الخبير المالي والأستاذ المحاضر في الاقتصاد الدكتور توفيق كسبار كان أوّل من حذّر من خطر الانهيار المصرفي تحديداً والنقدي، وذلك في دراسة أكاديمية نُشرت في “بيت المستقبل” في آب 2017. لكن المعنيين كانوا يديرون الأذن الطرشاء لكل التحذيرات، وأمعنوا في ممارسات ما كان يمكن أن تؤدي إلا الى الانهيار الشامل.
إلتقت “نداء الوطن” الدكتور كسبار، وكان السؤال الأول عن مسودة الورقة الحكومية المتداولة والخاصة بحساب الخسائر في القطاع المالي وكيفية توزيع تلك الخسائر.
قال بدايةً إن هذه الورقة عبارة عن مسودة حتى الآن وغير رسمية بعد، لكنها على درجة عالية من المهنية، فالمنهجية المعتمدة لتقدير الخسائر تتماشى مع منهجية صندوق النقد الدولي ومؤسسات مالية دولية أخرى.
ويؤكد أنها تحدد تقديراً للخسائر المالية الخاصة بمصرف لبنان والمصارف حتى آخر أيلول 2021. وتأتي على ذكر المبادئ لتوزيع الخسائر وكيفية تحملها بين الأفرقاء المعنيين وهم: الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمودعون، على أن يتحمّل المودعون ما تبقى من خسائر (residual) بعد تحميلها للفرقاء الآخرين.
يشير كسبار الى أن تقدير الخسارة الاجمالية لمصرف لبنان والمصارف بلغت 69 مليار دولار، منها 60 مليار دولار لمصرف لبنان و9 مليارات للمصارف، لافتاً إلى أن ذلك لا يعني أن المصارف خسرت فقط 9 مليارات. فبعد تحميل مصرف لبنان خسارة تسديد كامل الودائع للمصارف بالدولار لديه لا يجوز تحميل المصارف خسارة أي جزء من هذه الودائع لتجنب ازدواجية القيد.
مشكلة فاقعة في الورقة الحكومية.. والقرار سياسي
ويتوقف كسبار عند المبادئ الأساسية الواردة في الورقة بالنسبة لتحميل عبء الخسائر، وهي التأكيد على الحفاظ على مصالح الطرف الاضعف والتوزيع العادل للخسائر. فوجد أن المشكلة الفاقعة هي أن واضعي الورقة لم يحترموا تلك المبادئ لأن العبء الأكبر للخسائر يقع في نهاية المطاف على عاتق المودع، وهنا لب المشكلة في هذه الورقة.
ويؤكد أن تقدير خسائر أي ازمة اقتصادية أو مالية أو مصرفية أو نقدية تقع في العالم، ليس صعباً. أما توزيع الأعباء، برأيه، فهو قرار سياسي.
ويشرح قائلاً: لنفترض، مثلاً، ان التعويض سيحصل عبر الضرائب على الأفراد، فهذا يعني ان العبء سيقع على العموم. أما اذا تقرر أن على البنوك اعادة الرسملة فهذا يعني تحميلها جزءاً كبيراً من الاعباء. في المقابل، إذا قررت الدولة انها ستبيع اصولاً للتعويض، فهي تتحمل العبء الأكبر. ويضيف: بقرار سياسي، وخلال أشهر، يمكن استعادة عشرات مليارات الدولارات، هذا إذا ما قرّرت الدولة فعلًا استعادة الموال المنهوبة أو المحوّلة بشكل غير قانوني إلى الخارج. ففي قضية مادوف الشهيرة وحتى تشرين الثاني الماضي استطاعت المحاكم استرداد أكثر من 85% من أموال المستثمرين الخاسرين. أما في لبنان فالسلطة هي فعلًا عدوة المواطن والمودع. فما من اجراء واحد اتخذ لمواجهة الأزمة وتبعاتها منذ أكثر من سنتين على اندلاع الأزمة! أي سلطة في العالم تفعل هذا؟ جل ما يريدونه هو مصالحهم المادية الخاصة والمحاصصة السياسية، ولا يعبأون بتاتاً بمصلحة المواطن.
طبقوا القانون اللبناني ولا شيء غير القانون
وفي النقاش مع كسبار، نستعرض كيف أن الجميع يتحدث عن العدالة في تحمل الأعباء، فيرد على الفور بأن الأجدى تطبيق القانون اللبناني، وخلاصة ما يمكن استنتاجه من القوانين المرعية الاجراء لدينا، و/ او افضل الممارسات الدولية ذات العلاقة. فتصفية بنك خاسر لرأسماله، إذا لم يُعد الرسملة، تقضي بأن ما يبقى من أصول تذهب أولاً الى المودع، ولا مجال لاجتهاد آخر في هذ الاطار. ويستطرد قائلاً: بعد أكثر من سنتين وعدة أشهر على الانهيار، نرى أن العبء، يقع على عاتق المودع بنسبة 100%. لقد طبّقت ضد المودع ممارسات تعسفية بسحوبات ودائع الدولار بالليرة وبأسعار مختلفة بدءاً من 3900 ليرة للدولار ثم 8000 و12000، وحتى بوضع سقوف على السحوبات بالليرة! ويسأل: من قرر ذلك وعلى أساس أي مبدأ واستناداً إلى أي قانون؟
الذي قرر هو مصرف لبنان من دون أي غطاء قانوني. لذا يجزم كسبار أننا أمام حالة شاذة. فالمسؤول الأول عن الانهيار هو من يحدد كيف توزع الأعباء او الخسائر. وهذا أشبه بالطلب من المتهم الأول بالجريمة أن يتدبر مخرجاً لها.
سلامة فشل في الحفاظ على سلامة النقد والمصارف
ويستطرد شارحاً أن الوظائف الرئيسية للمصرف المركزي، أي مصرف مركزي، هي سلامة النقد والأهم من ذلك سلامة القطاع المصرفي. ويؤكد كسبار أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة فشل في الإثنين معاً. وهذا هو الواقع.
وعما اذا كان مصرف لبنان مضطراً لتمويل الدين العام، وفقاً لقانون النقد والتسليف. فيرد قائلاً: إن القانون يجعل حاكم مصرف لبنان بين الأقوى في العالم إن لم يكن الأقوى. وباستطاعته، بفعل مواد في قانون النقد والتسليف حصنته ومنحته الاستقلالية، رفض التورط في تمويل عجز الموازنة، أما القول بأن القانون يسمح له او يطلب منه تمويل الدولة فهذا غير صحيح بتاتاً.
ويضيف: كتبت دراسة موثقة ومنشورة في “بيت المستقبل”، مفادها أنه بين 2009 و2019 واستناداً الى أرقام رسمية، حولت وزارة المالية الى مصرف لبنان أكثر مما هو حول اليها مبالغ بالدولار. الحاكم نفسه قال، في تصريح علني، ان حصيلة ما حوله للدولة هو 13 مليار دولار، وهذا موثّق رسمياً. في المقابل، وجدت في دراستي، وبمراجعة حصيلة اكتتابات سندات اليوروبوندز، أن وزارة المالية حولت إلى مصرف لبنان خلال الفترة المذكورة 17.5 مليار دولار، وهذا موثّق رسمياً. إذن، من موّل من بالدولار؟
ويتحدى كسبار أن يقول أي مسؤول أو معني أن استنتاجه هذا خاطئ.
سردية المصارف فيها كذب وتضليل
ويهزأ كسبار من سردية ان الناس وضعت دولاراتها في المصارف، والأخيرة وضعتها في مصرف لبنان الذي مول بها للدولة. يجزم كسبار أن هذا كذب وتضليل، وأن هذه الأقاويل لا تستند إلى أي واقع.
لذا، برأيه فان المسؤول الأول والعضوي والأساسي عن الإنهيار المصرفي هو مصرف لبنان بـ”هندساته المالية” ومن ثم المصارف التي تخلت عن سيولتها بالدولار له مقابل اغراء فوائد فاحشة.
ويشرح قائلاً إننا إذا أردنا فهم ما حصل علينا في البداية أن نفهم أننا أمام انهيارين منفصلين، نقدي ومصرفي، بأسباب ونتائج مختلفة. في الشق النقدي يمكن ان نناقش مسؤولية الدولة وعجوزات الموازنات وميزان المدفوعات والعجز التجاري… أما بشأن الانهيار المصرفي فالأمر مختلف تماماً.
أيام الحرب الأهلية.. أحسن
ويضرب مقارنة مع ما حصل في الثمانينات من القرن الماضي عندما انهارت الليرة على نحو أكبر من الآن، ليشير الى أن القطاع المصرفي بقي منيعاً لا سيما بسيولة المصارف بالدولار التي كان معدّلها أكثر 100% خلال الحرب الاهلية 1975-1990. في المقابل، وقبيل الإنهيار الحالي في أيلول 2019، كان معدل السيولة بالدولار 7% فقط. ويرفض مقولة أن ازمة القطاع بدأت مع التوقف عن سندات اليوروبوندز في آذار 2020، بدليل أن المودعين حرموا من سحوبات ودائعهم قبل اشهر من تعثر الدولة.
التدقيق الجنائي مسرحية سياسية
ويسأل: لماذ لا يأتون بحاكم مصرف لبنان الى المجلس النيابي لسماع أقواله عن الأزمة، اسبابها وتداعياتها؟ وهذا لن يكون تحقيقاً أو محاكمة. لماذا لم يكشفوا عن حقيقة الأموال التي هربت خارج البلاد لا سيما وانه جرى تعليق العمل بقانون السرية المصرفية لمدة سنة كاملة؟
ويجيب: لم يستدعوا سلامة ولا دققوا في المصارف، لأن الكل متورط، ولا مصلحة لأحد منهم بكشف الارقام والحقائق. فالطبقة السياسية خائفة من رياض سلامة.
ولا يعتقد كسبار ان هناك أي جدية في ما يسمى التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، ويعتبر المتداول بهذا الصدد مجرد مسرحية سياسية لا طائل منها.
وبرأيه، فان سلامة لا يخاف إلا من القضايا ضده في الخارج. أما في الداخل، فهو يعلم انهم لا يجرؤون على المساس به، بالنظر الى أن كل النظام السياسي متورط معه بفعل المنافع التي كانت يوزعها عليهم منذ سنوات عديدة.
ويستغرب كسبار هذا التواطؤ العام، ويستهجن اللامبالاة التي يتصرف بها اهل السلطة، غير العابئين بأبسط رد فعل كان يجب أن يحصل منذ الأيام الأولى لاندلاع الأزمة، مثل تشكيل لجنة تحقيق حكومية أو برلمانية، لتشرح للناس ماذا حصل، وتقدم لهم خريطة طريق الخروج من الازمة التي كشفت عن اكبر انهيار مصرفي في التاريخ الحديث.
أما على صعيد الحلول فيرفض كسبار مناقشة اي جزء منفصل عن الحل الشامل. أما بالنسبة للرسملة الكاملة للبنوك، فيرى انها طبيعية ومطلوبة. فصاحب المصرف لطالما تمتع بالأرباح، وهذا حقه، وصرفها كما يحلو له. اما اليوم، عندما وقعت الخسارة فعليه تحملها ولا يحق له الطلب من الدولة والمودعين ان يعوضوا خسارته.
ويكرر كسبار رفضه المطلق لأقاويل أن البنوك وضعت الدولارات في مصرف لبنان وأنه مسؤول مع الدولة عن رد الاموال للمودعين. فما من أحد طلب من المصرفيين فعل ما فعلوا. وما من أحد أجبرهم، لا مصرف لبنان ولا غيره. فقط الفوائد اغرتهم بهوامش بلغت أحيانا بين 10 و11%.
فشل الجهات الرقابية المصرفية وغير المصرفية
ولا ينسى كسبار القاء المسؤولية أيضاً على الجهات الرقابية المصرفية وغير المصرفية. إذ لدينا المجلس المركزي لمصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، ووزير المالية وزير الوصاية، وهناك المسؤولية الحكومية والنيابية… فالفشل هو على كل مستويات السلطة، القائمة بموافقة ودعم عرّابها حزب الله/إيران. فالسلطة السياسية القائمة لا يمكنها الخروج عن الحدود التي يضعها الاحتلال الإيراني. أما خارج ذلك فيمكنها أن تفعل ما تشاء، مما عطّل كل الأجهزة الرقابية وأنتج الفساد على كل المستويات.
وعن المنافع التي أعمت الأبصار يقول: في مصرف لبنان تحديداً، كان مدراء عديدون، وكيف بالحري الحاكم ونوابه، يقبضون رواتب ويحصلون على امتيازات تفوق بكثير دخل الحاكم الفدرالي الاميركي.
الفرق بين إدمون نعيم ورياض سلامة
يروي توفيق كسبار أنه عندما كان يعمل في مصرف لبنان أيام الحاكم المرحوم إدمون نعيم، كان يرافق نعيم الى المقر المؤقت لمجلس النواب في فيلا منصور حيث كان الحاكم على مدى ساعات يجيب على أسئلة الوزراء والنواب عن الشؤون النقدية والمصرفية. وكان هذا أمرًا طبيعيًا. أما منذ تعيين رياض سلامة حاكماً فلم يحصل ذلك ولا مرة واحدة.
الإعلام مسؤول أيضاً… والتبخير مستمر
لا يستثني توفيق كسبار الاعلام المرئي والمسموع من المسؤولية لأنه اعلام «يبخر» منذ سنوات لرياض سلامة ويؤمن له ولمصرف لبنان التغطية والتعمية على كل السياسات المصرفية والنقدية المدمرة. وهذا التبخير مستمر.
ويستذكر ما قاله احد قضاة اميركا في تعليله للحكم الصادر عن المحكمة العليا لصالح الصحافة في قضية شهيرة، بخصوص دعوى الحكومة ضد الواشنطن بوست والنيويورك تايمز لنشرهما وثائق حكومية سرية، «ان الآباء المؤسسين للولايات المتحدة اعطوا الحرية للإعلام لكي يدافع عن المحكومين وليس عن الحاكمين». بيد أن اعلامنا المرئي والمكتوب في لبنان يفعل العكس تماماً.
القديسين بهيدا البلد كذابين