هناك الكثير مما يجمع بين الهند وسريلانكا، تاريخيا وجغرافيا وسياسيا واجتماعيا وعرقيا وثقافيا. فالبلدان متجاوران جغرافيا وتتميزان بموقع استراتيجي هام في جنوب آسيا على خطوط التجارة العالمية، ولا يفصلهما سوى معبر بحري ضيق، بل تعد الهند جارة سريلانكا الوحيدة.
كما أنهما صاحبتا ارث استعماري مشترك طويل يمتد من القرن 17 إلى وقت حصولهما على الاستقلال من بريطانيا في تاريخ متزامن تقريبا. إلى ذلك تجمعهما روابط عرقية وثقافية عميقة، حيث دخلت البوذية الى سريلانكا من الهند في القرن الرابع، وكذا الهندوسية التي انتقلت إليها على يد المهاجرين والمزارعين التاميل من جنوب الهند قبل وأثناء فترة الحكم البريطاني. هذا ناهيك عن اشتراكهما في القيم الديمقراطية التي زرعها المستعمر البريطاني وشكلت أساس الدولة بعيد الاستقلال ولا تزال صامدة (مع بعض العثرات في الحالة السريلانكية). إلى ذلك تعد الهند وسريلانكا شريكتان في العديد من المنظمات الإقليمية ذات الأطراف المتعددة مثل رابطة جنوب آسيا للتعاون الاقليمي (سارك) و”الكومنولث البريطاني” و”برنامج البيئة التعاوني لجنوب آسيا” و”الاتحاد الاقتصادي لجنوب آسيا”.
وعلى الرغم من كل هذه المعطيات، فإن علاقاتهما البينية لم تشهد استقرارا ولم تخل من المشاكل والتعقيدات. فسيطرت عليها من وقت إلى آخر الهواجس والشكوك من تلك التي عادة ما تظهر في حالة العلاقة بين دولة عملاقة وأخرى صغيرة مجاورة، خصوصا مع تمسك نيودلهي برؤية مفادها أن سريلانكا تقع ضمن حدود مصالحها الاستراتيجية وبالتالي فإن على الهند أن تضمن سلامتها واستقراراها وتحول دون وقوعها في أيدي أعدائها الاستراتيجيين الذين قد يبنون قواعد عسكرية على حدودها الجنوبية أو يستخدمون أقليتها التاميلية للإضرار بوحدة الهند وأمنها القومي. وقد تجلى ذلك بوضوح في التدخل العسكري الهندي في سريلانكا لمساعدة حكومتها في قمع تمرد نمور التاميل، على الرغم من معارضة التاميل الهنود لذلك، وعلى الرغم من خسارتها لرئيس وزرائها راجيف غاندي اغتيالا ومقتل نحو 1100 من جنودها. كما تجلى بصورة أخرى في الدعم الاقتصادي والعسكري والغذائي والدوائي الهندي الكبير للحكومات السريلانكية المتعاقبة، ولاسيما في فترة جائحة كورونا (زودتها بخمسائة ألف لقاح و150 طنا من الأكسجين وفتحت لها اعتمادا مصرفيا بـ 3.8 مليار دولار لإستيراد الطاقة والسلع الأساسية ووسائل النقل)
حاولت سريلانكا معالجة شكوكها ومخاوفها من جارتها الهندية في أحايين كثيرة باللعب على وتر العداء الهندي ــ الباكستاني المزمن، فوثقت روابطها مع اسلام آباد طلبا للمساعدات العسكرية والاقتصادية، لكن الأخيرة لئن تحمست لذلك فإنها عجزت عن تقديم الدعم المطلوب خشية أو افتقارا. وحينما اتجهت البوصلة السريلانكية إلى خصم الهند الآخر (الصين)، سرعان ما وقعت في فخ الديون الصينية التي انهار معها اقتصادها في أبريل من عام 2022، وخلق لها بالتزامن أكبر أزمة سياسية في تاريخها المعاصر.
تبدو سريلانكا اليوم كالإبن الضال الذي عاد إلى حضن أبيه. وبعبارة أخرى تبدو كما لو أنها استوعبت الدرس، وأدركت أنه من الصعب وهي في حالة شلل وافلاس أن تغامر بمواصلة سياسة الابتعاد عن جارتها الكبيرة أو إغاظتها، ودليلنا هو مسارعة رئيسها الجديد “رانيل ويكريميسينغا” في شهر يوليو المنصرم إلى القيام بزيارة رسمية إلى نيودلهي، حاملا معه أجندة طموحة لتعزيز الشراكة الثنائية على الصعيد الاقتصادي والتي بدأت العام الماضي بقيام الهند بدور حاسم في انقاذ سريلانكا من كبوتها عبر تقديم مساعدات بقيمة 4 مليارات دولار. غير أن هذه الزيارة ليست سوى خطوة اولى في توثيق العلاقات بين البلدين لأن تصفير المشاكل بينهما وإعادة بناء الثقة يتطلب الكثير من الجهد، ولا سيما على صعيد إنهاء الدور الصيني في سريلانكا والنزاعات حول مصايد الأسماك، والمصالحة العرقية، والتجارة الحرة، والاستثمار المشترك بين القطاع الخاص في البلدين والبنكين المركزيين الهندي والسريلانكي، وتحسين الخدمات اللوجستية وخدمات السياحية والنقل البحري والجوي بين موانئهما.
والحقيقة أن الهند تستطيع أن تخدم سريلانكا أكثر من أي بلد آخر اقتصاديا وتجاريا وأمنيا وغذائيا ودوائيا.
فمثلا يمكنها أن تنقذ سريلانكا من أزمة الطاقة التي كانت أحد أسباب إضطراباتها العام الماضي، وذلك عبر بناء خط أنابيب بين البلدين وربط شبكتي الكهرباء فيهما مشابهة لتلك التي تربط الهند ببنغلاديش ونيبال، علما بأن الهند لئن كانت دولة مستوردة للنفط، فإنها تملك صناعة تكرير ومعالجة على مستوى عالمي، كما أنها تنتج كهرباء رخيصة بالإعتماد على الفحم المنتج محليا. كما يمكن لسريلانكا أن تستفيد من البنية التحتية العامة الرقمية في الهند لجهة تقديم الخدمات الحكومية الأساسية رقميا ولجهة تسوية المبادلات التجارية مع الخارج بالروبية. ويمكن للبلدين أن يحققا فوائد مشتركة عبر ابرام صفقة عالية المستوى لتسهيل التكامل في سلاسل التوريد والتجارة والخدمات والاستثمار والتدريب وفق قواعد حديثة واجراءات متحررة من البيروقراطية والقيود الاستثمارية.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي