيعية، وانتشارها، وجاهزيتها لشن حروب «دفاعية» عن الآباء الشرعيين (على قول سفير طهران السابق بدمشق محمد حسن أختري) في طهران، ووسطائهم السوريين. وهذا ينسب القوات المسلحة الوطنية اللبنانية الى «وطن المقاومة» وليس إلى دولة الشعب اللبناني، أو «الأمة اللبنانية» على قول القسم الرئاسي.
اثناء احداث تظاهرة للمعارضة في مار مخايل (علي سلطان)
والامتثال للدور السياسي هذا يقيد الجيش، وقائده الرئيس العتيد، بقيود من صنف القيود السورية على شبه الدولة التي بنتها «قوات الردع» واستطلاعها في أثناء أعوام الاستيلاء («الوصاية»). فالدولة التي تولت السياسة السورية «رعاية» انبعاثها، حرصت على إنشائها على نحو يجمع صورة الدولة السوية والمتعارفة، بانتخاباتها الدورية وهيئاتها ومداولاتها وبشطر على الأقل من المنازعات العلنية والحريات، الى الدولة المقيدة السيادة الخارجية والداخلية بأسر وصاية ومراقبة شديدتين ومتعنتتين. فكانت الانتخابات معروفة النتائج سلفاً الى حد بعيد.
وكان الوزراء يعينون ويسمون على مقادير معلومة، والقرارات متوقعة ومرسومة… وكان الخطأ «ممنوعاً»، وسوء الفهم باهظ التكلفة، وجزاؤه مميتاً. ولكن الحرص على «شكليات» الدولة الخارجية كان شديداً. فلا ينبغي محاسبة سلطة الانتداب (الذاتي) على ما يرتكب على أراضي الدولة المستتبعة والملحقة. وعلاج هذا هو تجويف الدولة الشقيقة من قواها السياسية الفاعلة، وإماتة هذه القوى وقصرها، هي والهيئات، على أدوارها المسرحية والتمثيلية.
ولعل هذا ما حصل مع الجيش وقائده منذ تنسم ترشيحه الى رئاسة الجمهورية، على مثال الحروب الملبننة والطويلة في النصف الثاني من العقد الثامن وطوال العقد التاسع من القرن الماضي. فإذا لم يكن بد من انتخاب عماد القوات المسلحة الوطنية، على مضض ظاهر وربما باطن، الى الرئاسة الأولى، فالأحرى ان يبلغ السدَّة، الثانوية نسبياً، بعد ابتلائه وامتحانه، وألا يبقى من دور قواته إلا الدور الاستعراضي. وهذا درس «كبير» تعلمته السياسة السورية، ومن بعدها السياسة الإيرانية، من سابقة «المقاومة الفلسطينية» بلبنان، وقبله بالأردن. ويفيد الدرس هذا ان تخفف القوة الأهلية المسلحة، مهما بلغت قوتها وفاعليتها، من ثوب الدولة، واطراحها إياه لتبدو عارية في جلد «دولة مارقة»، يعرض القوة الأهلية للتدمير، ويبيح للأعداء حربها من غير اعتبار قوانين الحرب. وعلى هذا، فـ «حزب الله» لا يزال محتاجاً الى دولة لبنانية شكلية و «دستورية». وهذا من دروس حرب 2006 الطازجة.
وترئيس ميشال سليمان، في أعقاب إقامته الطويلة، والجيش معه، في «مطهر» الاغتيالات وحفظ الأمن والحياد بين «المتقاتلين»، لا يخرج عن سنن مختبرة.
* كاتب لبناني.
الحياة
سلسلة حوادث طويلة خيّرت الجيش بين أولى مهماته الوطنية الداخلية وبين الانهيار العاجل
وصف دقيق لما حصل وسيحصل في القادم من الايام حيث تحول لبنان او هو في طريقه الى ان يصبح دولة اصولية طائفية على الطريقة الفارسية بتوطيء من النظام السوري لاكن احيانا ينقلب السحر على الساحر.