في الأيام النيابية اللبنانية المتلفزة إنكشفت أمعاء الخطاب السياسي اللبناني. ليس الخواء الدستوري أو السياسي هو الذي ظهر في أمعاء السلطة فحسب، بل المراهنة على هذا الخواء من قبل نواب الأمة (!) أيضا، وإصرار الكثيرين منهم على إثبات أن هذا البرلمان يفتقد إلى رجال دولة أو إلى فرصة إنضاج مشاريع رجالات يعتز المواطن اللبناني بأنّهم يمثّلونه، مهما اختلف معهم في الموقف السياسي.
صورة “المجلس النيابي”، أو ربما هي صورة “معرض الغرائز المستفحلة باسم النزاهة والشرف والطائفة”، فهكذا بدت لي وانا اتابع خلاصاتها الليلية والنهارية من دولة عُمان وعاصمتها مسقط. هذه الزيارة، التي ترافقت مع إطلالات نوابنا، كان من الصعب الا تترافق في رأسي مع مقارنات بالمكان الذي كنت فيه، في دولة شقيقة وعربية واسلامية، ومن دول العالم الثالث.
فالمشكلة في لبنان ليست أنّه يتكون من طوائف واحزاب دينية وعشائرية وما الى ذلك من تصنيفات، أبدا ليس لبنان بلدا متفردا على هذا الصعيد، بل العالم العربي كلّه متنوّع على مستوى البنى الاجتماعية والسياسية التقليدية وغير التقليدية. المشكلة ان استقامة الدولة ومرجعيتها ليست في سلم الاولويات اللبنانية.
في بلاد غير لبنان، وفي دول تحتكم إلى حدّ معقول من احترام القانون وتنظيم شؤون الدولة، ومهما كان نظام الحكم، تكون (الدول تلك) قادرة على مقاربة المشكلات التي تواجهها على المستوى الداخلي والخارجي، لا بل يمكن القول بثقة إنّ الهموم والمشكلات التي تشغل اللبنانيين اليوم باتت مطوية لدى دول يفترض بعض اللبناننيين أنّه متقدم عليها في الركب الحضاري.
فبناء الذات الوطنية وترجمتها على مستوى حقوق المواطن في الحرية والتعليم والطبابة والسكن وفرص العمل، تتقدم على كل ما عداها من قضايا. فلا يحق لأي مسؤول أن يمنن شعبه بأن وجوده بذاته هو الخير الذي لا خير بعده. بل إنّ المعيار في صدقية سيرة المسؤول وسلوكه لا يكمن في الخطاب أو الاستقواء أو إغلاق المنافذ امام جمهوره وترك منفذ الحرب والدم والحقد فقط، إنما يكمن المعيار في العمران واستيعاب مطالب الناس والاقرار بوجودها لا نفيها او التعامي عنها او رمي مسؤوليتها على “الآخر”.
هذه وظيفة رجل الدولة. ففي بلد كسلطنة عُمان، وهو الدولة الناشئة التي نالت استقلالها في العام 1970، ثمة مشهد يستحق التبصر به والتعلم منه. هذا البلد فيه من القبائل والطوائف ما يمكن، إذا طبقنا بعض المقولات اللبنانية البائسة، ان يكون عرضة لحروب داخلية. فهو بلد يتقاسم مع ايران ضفتي مضيق هرمز، اي انه لا يخلُ من تحديات خارجية، وهو عضو في مجلس التعاون الخليجي، وهو الى ذلك طالته تحديات الربيع العربي. وحينها لم تنفِ القيادة العمانية حقيقة ان احتجاجات شعيبية حملت مطالب محقة في شباط 2011 قد حصلت في عدة مناطق، وهي تفخر بأنها تعاملت مع هذه المطالب بمسؤولية وعملت على تلبيتها، وما تزال، من دون منّة او استعراض… لا بل فتحت هذه الاحتجاجات بوابة اصلاحات سياسية تاريخية تقرّ القيادة العمانية انها جاءت تلبية لهذه المطالب، مشددة على ان قدسية دم المواطن العماني مسألة لا تمس… مدركة ان الدم لا يجر الا الدم، وازاء ذلك ترخص كل لمطالب المحقة.
الحوار كان تحت سقف الدولة ومنطقها وحماية المجتمع وحقوق الاجيال الآتية في العيش الكريم. فهناك إحساس وطني عماني بالشراكة في ما أنجز على مستوى المؤسسات الدستورية والاكاديمية وعلى صعيد العمران الذي جعل من هذا البلد الأول لجهة التنظيم المدني وعلى صعيد البيئة وحماية التراث والالتزام بالقوانين في ظل تنامي ملموس للمؤسسات الديمقراطية والحريات الفردية والاجتماعية. علما أنّ عمان تقع في أسفل سلم منتجي النفط الخليجين، وما تزال تتلقى مساعدات مالية من مجلس التعاون الخليجي.
اذن الدولة هي حاجة انسانية وإدارية وتنظيمية وحياتية، وهي محكّ المبادىء الافكار وجدواها في محاكاة مصالح المواطن والمجتمع بكل فئاته. والتقاتل الذي كشف عنه مجلس النواب اللبناني، ونفخ داخله النواب خلال اليومين الماضيين، يظهر حجم الخبث السياسي الذي يجعل جلّ النواب يدفعون البلد الى مزيد من الـتأزم عبر القاء المسؤولية على الآخر.
ومن خلال بعض ردود الأفعال على هذا المشهد النيابي الأخير، يتلمّس اللبنانيون عموما أنّ ممثليهم يتقنون لعبة استثارة الغرائز واستدرار العطف، ويحترفون الإدّعاء الأخلاقي، وذلك على حساب إتقان المعالجة الجدية لأيّ قضية تتصل بمصالح الأمّة التي يمثلونها أو الدولة التي يتحدثون باسمها.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد
ربيع عُمان وخريف بيروت
الحمدلله انه يوجد في هذا البلد اشخاص، لا تهمّهم الاصطفافات ولا يعميهم التزلّم قيتمكّنون من قراءة مجرّدة وعلمية للخطاب السياسي. علينا العمل لإيجاد آلية تجعل هؤلاء المنزّهين الحقيقيين يشاركون فعليّا بالعمل السياسي.