يعتبر الفشل الأوروبي والغربي في حل النزاع السوري من المؤشرات على زمن الاضطراب الإستراتيجي، وتراجع باريس ولندن في المشرق.
تهكم هنري كيسنجر (وزير الخارجية الأميركي الأسبق) يوما وطرح سؤاله الشهير “ما هو رقم هاتف أوروبا؟”، وكان في ذلك يشير إلى عدم وجود مرجعية أو سياسة خارجية مشتركة وفعالة للمجموعة الأوروبية آنذاك. وعشية حرب العراق في العام 2003، غمز وزير أميركي آخر هو دونالد رامسفيلد ساخرا من قناة “أوروبا العجوز”.
لا يأتي هذا “الاستعلاء الأميركي” عن عبث، إذ لا يزال الاتحاد الأوروبي لاعبا سياسيا دوليا متواضعا بالقياس مع حجمه التجاري والاقتصادي الكبير. وبالرغم من إيجاد منصب رئيس ووزير خارجية في إصلاحات هدفت إلى تعزيز المؤسسات الأوروبية، إلا أن غالبية دول الاتحاد لا تنخرط في بلورة سياسة خارجية نشطة لاستباق النزاعات ومواجهتها، مما لا يتيح إذن الرد على تحدي كيسنجر مع بروز الفشل الكبير في مواجهة أزمة اللاجئين والمهاجرين، أو في مقاربة الحالة السورية بشكل عام.
في السياق التاريخي المعاصر لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، فشل الاتحاد الأوروبي في مواجهة حروب البلقان في أواخر القرن الماضي واحتاج إلى المشاركة الأميركية الفعالة، وفي الأزمة الأوكرانية بدا جليا عدم قدرته على احتواء ردة فعل موسكو.
وفي قضايا الشرق الأوسط سجل الاتحاد الأوروبي حضوره كشريك ثانوي في المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، لكنه لا يزال غائبا، بشكل صارخ، عن دائرة الفعل في ملف النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي. وفي الإجمال لم يكن يملك أي إستراتيجية أو خطة في مواجهة التحولات في جنوب المتوسط والنزاعات الملتهبة من ليبيا إلى سوريا، وما يرتبط بها من الحرب ضد الإرهاب، إلى معضلة اللجوء التي كشفت خللا في العمل المؤسساتي الأوروبي، ووضعت شعارات منظومة القيم الأوروبية على المحك.
من بروكسيل إلى ستراسبورغ تكثر الخطابات وصياغة التقارير والتوصيات إزاء هذه الأزمة أو تلك، لكن في ميزان الحركة الدبلوماسية والعسكرية ومعطيات النفوذ، يمكن الاكتفاء بمراقبة وتقييم أدوار فرنسا وبريطانيا وألمانيا لتكوين نظرة عن الانكشاف أو العجز الأوروبي إزاء النزاع السوري في ديناميكياته وتداعياته.
بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران بنت العواصم الأوروبية الثلاث تصورها لبدء مسار حل الأزمة السورية من خلال إشراك طهران في صياغة تسوية واقعية لما يسمّى الحل السياسي. ومن جهة أخرى برز خلال اجتماع سفراء فرنسا في الخارج، نهاية أغسطس الماضي، إدراك لعدم جدوى المقاربة القائمة على المساواة في رفض بشار الأسد وتنظيم داعش، وصدر القرار بالقيام بغارات ضد تنظيم الدولة في سوريا خلافا لاستنكاف في 2014 جرى تبريره حينها بالمخافة من استفادة النظام منه، وهكذا بينما كان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بصدد مراجعة نهجه، وكان البعض في أوروبا غارقا في أزمة اللاجئين، والبعض الآخر (النمسا وأسبانيا وغيرها) يدعو إلى إعادة تأهيل الأسد، وفيما كان الرئيس الأميركي باراك أوباما متحفظا على أي مراجعة لأدائه السوري، كان فلاديمير بوتين متأهبا واتخذ قراره بالتحكم في الملف السوري. إزاء الاندفاع القيصري المتجدد، تبدو الأجوبة الأوروبية عالية النبرة سياسيا، وعاجزة عمليا في غياب أي إستراتيجية منسقة مع واشنطن.
وصل الأمر بالرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند حد التحذير من “حرب شاملة” في سوريا في حال لم تتحرك أوروبا لمواجهة الوضع في المنطقة” وتابع “إذا سمحنا بتفاقم المواجهات الدينية، بين الشيعة والسنة، لا تظنوا أننا سنكون بمنأى عنها. ستكون هناك حرب شاملة يمكن أن تطال أراضينا بالذات”.
من جهته، أعرب رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، عن أسفه لأن “روسيا لا تميز بين تنظيم الدولة الإسلامية ومجموعات المعارضة السورية المشروعة. وعليه فهي تساعد الأسد السفاح وتزيد من تعقيد الوضع”. أما المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل فقد أكدت أن ثمة حاجة ملحة لتفعيل دور أوروبا. ومن هذا المنطلق أشارت إلى أنه “يتعين تهيئة سياسة خارجية وتنموية أقوى لحل النزاعات ومكافحة أسباب اللجوء”. ووصفت ميركل أزمة اللجوء بأنها “اختبار ذو بعد تاريخي”. وأشارت إلى أنه لا يمكن فصل قارة أوروبا عن الأحداث العالمية.
في مواجهة الجوار الملتهب للقارة القديمة، لا يكفي توصيف هؤلاء القادة للواقع الخطر، لأن هناك من يدفع الأثمان نتيجة بطء أوروبا في فهم عواقب الكوارث التي يشهدها الشرق الأوسط أو أفريقيا. ومما لا شك فيه يعتبر الفشل الأوروبي والغربي في حل النزاع السوري من المؤشرات على زمن الاضطراب الإستراتيجي، وتراجع باريس ولندن في المشرق بالقياس لدورهما في صياغة الحدود عند انهيار الإمبراطورية العثمانية.
لقد فجّرت الحرب السورية كل الحدود، لدرجة أن أوروبا لن تستطيع عزل نفسها وحمايتها من النتائج المترتبة في ملفات اللجوء والإرهاب واحتمال تغيير الخرائط والكيانات. للنزيف في سوريا أسباب عديدة ليست موجودة في أوروبا، لكنَ الأوساط الألمانية المعنية تعترف الآن بارتدادات التباطؤ والإهمال، وتقول إن واشنطن، مع لندن وباريس وبرلين، كانت تمتلك القدرة على إيقاف هذه الحرب، لو أنها فرضت منطقة حظر جوي وتجاوز عدم وجود غطاء من مجلس الأمن الدولي كما “حصل ذلك مرارا”.
لا ينفع تلاوة فعل الندامة فيما يتعلق بحسابات واشنطن (لا أولوية لسوريا وترك أزمتها رهينة حسابات أكبر أبرزها ما يتصل بالتفاوض مع إيران) أو عدم قدرة كل الغرب على إيقاف الحرب قبل أن تتحول إلى حريق هائل، لأن الاندفاعة الروسية خلقت واقعا جديدا وتحديا أكبر لمصداقية واشنطن وما تبقى من هيبة ودور لبعض أوروبا. سترتسم انطلاقا من المشرق ملامح توازنات عالمية جديدة، وبقاء أوروبا خارج دائرة الفعل سيكون له ارتدادات سلبية آنية ومستقبلية.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك باريس
العرب