في فرضيته الدينية حول آلية ظهور الوحي عند نبي الإسلام، أو ما يسميه هو بـ”مكانيزم” الوحي، والذي جاء في بحث له بعنوان “محمد (ص): راوي الرؤى النبوية”**، يطرح المفكر الإيراني الدكتور عبد الكريم سروش ما يمكن أن ينافس التفسير التقليدي بشأن فهم موضوع الوحي. في الفكرة الرئيسية لبحثه يقول سروش بأن للنبي مشاهدات وَحْيَوِيّة وإنه كان “راويا” لتلك الرؤى والمشاهدات. لذلك، يشدّد على الحاجة إلى “نقلة نوعية” وإلى “تغيير في النمط الأساسي في التفكير” من أجل فهم هذا “المكانيزم”، أو بعبارة أخرى، من أجل العبور من التفسير التقليدي للقرآن إلى التفسير الرؤيوي، حيث يستند في طرح تلك النقلة وفي تغيير ذلك النمط إلى بعض الاعتبارات، منها تأكيده على أن علم اكتشاف ظاهرة الوحي والرؤيا ليس له علاقة بعلم الكلام الديني، بل وفق فرضيته هو مسعى لطرح شرح جديد للظاهرة، شرح لا علاقة له بتفسير حقيقة نبوة نبي الإسلام أو بتفسير حقيقة الوحي، إنما شرح يوضّح آلية وجود ظاهرة الوحي (المكانيزم) ويركّز على لغة تلك الظاهرة التي يعتقد بأنها لغة أحلام ورؤى لا لغة استيقاظ.
يشرح سروش ذلك بالقول بأن سياق الوحي هو سياق المنام، والذي يختلف عن سياق الاستيقاظ، لذا يحتاج سياق الوحي في المنام إلى مفسّر مثلما جميع الرؤى في المنام تحتاج إلى مفسّر. ويضيف متسائلا: ألم يشرح النبي محمد لأصحابه ما كان يجرى له من فقدان للوعي أثناء استقبال الوحي؟ ألم يكن يرى الملائكة في خياله ويتحدث عن أجنحتها الكبيرة التي تصل إلى ستمائة جناح لكل ملك؟ ألم يكن النبي موسى يسمع عبارة “إني أنا الله” في تلك الصحراء الباردة؟ هل كان معه أحد وسمع تلك العبارة؟ وإذا افترضنا وجود أحد معه، هل كان سيشترك مع النبي موسى في تجربته تلك؟.. ثم يسترسل سروش بالقول بأن هذه التجارب هي تجارب وَحْيَوِيّة، وخاصة وداخلية، ووقعت بصورة مفاجأة، واختلفت جميع ظروفها وحوادثها ومسائلها عن الظروف والحوادث والمسائل التي تحدث في حالة الاستيقاظ، ومن جملة ذلك لغتها. لذا يتساءل: هل التجربة الدينية المتمثّلة برؤية النبي محمد لثمانية من الملائكة وهم يحملون عرش الله على أكتافهم، قد جرت في حياته حينما كان مستيقظا؟ وبالتالي هل يجب اعتبار لغة تلك التجربة لغة استيقاظ؟. ويجيب: بما أن ظاهرة الوحي هي ظاهرة غير تقليدية وتقع خارج إطار الوعي، لذا يجب أن نقر بأن لغتها أيضا لغة غير تقليدية حتى لو كانت تتشابه مع لغتنا.
حسب سروش، يمكن قراءة النص القرآني من جانبين: جانب “عالم الغيب” غير المرئي، وجانب “عالم الشهادة” أو العالم الذي نعيش فيه ونشاهد أحداثه. وحين يتحدّث القرآن عن المسائل غير المرئية (الملائكة، يوم القيامة، الشيطان، الجن، العرش، الميزان و…) يصبح تعبيره فنيّا بحيث من الصعوبة بمكان ألاّ نعتبره رُؤيَوِيّا، بينما حين يتحدث عن المشاهد والأوامر والنواهي، يصبح تعبيره قريبا من عالم الاستيقاظ، لكن الغالبية العظمى من المفسرين آثروا قراءة القرآن انطلاقا من عالم الشهادة، ففُتِنوا بكلمات مثل “قُل” وبالأوامر والنواهي، الأمر الذي أدى بهم إلى أن يلوّنوا عالم الغيب بألوان عالم الشهادة ويحوّلوا لغة الصورة إلى لغة التشريع، ما هيمن ذلك على جميع أحكامهم. وعليه يصل سروش إلى النتيجة التالية: بما أنّ للقرآن لغة واحدة، هي إمّا لغة منام أو لغة استيقاظ، وانطلاقا من أن سياق الوحي هو سياق رُؤْيَوِي، لذا يجب ألاّ نتردّد في القول بأن لغة القرآن هي لغة رُؤْيَوِيّة.
يوضّح سروش بأن فرضية اعتبار الوحي رؤيا تعزّز الموقف الوحيوي. أي أنّ الأنبياء – في ظل فرضية الرؤى النبوية – ليسوا إلاّ أبطال عالم الخيال. وهو ما يخالف رؤية المفسرين التقليديين من أن الوحي هو ما كان “يسمعه” النبي، في حين تركّز الفرضية على أنّ الوحي ليس إلا ما كان “يشاهده” النبي، بمعنى أن النبي لم يكن يسمع من الوحي أخبار يوم القيامة بل كان يشاهد أحداث يوم القيامة خلال رؤيا وحْيَوِيّة.
وكشاهد على ذلك، يعرّج سروش نحو تاريخ الأنبياء، فيقول بأن هذا التاريخ تكرّر في رؤى نبي الإسلام، أي أن النبي محمد شاهد الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى وأقوامهم في منامه، رأى كيف دعا نوح قومه لفترة 950عام، رأى كيف تحولت مجموعة من اليهود إلى خنازير وقردة بسبب عصيانهم، رأى كيف أن عيسى لم يصلب بل هناك شخص آخر غيره كان على الصليب، رأى كيف شقّ موسى نهر النيل، رأى كيف غرق فرعون في البحر، رأى كيف بنى ذو القرنين سدّا وكيف رفع الله إدريس إلى السماء. جميع تلك الأحداث كانت رؤى للنبي محمد شاهدها في منامه ورواها لأصحابه، وهي – حسب سروش – لا وجود لها في التاريخ. لذا يتساءل سروش: هل القردة والخنازير التي رآها النبي محمد في منامه هي نفسها الموجودة في حياة الاستيقاظ؟ ألا يجب أن نفسّر حادثة عودة عزير إلى الحياة التي رآها النبي محمد في منامه بصورة رُؤْيَوِيّة؟ هل رؤية حادثة انشقاق البحر في المنام ستتكرر في الاستيقاظ؟.. فكل تلك الأحداث التي رآها وشاهدها النبي محمد في المنام تحتاج إلى مفسّر للمنام، أو أنها – حسب سروش – ستسقط في وحل التفسير المتكلّف الخادش لحقيقة رسالة النبي محمد، فالنبي في رؤاه كان انعكاسا لشخصية بقية الأنبياء، فـ”تارة يصبح آدم وتارة أخرى إبراهيم وتارة ثالثة موسى وهكذا”.
بل حسب سروش، فإن جبريل هو نفسه النبي محمد، لكنه يظهر في رؤيا النبي على هيئة مَلَك من الملائكة و”يقدّم للنبي كل ما كان النبي نفسه يمتلكه”. أي أن النبي “فسّر” وجود جبريل. وفي القرآن “نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين” (سورة الشعراء، الآية 192 حتى 194). وهنا وحسب فرضية الرؤى النبوية ولغتها لا يوجد شخصان (النبي وجبريل) بل شخص واحد “يسير من نفسه إلى نفسه، ويتحدث مع نفسه”، وإلاّ – وفق تساؤل سروش – ما علاقة جبريل باللغة العربية؟ فالمسألة كلها ليست إلا صورة بانورامية رُؤْيَوِيّة قرآنية إن صح التعبير. بل أكثر من ذلك، فقد وضع النبي محمد نفسه في “موقع الله”، وأدلة ذلك الآيات التي تبدأ بـ”إنّا أنزلناه” و”قل“.
يشير سروش إلى موضوع آخر مهم في تأكيده لفرضية الرؤى النبوية. يتساءل عن سبب عدم وجود ترتيب محكم ورابط قوي بين بدايات آيات سور بالقرآن ووسطها ونهاياتها، في إشارة إلى ارتباك العلاقة بين الآيات والتفكيك فيما بينها مما يترتب على ذلك تداخل الآيات بعضها ببعض ودمج القصص والمسائل الفقهية والأمور الأخلاقية والقضايا الغيبية وغير الغيبية مع بعضها البعض، وهو ما يُصعّب مهمّة التفسير على المُفسّر التقليدي. فقد لجأ بعض المفسّرين، كالإمام جلال الدين السيوطي (1445م – 1505م)، إلى تبنّي التفسير المُتكلّف في مسعى للخروج من هذا المأزق. فيما اعتبر البعض الآخر، كالشيخ المفيد، المتكلّم الشيعي في القرن الرابع الهجري (948م – 1022م)، أن موضوع الارتباك هو مجرّد “زعم يردّده المعارضون للقرآن”. في حين قَبِلَ غالبية المفسرين القرآن كما هو، وأشاروا إلى وجود حديث للنبي محمد في أنه هو الذي حدّد مكان وموقع كل آية داخل كل سورة.
يعتقد سروش بأن هذا الارتباك والتفكيك في العلاقة بين الآيات، لم يأت بسبب تدخّل أعداء الدين في كتابة آيات القرآن أو بسبب غفلة أولئك الذين دوّنوا وجمعوا الآيات أو بسبب أمور أخرى غيبية، إنما بسبب طبيعة الرؤى النبوية الوحيوية، والتي تكون عادة خارج إطار أي تنظيم دقيق وبعيدة عن أي سيناريو محكم ومنظّم، مثلها مثل أي رؤى وأحلام أخرى. فالأحلام تفتقد أي انسجام بين صورها ومشاهدها. وحين العودة إلى آيات القرآن، سيلاحظ القارئ أن الراوي ينقطع بصورة مفاجئة عن سرد بعض الأحداث والوقائع وكأنما لا يستطيع أن يكمل الموضوع، أو أنه يرى بعض المشاهد والأحداث التي لا يمكن أن يراها أثناء الاستيقاظ، وهو سيناريو طبيعي في الأحلام، والذي تنقطع فيه الصورة فجأة ويقفز الحلم من مشهد معين إلى مشهد آخر مغاير تماما. لذا، في إطار حديثه عن الغزوات والحروب التي خاضها، كانت روايات النبي محمد حول رؤاه مليئة بالمزج بين الواقع والخيال وبين مشاهداته الرُؤْيَوِيّة والاستيقاظ، تحدّث عن قيام آلاف الملائكة بمساعدة جيش المسلمين في حروبهم وغزواتهم، وشاهد الشيطان وهو يحض الكفار على القتال. بعبارة أخرى، لا يمكن للغة النبي محمد وهو يتحدث عن مرحلة الحروب في عصره، كما يؤكد سروش، أن تكون لغة مؤرّخين، لأنه كان يشاهد أحداثها ويدوّن تفاصيلها في ذاكرته بصورة مغايرة عمّا يشاهده ويدوّنه المستيقظون، فلغته كانت لغة رؤى وأحلام ممزوجة بلغة الواقع والاستيقاظ.
fakher_alsultan@hotmail.com
*كاتب وباحث من الكويت
**بحث فرضية “الرؤى النبوية” كُتب باللغة الفارسية، ويوجد في الموقع الرسمي الالكتروني للدكتور عبدالكريم سروش www.drsoroush.com