وصلنا في مقالة الثلاثاء الماضي (الأيام 12 كانون الثاني 2010) إلى إعجاب سعيد بعبد الباري عطوان، وإلى غرامه مع قناة الجزيرة. وكلاهما، في الواقع، يبادله إعجابا بإعجاب وغراما بغرام. فعطوان، مثلا، يذرف الدفع عندما يرى سعيدا وقد تضاعف بمتواليات رياضية إلى مئات وآلاف جاءوا للاستماع إلى كلامه. يقول: “يكفيني حين أذهب إلى مدينة مثل طنجة يحضر من الأشخاص ما يقارب أربعة آلاف شخص، وعندما أذهب إلى تونس يُغلق شارع الحبيب بورقيبة بسبب الناس، الأمر الذي أبكاني ونـزلت دمعتي أمام الملأ، فكتبت جريدة الشروق التونسية وبكى عبد الباري عطوان، كما يسعدني أن أكون في مخيم الوحدات أمام حوالي عشرة آلاف شخص فأغلق المخيم”.
لا نعرف، بالضبط، كيف تمكّن من تعداد الأشخاص في طنجة وعمّان، وما إذا كان الشارع الرئيس في العاصمة التونسية، ومخيم الوحدات في العاصمة الأردنية، قد أُغلقا بالفعل، ولكن من الواضح أن للأرقام دلالة تكرّس مكانة استثنائية، خاصة إذا أضيفت إليها توابل عاطفية من نوع الدموع وقد أصبحت خبرا في جريدة.
أما قناة الجزيرة فإن سر نجاحها، كما ذكر أحد نجومها السابقين يسري فودة، يكمن في اكتشافها لأمر في غاية البساطة. يقول: “فمن الناحية المهنية، لم نضف كثيراً إلى عالم الصحافة التليفزيونية عندما وضعنا مذيعاً في استوديو ومعه ضيف أو اثنان. لكنّ الواقع العربي اكتسب الكثير عندما أضيف إلى الاستوديو عنصر آخر لم يعرفه من قبل، ولم يكن في حاجة إلى ميزانية ولا إلى عبقرية: خط هاتف مفتوح لمن يريد أن يتكلم على الهواء أمام الملايين داخل بلاده وخارجها. لقد كان هذا ببساطة انقلاباً في واقع المواطن العربي”.
ما لم يقله فودة أن الذي كان على الطرف الآخر للخط الهاتفي هو سعيد، الشخص الذي انقلب واقعه، بالفعل، عندما اكتشف أن الكلام في السياسة أبسط مما توّقع قبل عصر الفضائيات والإنترنت. فهو لا يحتاج من ناحية عملية إلى ثروة لغوية، أو ذخيرة معرفية، أو كفاءة عقلية، ناهيك بطبيعة الحال عن التحصيل والتدريب، فما عليه سوى التصرف على سجيته، خاصة وقد أصبح محط اهتمام خاص في زمن الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، والتنافس بين الدولة والمعارضة على الشرعية والتمثيل، ومع هذا وقبله نتيجة رفع الجماهير إلى مرتبة المقدس في زمن مضى، زمن الكفاح ضد الكولونيالية، وبناء الدولة القومية الحديثة، في الحواضر العربية.
وهذه القداسة بالتحديد ـ وهي بلا قيمة في نظر الأصوليين ـ تلقي الغشاوة على أبصار ما لا يحصى من القوميين واليساريين العرب، الذين يستمدون منها مبرر تأييدهم لحركات دينية أصولية يمثل مجرد وجودها نفيا لما يعتنقونه من أفكار (إن كانوا صادقين)، وهي التي تمكنهم، أيضا، من الفصل بين السياسة ومضمونها الاجتماعي، وبالتالي تُختزل مشاكل المجتمعات العربية في صراع مع عدو في الخارج، وعدو يناصره في الداخل، إذا حُسم لصالحنا انتهت مشاكلنا.
للتدليل على مخاطر الاحتكام إلى سجية سعيد نستعيد نكتة من زمن الاتحاد السوفياتي، فقد فازت عاملة في مصنع بلقب بطل الاتحاد السوفياتي، ومن بين المكافآت العديدة دعيت لحضور حفلة موسيقية في موسكو. سأل الرفاق الرفيقة بعد الحفل عن رأيها، فقالت: الموسيقى كانت ممتازة، لكننا لم نتمكن من رؤية العازفين بشكل جيد بسبب الرجل الذي أدار ظهره لنا، وأنفق الوقت في التلويح بيديه.
على أية حال، ما لا يلفت الانتباه، عادة، ويثير حيرة وقلق المؤمنين بأن الجماهير، دائما، على حق، حقيقة أن الجماهير ليست مقولة ثابتة، وسعيد، هذا، ليس الحجر الذي أهمله البناؤون، بل ظاهرة سوسيولوجية جديدة تفسّر ضمن أمور أخرى لماذا لا تشبه جماهير اليوم جماهير الأمس في زمن مضى.
في أواسط القرن العشرين قُدّر عدد العرب بحوالي 76 مليون نسمة، وقد تجاوزوا الآن 300 مليون. أغلب العرب الأحياء اليوم ولدوا بعد العام 1960. ولا يحتاج الأمر إلى عبقرية خاصة لإدراك أن الغالبية العظمى من عرب أواسط القرن الماضي كانوا في مصر والعراق وبلاد الشام وشمال أفريقيا، وأن الحواضر العربية منذ مطلع القرن الماضي كانت حاضنة مشاريع الاستقلال وبناء الدولة الحديثة، وأن طبقاتها الوسطى التي لم تكن مريضة بهويتها ـ وهي صغيرة الحجم لكنها ذات نفوذ واسع بالمعنى الاجتماعي، وقد حصل أغلب ممثليها على تعليم في الغرب ـ كانت الرافعة الاجتماعية لمشاريع الاستقلال، وبناء الدولة.
والواقع أن انهيار مشاريع الاستقلال، ووصول الدولة في الحواضر العربية إلى طريق مسدودة، لا يُفسر بالخلل البنيوي لدى الطبقات الوسطى العربية منذ مطلع القرن العشرين وحتى أواسطه، بل يُفسر بتقليص نفوذها السياسي والثقافي، وإزاحتها من موقع القرار. وهذا مبحث آخر.
المهم، في الدول العربية، الآن، 230 مليون نسمة يعيشون في فقر مدقع، حيث يقل الدخل السنوي للفرد عن 2000 دولار (تهبط بعض الإحصاءات بالرقم إلى 1500 دولار)، وفي بعض البلدان كاليمن، مثلا، وعدد سكانها 21 مليون نسمة (وهذا يساوي تقريبا عدد السكّان الأصليين في السعودية وبلدان الخليج) لا يتجاوز دخل الفرد 300 دولار في العام، بينما تزعم الحكومة أن الرقم يصل إلى 600 دولار. مقابل هؤلاء يصل دخل الفرد في قطر، صاحبة قناة الجزيرة، إلى 28 ألف دولار في العام.
على خلفية هذا التفاوت المذهل في الثروة بين الفقراء والأغنياء، ينبغي تحليل سعيد كظاهرة سوسيولوجية جديدة، زُرعت بذورها الأولى في أواسط القرن الماضي، وتحوّلت إلى ظاهرة سائدة منذ أواسط السبعينيات.
واللافت للنظر أن سيادتها هذه تزامنت مع فوران أيديولوجي غير مسبوق يُسمى في أدبيات الأصولية بالصحوة، التي لم تُنتج حركات راديكالية تمكنت من تقويض بعض الدول، وتهدد البعض الآخر بالمصير نفسه، وتسببت حتى الآن في ما يشبه صداما بين الحضارات، بل أنتجت أيضا مثقفيها العضويين (بتعبير غرامشي الذي غالبا ما يُساء فهمه) وجنود مشاتها من أمثال سعيد. وإلى هؤلاء وأولئك سنعود في مقالة قادمة. المهم الآن أن سعيدا هذا ينبغي أن يوضع في مُختبر، وأن يصبح على الطاولة
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام