لو كتب صحافي فرنسي مقالة يزعم فيها أن مسؤولاً حكومياً يروج للدعارة، لأقام هذا دعوى قضائية عليه وطالبه بإبراز ما لديه من أدلة تؤيد زعمه . إنه، بالتأكيد، لن يخطفه أو يقتله أو يبعث من يهدده بالموت، فهو أولاً يفتقر إلى سلطة تخوله قتل الناس، وليس لديه ثانياً من يقبل أن يقتل الناس من أجله، لأن قتلهم هو، ثالثاً، أكبر وأفظع من أية جريمة يمكن أن تترتب على مقالة صحافية هنا، وتهمة قد تكون كاذبة هناك .
لكن صحافياً كردياً اسمه سوران ماما حمه اغتيل خارج منزله في كركوك، لأنه كتب مقالة يتهم فيها بعض رجال السلطة في كردستان العراق بامتلاك وإدارة شبكات دعارة . لم يقم أحد دعوى قضائية عليه، ولم يتم استدعاؤه أمام النيابة العامة لمعرفة ما لديه من أدلة، بل أرسل “الغامض” مسلحاً أو أكثر لتنفيذ حكم إعدام أصدره عليه كان فيه مقتله . ماذا حدث بعد ذلك؟ لا شيء . نحن، أيها السادة، في كردستان العراق ولسنا في فرنسا أو سويسرا . نحن في كردستان الديمقراطية، التي يتسع صدرها لجرائم كهذه، فلا شك إذن في أن الديمقراطية بالذات ستكون ضحية حكامها الأولى، هذا إن كان أو بقي هناك ديمقراطية أصلاً .
بعد عامين من مقتل سوران، لم يتوقف خلالها الحديث عن الديمقراطية، قتل صحافي شاب اسمه زرادشت عثمان، اختطف في أربيل يوم الرابع من شهر مايو/ أيار الماضي، ووجدت جثته بعد يومين قرب الموصل وقد بدت عليها علامات التعذيب الشديد، بينما استقرت رصاصتان في رأسه . ماذا فعل هذا الشاب، الذي كان صغير السن وطالبا في الجامعة؟ عبر عن يأسه من فقره، وتخيل أنه تزوج ابنة مسؤول كبير في إقليم كردستان الديمقراطية، ووصف ما توهم أنه حياته الجديدة وما فيها من ترف وجاه، وأوصله خياله إلى حد جعله واثقاً من أن والده، مقاتل البشمركة السابق، سينال بالتأكيد راتباً تقاعدياً، لأن ابنه زرادشت صار صهر مسؤول كبير، أي رجلاً محظوظاً وذا حظوة .
هذه هي جريمة زرادشت عثمان في مكان يقال إن فيه حريات وديمقراطية، يعلن حكامه أنهم أخرجوه من العصر العراقي السابق، الذي اتسم بتقييد الحريات وبحرمان الشعب من تراثه المادي والروحي . ويقولون إنهم جعلوه قدوة المشرق: الكردي والعربي والفارسي والتركي في آن معاً . صور الفتى الفارق بين حياته كطالب فقير، وحياته بعد أن ينتمي إلى الطبقة الحاكمة، فكان جزاؤه القتل والتمثيل بجثته . أما التحقيق الذي فتح رسمياً لمعرفة قتلته وملابسات موته، فلم يصل بعد إلى شيء، ولن يصل بالتأكيد إلى أي شيء، لأن وظيفته طمس الحقيقة وليس كشفها، والتعمية على الجهة التي قتلته، علماً بأن ملابسات قتله معروفة، تتصل على الأرجح بما قاله عن المسؤول الكبير وابنته . ترى، إذا كان جزاء الكلام القتل، من هو الغبي الذي سيجد في نفسه الجرأة على اتهام من يقود أول كيان كردي مستقل في تاريخ المنطقة الحديث، وضع يده على القضية، وأخبر إحدى كبريات الصحف العربية أنه يشرف على التحقيق لكشف هوية القاتل؟ لا يتوهم أحد بالطبع أنه سيعلن الحقائق، إن قادت خيوط الجريمة إلى “ما لا يرغب به” .
ما علينا . أنا لا أكتب كي أدين أحداً، كائناً من كان، أو كي أصدر أحكاماً في قضية حساسة تتصل بموت شاب، يرجح أن تبقى تفاصيلها ووقائعها طي الكتمان إلى ما شاء الله، إن لم ينفجر خلاف ما في رأس السلطة وينشر أحد ما أسرار الحدث . أنا اكتب كي أحذر مواطني كردستان العراق من الاستهانة بأحداث تبدو صغيرة، متفرقة ومتباعدة، ستكبر وتتضخم إن لم يحتجوا عليها بكل الوسائل والسبل، الشعبية والسلمية . أما دافعي إلى طلب ذلك فهو الخوف على ما هو متاح فعلاً من حريات هناك، والاتعاظ بتجارب عربية طويلة عريضة وعدت الشعب بكل صنوف الحرية والديمقراطية، وإقامة نعيم سماوي على الأرض، ثم نكثت بوعودها جميعها وأقامت عكسها .
في النظم المغلقة، الشخصية أو الحزبية أو التسلطية، يبدأ التخلي عن الوعود بخطوات صغيرة، لا تلبث أن تتسارع وتصير كبيرة، وكبيرة جداً وغير قابلة للحل . صحيح أنها تبدأ صغيرة، لكنها تكبر بسرعة مفاجئة وتتحول إلى كابوس يربض على صدور الناس، يكبتهم ويقهرهم ويروعهم . لا مفر، إذاً، من مقاومة هذه المشكلات وهي صغيرة، لمنع تحويلها إلى مشكلات كبيرة من جهة، والحيلولة بين الحكام وبين استخدامها كأدوات يفتقر المحكومون أكثر فأكثر إلى القدرة على مقاومتها، إلى أن يستسلموا لها ويكيفوا حياتهم معها، فتكون الكارثة . نحن هنا أمام بداية يمكن أن تذهب في اتجاهين: يفضي أحدهما إلى ردع الشعب وإخراجه من الشأن العام وتقويض دوره وقدراته الذاتية، وتحويله إلى مجرد متفرج على مصيره المفعم بالبؤس، ويقود الثاني إلى تقييد قدرة الحاكمين على دفع بلادهم في الاتجاه الأول، وإجبارهم على قبول وتوسيع الحريات العامة، وسيادة القانون وصلاحيات القضاء . إذا كان قتل سوران وزرادشت يشير إلى رغبة رسمية في السير وفق الاتجاه الأول، فإن رد الفعل الشعبي عليه يجب أن يقود إلى الاتجاه الثاني، الأمر الذي لن يكون ممكناً دون تعبئة قوى الشعب والقيام بجهود مدروسة ومنسقة، وإبداء قدر من اليقظة والاستعداد النضالي يدرك المسؤولون في كردستان معه أن حساباتهم مكشوفة، وأن ما يريدون تحقيقه لن يمر من دون مقاومة جدية ومرشحة للتصاعد، إما لأن هناك مؤسسات وتنظيمات تتابع كل شيء وتستطيع التدخل في الأحداث، أو لأن ثمة بعداً شعبياً للحرية، يتحرك عند اللزوم ضد كل من ينتهك حقوق الإنسان والمواطن ويعتدي على القانون أو يعمل من خارجه، أو يتصرف بطرق تعزز سلطته الشخصية على حساب القانون والقضاء ومؤسساتهما .
أقول ما أقوله، لاعتقادي أن تجربة الإخوة الأكراد مهمة للمنطقة بأسرها، فلا يجوز أن تبدأ من النقطة التي انطلق عرب كثيرون منها، وأدت إلى كوارث نعرفها ونعاني منها، خاصة أن السكوت على الخطأ سيعزز واقعاً سياسياً يتطلع العرب والأكراد إلى التخلص منه، وسيضع جديد كردستان في خدمة قديمها وقديم غيرها، وسيقلب تجربتها من وعد إلى كابوس، يضاف إلى الكوابيس الكثيرة التي تجثم على صدورنا، وتزهق أرواحنا .