خاص بـ”الشفّاف”
في ١٥ ديسمبر ٢٠١٢، سقطت “كلية المشاة” في شمال حلب بأيدي الجيش السوري الحر. في ما يلي شهادات الناجين من الحصار، وهم ضباط علويون وجنود من السنّة. كاتبة هذا التقرير هي الصحفية الفرنسية “فلورنس أوبنا” (الرهينة السابقة في العراق في العام ٢٠٠٥).
*
اصطف الرجال، بوقفة تأهّب، في ساحة الشرف: ٦٧ ضابطاً بالأزياء العسكرية الخاصة بالمناسبات الرسمية، و٣٥٠ تلميذ ضابط، و١٠٠ جندي يخدمون في القاعدة. إن “كلية المشاة” التي تقع على بُعد كيلومترات من شمال حلب هي أهم الكليات الحربية في سوريا، وقد تدرّبت فيها كل قوات النخبة في النظام السوري، وأعلى الضباط في المؤسسة العسكرية، بما فيهم بشّار الأسد نفسه حينما كان والده حاكماً لسوريا. وكان بوسع تلاميذ الضباط أن يشتروا صورة بشّار وهو يدرس العلوم العسكرية في كلية المشاة نفسها حيث أتيحت لهم فرصة الدراسة. فالدراسة في “كلية المشاة” تعني أنك أصبحت “بطلاً”!
ولكن يوم ٢٣ نوفمبر ٢٠١٢ لم يكن مخصّصا لتوزيع الأوسمة في ساحة الشرف: فأثناء الليل، بدأ الجيش السوري الحر حصاره للكلية. وتمثل الكلية، مع “قلعة حلب”، إضافة إلى مطارين، آخر الحلقات الإستراتيجية التي كانت القوات الموالية تسيطر عليها في منطقة الشمال التي باتت كلها في قبضة الثوار، ابتداءً من الحدود التركية وحتى نصف مدينة حلب. وقد استرعى حصار كلية المشاة إنتباه المراقبين الدوليين على الفور: فالكلية يمكن أن تكون بين المواقع التي يخزّن فيها النظام أسلحته الكيمائية، مثلها مثل قاعدة الأبحاث والتسليح التابعة لسلاح الطيران، مركز أجهزة الإستخبارات المخيفة في المحافظة.
“لن يطأ الإرهابيون أرض كلية المشاة“، قال مدير الكلية للرجال الذين أدّوا له التحية. “إن واجبنا هو أن نقاوم، والقوات الخاصة التابعة للرئيس باتت في الطريق لتنظيف المنطقة ولدعمنا”. وأعقبت خطابه صيحات “بشار هو ربّنا”!
ولكن الثوّار استولوا على كلية المشاة بعد أقل من شهر. وفي الأيام الأخيرة التي سبقت سقوطها تحوّلت الكلية المحاصرة من أحد الرموز المجيدة للنظام إلى رمز من نوع آخر: رمز لتعفّن نظام الأسد.
حينما بدأ الحصار، كان التلميذ الضابط “علي الحسن”، يتابع دروسه في الكية منذ بضعة أشهر. وكان قبل ذلك قد درس المعلوماتية وعاش حياة سعيدة وعادية في حي راقٍ من أحياء دمشق يعيش بعيداً عن القتال الدائر في أرجاء سوريا. حقاً أن التلفزيون الرسمي كان يتحدث أحياناً عن “الإرهاب”. ولكن، أليست هذه الأزمة الجديدة مجرّد واحدة من الأزمات الصغيرة التي سرعان ما يتغلّب عليها النظام بسهولة؟ وقبل رحيله من دمشق إلى حلب تمنّى له أصدقاؤه “إقامة سعيدة في “فندق هيلتون” الجيش”!
ولكن “علي الحسن” وجد نفسه في مكان بات بدون كهرباء، وبدون ماء، على غرار المنطقة كلها، منذ اقتراب الثوار من مدينة حلب أثناء الصيف. وتم تعليق الدروس العسكرية كلها، وكذلك النشاطات الرياضية. وبات تلاميذ الضباط يتناوبون على الخدمة في قاعة
الحراسة، بملابس القتال، ٢٤ ساعة على ٢٤ ساعة. وكان تلاميذ الضباط يحلمون بوجبات “السباغيتي” التي سيلتهمونها أثناء إجازاتهم. أو يحلمون بصديقاتهم. ومن جهته، كانت خطيبة “علي الحسن” من الطائفة العلوية مع أنه هو من “السنّة”. ولمَ لا؟ حقاً أن البعض يتهامس بأن العلويين يملكون “واسطات” أعلى في كلية المشاة. ولكن “علي” لم يكن يبالي بتلك الشائعات. كما لم يُعِر اهتماماً لتعليقات الجنود، من نوع أن العلويين يحظون بخدمة أفضل في صالة الطعام، أو أن السنّة يتعرضون لعقوبات أقسى.
سنّة وعلويون..
على مستوى قيادة الكلية، بات بعض الضباط يشعرون بأن النزاع الدائر بدأ يؤثّر سلباً، وبالتدريج، في العلاقات بين الطائفتين. في ربيع ٢٠١١، كانت القرى والمدن السنّية مسرحا المظاهرات السلمية والقمع الدموي الذي تعرّضت له. وكان بعض العسكريين يعرف حقيقة الوضع بفضل علاقاتهم العائلية. وبدأت عمليات الفرار من الجيش حتى في “كلية المشاة” نفسها. ولم يكن هنالك أي علوي بين المنشقّين، فجميعهم من السنّة. وكان قائد الكلية يُطلق على المنشقين نعت “الخونة”. وفي صالة الطعام، كان الضباط العلويون يبدون سعادتهم بانشقاق السنّة: “إلى الجحيم، الآن بات بوسعنا أن نقاتل وجهاً لوجه. الأمور باتت أوضح الآن”. في العلن، لم تكن هذه المسائل موضع نقاش. ولكن الناس بدأوا، بصورة غير واعية، بالتكتّل في ما بينهم على أساس طائفي. ويقول أحد الضباط أن “العلاقات باتت أقل طبيعية بصورة متزايدة”.
حينما تمركز الثوار في حلب، في سبتمبر ٢٠١٢، تم إبعاد الضباط السنّة في “كلية المشاة” عن القطاعات الأكثر حيوية، وهي الأسلحة والطعام. وتم فصل المكاتب وحجرات النوم، فاحتل العلويون المكاتب والغرف الواقعة تحت أشجار الصنوبر، على مقربة من مخازن الذخيرة، في حين تم إبعاد “السنّة” إلى الطرف الآخر للقاعدة. وفي اليوم الأول للحصار، كان الخط الدفاعي الأول، على أسوار القاعدة” مؤلّفاً من السنّة وحدهم. وبعدهم مباشرة، في الخيم، تم حشد تلاميذ الضباط، وهم أيضاً من السنّة. أما خط الدفاع الثالث فكان يضمّ العلويين وحدهم. أصحاب “الواسطات”، ألحقوا بالخدمة في مقر قيادة الأركان الآمن. وأعطي للجميع أمر واحد فقط: “أطلقوا النار على كل شيء، الثوار والفارين. كل من يترك مركزه ستتم ملاحقته حتى الموت”.
بعد أسبوع، في ١ ديسمبر، ٢٠١٢، قام الجيش الحر بأول هجوم على الكلية، بقذائف الهاون. وعدا قيمتها الإستراتيجية، فإن كلية المشاة كانت تملك ميزة أخرى في نظر الجيش الحر: وهي الأسلحة الموجودة فيها، والتي تمثّل المشكلة الأساسية لهذا الجيش منذ بداياته. فهو يعاني من نقص الأموال لشراء السلاح، وكذلك من قلة الأسلحة المعروضة للبيع من جانب المهرّبين الذين يخضعون لمراقبة شديدة من المجتمع الدولي. ويصل سعر “الكلاشينكوف” المستعمل في حب إلى ٥٠٠ دولار مقابل ٢٠٠ دولار في مدن أخرى. وبناءً عليه، بات الإستيلاء على معدات النظام أحد أفضل الطرق للحصول على السلاح والذخيرة. وقبل الحصار بثلاثة أشهر، أحد ضباط قيادة كلية المشاة ببيع ٢٠ ألف طلقة “كلاشينكوف” بـ٣ دولارات للطلقة الواحدة. أي بضعف سعر السوق. وكان المشتري أحد مقاتلي “لواء التوحيد”- وهو الكتيبة الرئيسية في الشمال السوري وتضم ١٠ آلاف مقاتل من أهل المنطقة- الذي كان يحاصر “كلية المشاة”. ويقول أحد الثوار: “كانت فكرتنا أن نقتلهم برصاصاتهم نفسها، قبل أن نحصل على طلقات أخرى مجاناً هذه المرة”.
بانتظار النجدة من “القوات الخاصة”
داخل حرم الكلية، بدأت قذائف الهاون تتساقط على خطوط الدفاع، وعلى الفور، بدأ الجنود يفرّون من مراكزهم للإختباء في مباني القيادة العليا. ويقول “علي حسن” الآن: “كنا نعتقد أن القوات الخاصة في طريقها إلينا، ولم نكن نرغب في أن تنسانا”. والمدهش أن الذين فرّوا من مواقعهم الدفاعية قد استقبلوا أحسن استقبال. ويقول تلميذ ضابط آخر: “عندها فهمنا أن كبار الضباط كانوا بدورهم يشعرون بالخوف”. الخوف من أن يهرب الجنود ويتركونهم وحدهم لمصيرهم المحتوم. أو الخوف من أن يبقى الجنود ليقوموا بذبح ضباطهم. والخوف من كل شيء. وقام قائد القاعدة بطمأنة الجميع بنفسه: “لقد أنجزت القوات الخاصة مهمة تنظيف مدينة حلب. باتت حلب محررة، وهم في طريقهم إلينا”.
وقد هلّل الجنود وبدأوا بالعناق. ولكن، في الواقع، كانت القواعد الموالية للنظام ما تزال بانتظار الفرقتين الأفضل تدريباً، وهما الثالثة والرابعة، من أجل استعادة حلب. وفي تلك الأثناء، كانت أعمال العنف قد امتدت إلى دمشق، ولم يعد مسموحاً بخروج أي جندي من العاصمة.
في “كلية المشاة”، تم استخدام البولدوزر لدفن قتلى الهجوم الأولى، كل خمسة قتلى في حفرة. وكل ليلة، كانت عمليات الفرار تتزايد. وبدأ الجنود يحرقون الأبواب والشبابيك لتدفئة أنفسهم في الخطوط الدفاعية. وقال لهم أحد الضباط متوسلاً: “إفعلوا ما تشاؤون، لكن ابقوا. وإلا، فإن “القاعدة” ستذبحكم”. ونفذت المؤن. وبسبب رمايات الثوار عليها، فقد رمت الهليكوبتر المكلّفة بتموين القاعدة بمؤنها خارج الأسوار. واتصل قائد القاعدة بطيار الهليكوبتر باللاسلكي ليشتمه، فرد عليه الأخير ضاحكاً: “هل أنت جائع؟ ليست مشكلتي، … أمّك”! في هذه الأثناء، كان الجنود الباقون يأكلون ما تطاله أيديهم، حتى الأعشاب، ويشربون من ماء المطر.
قاتلا حتى الموت وهما ينشدان لبشّار
وكانت القاعدة في مرمى قناصة الثوار بصورة متواصلة. ولم يعد أحد يتحرك. وكانوا يختبئون في جماعة تضم شخصين، أو ثلاثة أحياناً، وكل منهم يشعر بالريبة تجاه الآخرين. ولم تكن تلك الأشباح تتحرك إلا في الليل. وكانت وجهتهم دائماً هي المطابخ، بأمل العثور على ما يؤكل. “كنا مثل الكلاب الجائعة، وبدأنا نطلق النار على بعضنا البعض من أجل بعض الأرز. وملأ الحقد قلوبنا”. وبين الفارّين، والقتلى، والجرحى، لم يبقَ سوى مئة عسكري في القاعدة. وكان “أوجين”، وهو ضابط مسيحي، مع تلميذين علويّين. ويقول “كان كل واحد منهما يحمل طلقتين في جيبه، حتى لا يؤسر حيّاً. وقد قاتلا حتى الموت، وهما ينشدان لبشار الأسد”.
صبيحة ١٥ ديسمبر، وفي اللحظات الأولى للفجر، استيقظ سائق قائد الكلية والجندي المكلّف بخدمته في مبنى الأركان ليجدا السريرين القريبين فارغين. لقد فرّ قائد الكلية ومساعده أثناء نومهما. ويعلّق الجندي العلوي، وهو طويل القامة شعره أشقر وعيناه زرقاوان: “فهمنا أنها كانت النهاية”. في المستوصف، كان خمسون مريضاً ينامون على الأرض. وكانوا قد عاشوا على الماء المحلى بالسكّر منذ عشرة ايام، وظلوا بدون علاج منذ فرار الأطباء الثلاثة الموجودين في القاعدة. ودخل عليهم أحد الضباط صارخاً: “الذين يستطيعون النهوض، عليهم أن يفرّوا الآن”. ولكن أحداً منهم لم يكن قادراً على الوقوف على قدميه. فخرج الضابط ومعه شخص واحد هو إبن عمّه. وفي غرفة أخرى، أبعد قليلاً، توسّل جرحى آخرون كي لا يتم التخلي عنهم. ولكن “ضابطاً كبيراً التفت إليهم وصرخ بهم “لقد تخلّوا عنا”! ثم أطلق رشقة من رشاشه على جميع الموجودين، حسب شهادة جندي علوي. ويقول هذا الجندي العلوي الذي يقوم الثوار بعلاجه الآن:” شعرت أن النظام انهار أمام بصري”.
في الممر الرئيسي، اعتلت مجموعة صغيرة من الضباط ٣ دبابات ومدرعتين صغيرتين روسيتين. وكانوا ينوون الخروج بالقوة من الباب الرئيسي للإلتحاق بسجن حلب، الواقع على بعد ١٠ كلم، وكان في حينه ما زال بأيدي الموالين. وحيث أن المركبات لم تكن تتّسع للجميع، فقد اشتبكوا بالرصاص ووقع منهم ٣ قتلى. وانطلقت القافلة فعلا، ووصلت إلى هدفها. ولكن الثوار دخلوا القاعدة، وهرولوا إلى مخزن السلاح حيث لم يعثروا على أي سلاح كيميائي.
“البربرية”: انتقام من جندي “علوي” أسير!
في “مارع حور”، وهي بلدة تبعد ١٥ كيلومتراً، تتوقف سيارة تاكسي في الشارع الرئيسي. في صندوقها، يوجد جندي علوي. وكانت عائلة تجّار من المدينة قد ذهبت لأسره حيّاً بعد انتهاء المعركة، بعد أن علمت بسقوط القاعدة. ويقترب أحد أبناء العم من التاكسي، ويطلق رشقاً على صندوق السيارة. ثم قاموا باستخراج الجندي العلوي المدمّى، وكان يرتدي زيه العسكري. وكان يصرخ. ولكن آخر من أبناء العمومة قتله برصاصة واحدة وهو يصبح “الله وأكبر”. ثم قامت العائلة بالتقاط صور لأفرادها حول الجثة، بواسطة هاتف محمول. وكان أحد أبناء العائلة قد قتل أثناء المعركة على يد قنّاص علوي. “لقد أخذنا بثأرنا”.
في “كلية المشاة”، قُتِل أكثر من ١٥٠ عسكرياً، وتم أسر ٧٠ آخرين، وفرّ ٢٥٠ أثناء القتال، بقي قسم منهم في المنطقة. وهم مصدر هذه الشهادة عن سقوط “كلية المشاة”.
المصدر:
http://www.lemonde.fr/international/article/2013/01/04/la-chute-d-al-mouchat_1813004_3210.html?xtmc=florence_aubenas&xtcr=2