ارتدت زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز لواشنطن دي.سي والقمة التي عقدها مع الرئيس باراك اوباما أهمّية خاصة تتجاوز العلاقات بين البلدين.
هذا ليس عائدا إلى أهمّية المواضيع التي كانت موضع بحث بين الزعيمين فحسب، بل إلى قدرة المملكة العربية السعودية على التعاطى مع الدولة العظمى الوحيدة في العالم من موقع القوة العربية التي لديها وزن مؤثر على الصعيدين الإقليمي والدولي ايضا.
هذا الوزن لم يعد مرتبطا بالثروة النفطية للمملكة، بمقدار ما أنّ السعودية في عهد سلمان بن عبد العزيز بدأت تشغل الموقع الطبيعي لقوة اقليمية لديها رأيها في ما يدور في الشرق الأوسط والخليج. وهو رأي لم يعد في الإمكان تجاوزه.
جاءت الزيارة في وقت لم يعد في الإمكان تجاهل أنّ هناك ادارة مختلفة في واشنطن تتعاطى من بعيد مع احداث الشرق الأوسط وتعتقد أن التطبيع مع ايران هدف في حدّ ذاته، بل هو الإنجاز الوحيد الذي سينزل اسم باراك اوباما في كتب التاريخ، إضافة بالطبع إلى كونه أوّل رئيس اسود للولايات المتحدة الأميركية.
لم يكن ممكنا القيام بهذه النقلة النوعية في العلاقة التي عبّر عنها البيان المشترك الصادر عن المحادثات بين الملك سلمان واوباما لولا وجود توازن جديد صنعته السياسة السعودية منذ اصبح سلمان بن عبد العزيز ملكا خلفا للملك عبدالله بن عبد العزيز، رحمه الله.
لا يمكن تجاهل أنّ البحث في ايجاد هذا التوازن بدأ مع الدعم السعودي للثورة الشعبية في مصر التي انهت حكم الإخوان المسلمين في الثلاثين من حزيران ـ يونيو 2013. لكنّ التوازن لم يتبلور إلّا في الأشهر القليلة الماضية في اليوم الذي انطلقت الطائرة الأولى من الأراضي السعودية في اطار عملية “عاصفة الحزم” في اليمن.
عكس هذا التوازن الجديد ما ورد في البيان المشترك عن أنّ “الزعيمين ناقشا شراكة استراتيجية للقرن الحادي والعشرين وكيفية تطوير العلاقة بشكل كبير بين البلدين. وقدّم صاحب السمو الملكي الأمير محمّد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود وليّ وليّ العهد والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، رئيس مجلس الشؤون الإقتصادية والتنمية، إيجازا اشتمل على رؤى المملكة حيال العلاقة الإستراتيجية. وقد اصدر خادم الحرمين الشريفين وفخامة الرئيس توجهاتهما للمسؤولين في حكومتيهما بوضع الآلية المناسبة للمضيّ قدما في تنفيذها خلال الأشهر القادمة”.
يختزل هذا المقطع من البيان المشترك القسم الأكبر من الزيارة ومغزاها. هناك رغبة لدى الجانبين في قيام شراكة استرتيجية بين بلدين تعاونا في الماضي وعملا معا في ما يخصّ قضايا تهمّ كلّا منهما، بما في ذلك التعاون في العمق في مواجهة المدّ الشيوعي ابان الحرب الباردة، وصولا إلى افغانستان، والعمل على توفير حاجات الولايات المتحدة من النفط والغاز. كان ذلك في مرحلة امتدت ما يزيد على ستة عقود قامت على التفاهم الذي قام بين الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت.
تطرّق البيان المشترك ايضا إلى الإتفاق النووي بين ايران والمجتمع الدولي الممثل بمجموعة الخمسة زائدا واحدا. هناك صفحة جديدة فتحها هذا الإتفاق. لكنّ الواضح أن البيان المشترك أخذ في الإعتبار التحفظات العربية التي في اساسها “مواجهة نشاطات ايران الرامية إلى زعزعة الإستقرار”. هل أخذت ادارة اوباما علما، في نهاية المطاف بهذه النشاطات الإيرانية التي تستهدف الأمن العربي عموما، بما في ذلك الأمن السعودي والأمن البحريني والأمن الخليجي عموما وأمن العراق وسوريا ولبنان وصولا إلى اليمن؟
في كلّ الأحوال، وضع الملك سلمان ادارة اوباما امام كلّ الإمتحانات المطلوبة، وذلك من من موقع قوّة وليس من موقع ضعف. فالتدخل العربي في اليمن في مواجهة المشروع التوسّعي الإيراني، وقبله في 2011 التدخل الخليجي في البحرين ومصر بمشاركة اردنية، كشف أنّ العرب ما زالوا موجودين على خريطة المنطقة. حسمت “عاصفة الحزم” الموقف كلّيا ونهائيا لمصلحة تأكيد الوجود العربي. كانت نقطة تحوّل على الصعيد الإقليمي وذلك بفضل الملك سلمان وفريق عمله وبفضل الدول الخليجية الداعمة التي اعتبرت أنّ مستقبل اليمن مسألة ذات طابع وجودي لكلّ دول المنطقة.
بعد زيارة العاهل السعودي لواشنطن ومحادثاته مع الرئيس اوباما، لم يعد مطروحا أن تكون هناك املاءات على المملكة. المطروح حاليا أن تظهر الإدارة الأميركية على حقيقتها. هل هي جدّية أم لا، وذلك بعدما تبيّن أنّها تتعاطى مع قوّة عربية موجودة على الأرض. لدى هذه القوّة رأيها في كلّ ما يدور في الشرق الأوسط والخليج. لدى هذه القوة رأي في مواجهة نشاطات ايران، بغض النظر عن كلّ الكلام المعسول الذي يصدر عن طهران وعن اعتبار الإدارة الأميركية أنّ الملف النووي الإيراني يختزل كل ازمات الشرق الأوسط.
بات هناك رأي سعودي واضح، ورد في البيان المشترك كرأي سعودي ـ اميركي، في شأن اليمن حيث المطلوب تطبيق قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الرقم 2216 من دون لف او دوران من ايران والحوثيين الذين يسمّون نفسهم “انصار الله” والذين يدورون في فلكها.
هناك رأي سعودي واضح، صار اميركيا ايضا، يؤكد أن لا حل سياسيا في سوريا “من دون مغادرة بشّار الأسد الذي فقد شرعية قيادة سوريا”.
هناك ايضا رأي واضح مشترك حيال لبنان، إذ “أكّد الزعيمان دعمهما القوي والمتواصل للبنان وسيادته وامنه واستقراره وللقوات المسلّحة اللبنانية في سعيها لتأمين لبنان وحدوده ومقاومة التهديدات المتطرّفة. كما أكّد الطرفان الأهمية القصوى لإنتخاب البرلمان اللبناني العاجل للرئيس (رئيس الجمهورية) وفقا للدستور اللبناني”.
هناك نقاط أخرى كثيرة في البيان المشترك تتعلّق بتقوية العلاقات والتعاون العسكري والقضاء على الإرهاب ورأس حربته “داعش” والأمن والسلام لفلسطين ودعم العراق.
في ما يخص كلّ هذه النقاط، هناك توافق أميركي مع وجهة النظر السعودية. هل يعني ذلك أن ادارة اوباما تغيّرت؟
الأمر الوحيد الأكيد أن الملك سلمان قال ما يجب قوله. رمى الكرة في الملعب الأميركي. وحده الوقت سيكشف مدى جدّية واشنطن. الإمتحان الأهمّ سيكون في سوريا. هل هناك بالفعل رغبة في التخلّص من بشّار الأسد الذي يمثّل الوجه الآخر لـ”داعش” والإرهاب الذي يمثّله؟
عند الإمتحان، يُكرم المرء او يهان.
بعد زيارة العاهل السعودية لواشنطن، سيتبيّن ما اذا كانت ادارة اوباما جدّية بالفعل في التزام البيانات التي توقّع عليها… أم أنّها مجرد بائعة اوهام. في كلّ الأحوال، قامت السعودية بما يتوجّب عليها القيام به. أكّدت أن العرب ليسوا نكرة في المنطقة وأنّ لا حلول على حسابهم وأنّ الشرق الأوسط ليس الملفّ النووي الإيراني… بمقدار ما أنّ هذا الملفّ واجهة لمشروع توسّعي قائم على التخريب والتدمير واثارة الغرائز المذهبية والإستثمار فيها.