في يوم ما، عندما يؤرخ أحد لولادة المجتمع السياسي في فلسطين، سيقف أمام ظاهرة نقابة الموظفين، التي تخوض نضالا نقابياً منذ سنوات في مواجهة السلطة الفلسطينية. لا يهم ما إذا كانت دوافع هذا النضال، في جانب منها، جزءاً من مماحكات وحساسيات فصائلية، المهم أنها تضع المطلبي على قدم المساواة مع الوطني.
وهذا هو الجديد في الأمر. وجود الاحتلال لا ينفي وجود النقابات المهنية المستقلة، وممارسة الرقابة الشعبية على أداء المؤسسات التنفيذية. ومع هذا كله وفوق هذا كله “خطاب” الوطنية مُقنع بقدر انسجامه مع المعايير المهنية والحقوقية العامة العابرة للوطنيات والقضايا.
يولد المجتمع السياسي عندما يصبح المطلبي مساوياً للوطني. وإذا أعدنا النظر في تجارب البلدان التي اجتاحتها عاصفة الربيع العربي سنجد أنها عاشت عقوداً طويلة في ظل أنظمة الطوارئ، بمعنى آخر كانت الأولوية فيها للوطني على حساب المطلبي.
وبما أن النخب الحاكمة هي صاحبة القول الفصل في تعريف الوطني، لم يعد من حق السوريين، مثلاً، التساؤل لماذا أصبحت سورية جمهورية وراثية، وإذا “تطاول” أحد منهم وطرح سؤالا كهذا سيجد نفسه في السجن، وسيجد جواباً وحيداً مفاده أن سورية قلعة للمقاومة والممانعة.
وهل تتناقض المقاومة والممانعة مع الانتخابات والتوزيع العادل للثروة، وتمكين ابن الرئيس السابق من فتح عيادة لطب العيون في دمشق بدلاً من وراثة الدولة والشعب؟ ويمكن في هذا السياق، أيضاً، الكلام عن مصر وليبيا والعراق واليمن..الخ.
فلنعد إلى الموضوع الرئيس: الوطنية (مهما كان تعريفها، ومهما كانت قضيتها) لا تمنح حصانة لأحد. في الجيوش يُحاكم القادة إذا ارتكبوا أخطاءً تسببت في خسائر غير ضرورية في الأرواح أو العتاد. كم ارتكبت الفصائل الفلسطينية من الأخطاء والخطايا، ومتى حوكم مرتكبو الأخطاء؟ لم يحدث لأن الفلسطينيين كغيرهم يعيشون حالة طوارئ وطنية منذ ستة عقود. لا وجود للمجتمع السياسي في ظل حالة الطوارئ.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالسلطة الفلسطينية فهي نظام صُنع من قماشة الأنظمة الراديكالية العربية، التي احتلت صدارة المشهد السياسي في العالم العربي منذ أواخر الستينيات. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالنخب السياسية السائدة، فإن عددا قليلاً من الساسة الفلسطينيين في السلطة، وقيادة منظمة التحرير، اجتاز امتحان الممارسة الديمقراطية بنجاح، وحصل في انتخابات نزيهة على أصوات مكنته من حيازة مقعد في المجلس التشريعي.
استناداً إلى كل ما تقدّم يمكن الكلام عن التظاهرات التي اجتاحت عددا من المدن الفلسطينية احتجاجاً على ارتفاع الأسعار. هل هذا ربيع الفلسطينيين؟ يمكن أن يكون الأمر كذلك إذا اكتشف المحتجون حقيقة أن وضع المطلبي بالتساوي مع الوطني يخدم الاثنين معاً، وتجنبوا الوقوع في شرك الفوضى والعنف. في هذه البلاد قدر مخيف من العنف. وهذا القدر، معطوفاً على الفوضى، يكفي لتخريب أفضل وأنبل القضايا.
كافة السناريوهات التي عرفها العرب منذ ربيع العام الماضي غير قابلة للتطبيق في فلسطين. والسبب الرئيس أن الشعب الفلسطيني يعيش في قبضة الاحتلال، ولن يصبح شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” ممكناً قبل زوال الاحتلال، وحصول الفلسطينيين على دولة كاملة السيادة. هذا لا يعني تأجيل كل شيء إلى ما بعد زوال الاحتلال.
ما هو الممكن، إذاً؟
الممكن، نظرياً، بناء المجتمع السياسي، وإعادة فتح الحقل السياسي الفلسطيني، الذي تعرّض للإغلاق والمصادرة على يد الفصائل الفلسطينية. وهذا لن يتأتى دون إعادة الاعتبار إلى فكرة النقابات المهنية المستقلة كبديل للنقابات السوفياتية التي ورثناها من زمن الستينيات.
وبالقدر نفسه، وفي السياق نفسه، ثمة ما يبرر إعادة الاعتبار إلى فكرة العدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة مهما كانت ضئيلة، ومهما كانت إشكالية، ومهما كانت مُنغصات الاحتلال. الصحيح أن بعض أوجه الحياة في فلسطين تشبه في جانب منها ما يُسمى في التاريخ الأميركي بالغرب البري أو المتوحش.
أصيبت الفصائل اليسارية الفلسطينية على مدار العقدين الماضيين بالسكتة الدماغية، وقد انتهت من ناحية موضوعية، رغم أن المبرر الموضوعي لليسار في العقود القليلة الماضية في أماكن مختلفة من العالم لا يُستمد من خارج المسألة الاجتماعية، بما فيها التوزيع العادل للثروة، وقضايا المواطنة، والنساء، والأقليات.
وربما تحرّض التظاهرات الأخيرة على وجود شبكات وتجمعات شبابية جديدة من شأنها إحياء فكرة العدالة الاجتماعية، وإعادة الاعتبار إلى تقاليد اليسار قبل استيلاء الأصولية والفوضى على “المسألة” الاجتماعية.
أما النظام الفلسطيني، مهما كانت خصوصيته في ظل الاحتلال، فإن عليه إعادة النظر في بنيانه المؤسساتي، وفي سياسته الاجتماعية ومصادر شرعيته. كل شيء في العالم العربي يتغيّر. يمكن العثور على ألف سبب للنيل من جدوى أو نجاعة أو معنى الاحتجاج على ارتفاع الأسعار، وقد تكون كلها صحيحة. ومع ذلك لا يحق لأحد أن يقول نحن نختلف عن الآخرين.. أما إذا قررنا أن نختلف فيمكن أن نفعل ذلك بطريقة وحيدة: أن تشارك السلطة شعبها في ربيع الفلسطينيين، فتعترف بحقيقة أن المطلبي يساوي الوطني ولا يقل عنه، وأن المساواة تخدم الاثنين معاً.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني