الاعتبارات السياسية، سواءاً على مستوى المنطقة أو على مستوى العلاقات الدولية، والتي حكمت زيارة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري لدمشق، ليست خافية على أحد. فثمة مسعى حثيث لتحقيق إعادة اصطفاف يخرج سوريا من الدائرة الإيرانية ويعيدها إلى إطار المنظومة السياسية العربية، وهي المنظومة الغائبة منذ عقدين، ولا بد لهذه العودة من ثمن. وفي حين أنه يصعب التوفيق بين التحقيق المفترض لهذا الهدف وبين الأقوال والأفعال الصادرة من دمشق، فإن التعجيز الذي شهدته الحياة السياسية في لبنان، والتعطيل الصريح للمؤسسات الدستورية أملى دون شك على رئيس الحكومة اللبنانية الجديد اعتماد فن الممكن، تغليباً لتوجه من شأنه أن يأتي ببعض الاستقرار. غير أن هذا الربح الموعود يأتي مصحوباً بخسارات أكيدة.
الخسارة الأولى هي طبعاً سياسية. فطالما أن الحكم على المواقف السياسية في لبنان يبقى قائماً على الرموز والإيحاءات، فإن صورة رئيس الحكومة اللبناني بصحبة مضيفه في القصر الرئاسي في دمشق تستحضر على الفور صور زيارات سابقة قام بها الحريري الأب للأسد الأب ثم الابن في إطار علاقة غير متوازنة، مهينة ومجرحة في أحيان عدة، وفي نهاية المطاف قاتلة وفق قناعات العديدين. فالصورة الجديدة المكررة، وسط الفرز السياسي والتعبئة الإعلامية في لبنان، وإن اجتهد في انتاجها إبراز الحفاوة من المضيف لضيفه، يتلقاها قسم من الجمهور اللبناني بالإحباط، وقسم آخر بالشماتة. والأذى الناجم عنها قد لا يطال الرئيس الشاب شخصياً بقدر ما يسرّع في استنزاف الرصيد المعنوي لـ ١٤ آذار كحركة استقلالية وكتحالف سياسي رافض للهيمنة، لانسجامه على ما يبدو مع عودة لدور سوري قائم ابتداءاً على العناية بالشأن اللبناني، ثم الرعاية، فالوصاية. وهذه الخسارة، على الرغم من كونها أكيدة، قابلة لبعض الضبط من خلال تواصل واضح ومقنع مع الجمهور لا يتجاهل طروحات الأمس التي تجاوب معها هذا الجمهور، ولا يستعيض عنها، كما فعل حليف الأمس وليد جنبلاط، بالاستعانة بمسلمات من الخطاب القومي لتعمية الانكسار والتراجع. والواقع أن صدقية سعد الحريري في لبنان ككل ولدى مؤيديه خاصة مقرونة بقدرته على الموازنة بين متطلبات الحالة المستجدة وبين المواقف التي شدّد عليها آنفاً.
أما الخسارة الثانية فهي ذات طابع مبدئي، ونتائجها تتعدى الدائرة اللبنانية لتشمل المحيط العربي. فالزيارة التطبيعية تمنح الحكم في دمشق ضمناً صك براءة إزاء سلسلة لأحداث الجسام التي شهدها لبنان، والتي يشكل اغتيال رفيق الحريري حلقة هامة منها، وذلك بحجة عدم ثبوت التهمة قضائياً، والاعتماد على المحكمة الدولية بهذا الصدد. وهذا في واقع الأمر هو تخلٍ عمْا أوشك أن يتكرّس كإنجاز جوهري في أعقاب مقتل الحريري، وهو الانتقال من صيغة الإرهاب السلطوي والذي مارسه النظام السوري وغيره مراراً وتكراراً إلى منطق المساءلة والمحاسبة. طبعاً لا يكفي أن يكون النظام الحاكم في سوريا قد هدّد الرئيس الراحل مباشرة بالقتل، ولا يكفي أن يكون هذا النظام قد فرض على المجتمع اللبناني أعباء هيمنة استخباراتية وسياسية شاملة ومنهكة بحجة ضمان الأمن، ثم أن يكون قد تبرّأ من مسؤولية التحقيق بالتجاوز الصارخ لهذا الأمن والمتشكل باغتيال الحريري وصحبه من خلال التلكؤ لأشهر طويلة عن فتح تحقيق بالموضوع، لا يكفي كل ذلك لإثبات قضائي لتهمة االقتل على النظام، ولكنه أكثر من كافِ لإبقائه في دائرة الاتهام مع ما يستتبع ذلك من وجوب اتخاذ خطوات، وإن رمزية لمواجهة التفاوت الخطير بين جهوزية هذا النظام لفرض سطوته بالقوة وبين عجز من يستهدفهم في لبنان وامتناعهم عن التصدي والرد. الصعوبة هنا تكمن بأن ثمة فريق محلي في لبنان يعترض على ما هو بديهي بهذا الشأن، إذ حتى الإهانة السافرة لشخص رئيس الحكومة اللبنانية السابق لم يكن بالإمكان مقابلتها باستنكار رسمي. بل منطق هذا الفريق، والمتحالف عضوياً مع النظام في دمشق، هو بأن طي الصفحة انطلاقاً من واجب المحافظة على العلاقات الأخوية وصون القضية هو أمر واجب. الصفحة تطوى طبعاً عن أية مساءلة أو محاسبة، أما اختلال التوازن في القوى وما يستتبعه دورياً من تجاوزات جديدة فيبقى مصدر قوة لهذا الفريق ولحلفائه في الخارج. فعلى هذا الأساس كانت اتفاقية الدوحة والتي جعلت من جريمة التنكيل بالأبرياء وتدمير المؤسسات يوماً مجيداً ومسألة يتوجب تجاوزها حفاظاً على الوحدة الوطنية، فيما سلاح المعتدي يبقى مشهراً. فزيارة رئيس الحكومة اللبنانية لدمشق تثبت خسارة منطق المساءلة والمحاسبة وتطلق العنان لمن شاء لمتابعة ما شاء من إرهاب سلطوي.
أما الخسارة الثالثة، فلا شك أن البعض سوف يعتبرها ربحاً صريحاً، وهي دفع الولايات المتحدة باتجاه اعتماد «الواقعية» في سياستها في الشأن اللبناني، والواقعية هنا هي اعتبار لبنان جزء وحسب من ملف سياسي آخر، وهو الملف السوري، بدلاً من التوجه الذي تشكلت معالمه بعد تحرك ١٤ آذار ٢٠٠٥ والذي ينظر إلى لبنان على أنه ملف مستقل. فحضور لبنان في واشنطن لتوّه هزيل ومرتبك، والأعوام الماضية لم تشهد تحويلاً للاهتمام العرضي والغرضي الذي أبدته بعض الجهات، داخل الحكم وخارجه في الولايات المتحدة، بالموضوع اللبناني، إلى اهتمام أصيل قابل للاستدامة. والنتيجة اليوم، بعد الزيارة، كما في أعقاب الانقلاب الجذري في موقف وليد جنبلاط، أحد أقوى الأصوات التي دعت بالأمس إلى تأصيل هذا الاهتمام، يعفي الحكومة الأميركية من قدر كبير من المسؤولية تجاه لبنان في صياغتها لتصورات الحلول المستقبلية للمنطقة.
فهل أن أداء التوجه الاستقلالي في لبنان خلال الأعوام الماضية يكشف فعلاً عن حدود طاقته، ولا يجوز بالتالي تحميله ما هو فوقها، وتفهم الزيارة على هذا الأساس، أم هل الأمر قابل لمراجعة؟ هذا هو السؤال الذي يتوجب على هذا الفريق الإجابة عليه، داخلياً، ولجمهوره في لبنان، ولمتتبعيه في المنطقة والعالم
ربح موعود وخسارات أكيدة في زيارة دمشق حين وقف الصحفي والمستشرق الألماني “بيتر شو لاتور” في المدينة العربية المدمرة عام 1982 راعه أمران؛ حجم الدمار الماثل أمام ناظريه، وحجم الصورة المعلقة فوق الدمار! لقد كانت المدينة، وهي حاضرة تاريخية منذ أيام روما، بنواعيرها القديمة وآثارها العريقة، غارقة في الدم، تعزف مراثيها في نحيب عميق، بعد قصفها براجمات الصواريخ في هجوم عنيف فقدت خلاله ثلاثين ألفا من أبنائها. أما الصورة التي ارتفعت بحجم جبل من الجماجم، فتذكر بأتيلا وتيمورلنك. تنهد “لاتور” وقال؛ لم أكن أفقه معنى تحريم الصور، حتى رأيت جبل الجثث، وحجم الصورة بمقدار جبل! العقل الأصولي جامد بين النصوص… قراءة المزيد ..
ربح موعود وخسارات أكيدة في زيارة دمشق فهل هو قدر الزفت لمواطن منكود ووطن منكوب؟ أو لا قيمة للون بل الانتماء؟ لون جواز السفر (الباسبورت) الكندي قاتم معتم، ولون جواز السفر الأوربي أحمر زاهي، وهناك من الجوازات ما هو أخضر فاقع أو كحلي غامق، ولكن هل يلعب لون الجواز أي دور؟ وأنا أعرف مشكلة (جواز السفر) منذ أن وعيت؛ فقد حيل بيني وبين العديد من الوظائف، مع أحقيتي في بلدي، ولكن العلم آخر ما به يفكرون والمهم الولاء الحزبي والتعصب المذهبي؟ فاضطررت أن أبحث عن أرض ألجأ إليها تؤمن لي الرزق والأمان، بعد أن لم يبق أمان لطير وبطة، ويعسوب… قراءة المزيد ..