لم تحزم حقائبها للسفر، ولم تودع أحباءها، لغياب قصير أو قد يطول. ولم تلق، قبل مغادرة المنزل، نظرة أخيرة على غرفتها وكتبها وثيابها وسريرها، ولم تقل وداعا، بل قالت بصوتها المألوف، الوديع واليومي: إلى اللقاء.
لم يعتقد أحد من ذويها: أمها وشقيقتها وشقيقها وأسرتيهما، أنها تعيش ساعاتها الأخيرة. كانت مكبة خلال أيام عديدة على عملها، ومتابعة أخبار معتقلي إعلان بيروت/ دمشق، دمشق/ بيروت، وقصقصة ما يكتب عنهم من أنباء في الصحف، وكانت تلقي نظرة إلى صور بعضهم، المعلقة في غرفتها، والتي كتبت تحتها كلمات عن الحرية، ومن ينشغل بالحرية، يكره، كما تعلمون، الموت ويبعده عن طريقه، إلا إذا كان في سبيلها، موتا في ساحة قتال دفاعا عن حرية وطن، أو في سجن صيانة لحرية إنسان. وهي لم تكن في ساحة قتال أو في سجن، مع أنها شاطرت سجناء الحرية قيمهم، وعانت معهم قسوة الظلم وفظاعة الطغيان، وتحسست فداحة سلب حقوقهم.
كنت، في سجن عدرا، أتابع الكثير الذي تفعله لأجلي وأجل غيري من سجناء الرأي. وكنت فخورا بها، رغم اقتناعي بأن ابنة ياسين الحافظ لا تستطيع أن تكون غير ما هي: نصيرة للحرية ومدافعة عن حقوق الإنسان، أكانت تعرفه أم لا تعرفه. والحقيقة أنني كنت أستمد الكثير من القوة والشجاعة منها، ومن الذين على شاكلتها، فالسجين يعاني الأمرين ويشك في عدالة قضيته، إن أحس أنه بلا سند، وأن قضيته لا تثير اهتمام أحد، خارج السجن وداخله. أنا كنت واثقا من وقوفها معنا، من انشغالها بنا، وكنت أحس بابتسامتها المطمئنة تحوم كفراشة حولنا، فكان هذا يبعث في الاقتناع بأنني لست فردا معزولا في مكان سري وناء، وأن هناك من يتعاطف معي ويخفف عني وطأة العذاب.
قبل السجن، كنت أحل دوماً، خلال زياراتي الكثيرة والمتكررة إلى بيروت، ضيفا على آل الحافظ في لبنان: سلوى ورغدة وهيثم. ولأن رغدة كانت مهتمة بأمور كثيرة، فقد كنا نتحاور أحيانا حول مسائل متنوعة. كانت اهتماماتها تشبه اهتماماتي، الموروثة في جزء منها، عن اهتمامات أبيها، ياسين الحافظ وصديقه الياس مرقص، رجلي العقل الرؤيوي، الذي شرّح جوانب من واقع العرب قبل نيف وأربعين عاما، وكشف ما فيها من أعطاب وأعطال، واقترح علاجات لأدواتها لم يتجاوزها أي مفكر عربي إلى يومنا هذا. كانت رغدة، العائدة حديثا من الدراسة في أميركا، تريد استعادة ما توصل إليه والدها وتخطيه، وكنت أشجعها وأبين لها صعوبة ما تعتزم فعله. وكانت تسأل في كل حوار على وجه التقريب، وهي تحدق في صورته المعلقة على جدار إحدى الغرف، عن الياس مرقص، رفيق ياسين، الذي جمعته به صداقة لا حدود لها. أرادت رغدة معرفة ما اتفق وما اختلف عليه الرجلان، وطبيعة العلاقات التي ربطتهما بآصرة الفكر الحر والصراحة، وهل كانا حقا أبرز رائدين يساريين وديموقراطيين في زمانهما، وبماذا تختلف أيامنا عن أيامهما، وكيف نفهم نحن هذا الاختلاف ونعبر عنه؟
أعتقد أن رغدة افتقدتني، بعد عام 2006، كما افتقدتها أنا، بعد هذا التاريخ. وأعتقد أنني كنت قريبا منها، كما كانت هي قريبة مني في عدرا. كانت آخر صورة لها اختزنها خيالي مأخوذة من دمشق. لقد جاءت مع والدتها لزيارتنا، وجلست تلاعب أحفادي وتتضاحك معهم، وقد غطت وجهها سعادة آسرة. هذه الصورة التي لازمتني دوماً، منذ تلك الزيارة، جعلتني مثلها، ثائراً على حياتنا التي تقتل السعادة في صدورنا، وتحشرنا داخل قوالب جامدة وقاسية، تجافي إنسانيتنا وتضعنا تحت رحمة مجتمع يقوض حرية الإنسان، الفردية والشخصية، ويرفض أن يرى فيه مرجعية ذاته، وينكر حقه في العمل الطليق، وارتكاب الأخطاء، ويحول أخطاءه إلى جرائم نكراء. لم تكن رغدة تقبل مجتمعا هذه قيمه، ولم تحب العيش في عالمه المغلق، فقد كانت حرة النفس، حرة العقل، لكن عسر الحياة في بلد يخوض حربين لا يعرف كيف يخرج منهما: واحدة معجلة وأخرى مؤجلة، وقلق العيش في أوضاع تخنق الأمل في الصدور، فضلا عن هزائم العرب وفشل نظمهم في كل أمر إلا الاستبداد والطغيان، أتعبها، مثلما أتعب بالأمس ويتعب اليوم ملايين الناس، وترك نفوسهم الحساسة ومشاعرهم النبيلة تصارع أسئلة حائرة لا يجدون جوابا عليها.
لم تكن رغدة الحافظ ضعيفة، ولم تكن خائفة من زمانها، الذي كانت تعرفه بعقلها المستنير وتفهم الكثير من مداخله ومخارجه. ولم تكن وحيدة أو مستوحشة، بل كان لها أصدقاء وصديقات كثر، كما كانت قادرة على التواصل مع الآخرين، وعلى فهمهم وجعلهم يتفهمونها. أذكر الآن السعادة التي كانت تعلو وجهي ابني شقيقها هيثم، ياسين وناصر، عندما كانت تزورهما، أو كانا يأتيان الى بيروت لزيارة جدتهما. أذكر أسلوبها الحنون والشفاف في التعامل معهما، وطريقتها في الرد على أسئلتهما، وحكاية بعض القصص لهما. لقد كانا يعاملانها وكأنها أمهما، وكانت تعاملهما وكأنهما ابناها.
يبقى شيء أود قوله: رغم كثرة من يموتون حولنا، واعتيادنا موت الأحبة الذين نعرفهم، والغرباء الذين لا نعرفهم، لكننا نحزن عليهم، لان موتهم يفضح هشاشة حياتنا وبؤسها، نحن الذين ما زلنا أحياء من ضحايا هذا الزمان العربي العاطل، فإن نبأ غياب رغدة صعقني حتى كاد أن يطيح تماسكي. عندما عدت الى القاووش في سجن عدرا، بعد الزيارة التي علمت خلالها بوفاتها، سألني كل من رآني أدخل الغرفة بقلق: ما بك، هل وقع خطب ما لأحد من أسرتك؟ صعقني موت رغدة، ربما لأنه أكد لي ما كنت أخشاه دوماً، وهو أن للموت أوجهاً بعدد أوجه الحياة، وأن حياتنا اللئيمة والقاسية تنتهي بموت لئيم وقاس مثلها، يخطف من كان يجب ان يبقوا أحياء، إما لأنهم يملكون صفات تجعلهم جديرين بالحياة، أو لأنه كان في حياتهم متسع لكثير مما يمكن أن يفعل ويقال.
خطف الموت رغدة، وكانت يداه تبدوان بعيدتين عنها، ربما فعل الموت ما فعل لأنها كانت حبيبة الحياة، المحبة لمن يعانون ويقاسون ويتألمون ولمن تنقصهم مسرات الوجود، وربما لان زماننا وببساطة زمان موت معمم، إن استمر لن يترك كثيرين في عداد الأحياء، وربما… وربما.
خطف الموت رغدة الحافظ، لكن ذاكرتنا تبقيها في نفوسنا، وهي ستظل حية في خباياها الى يوم يخطفنا نحن ايضا.