مشاركة القوى اليسارية في ثورات الربيع العربي لم تكن مؤثرة ، فهي آخر من شارك في انتفاضة عفوية انطلقت من الشارع مباشرة ومن قوى شبابية ليس لها علاقة بأي من القوى اليسارية، ودورها فيما بعد أحد الأدوار الثانوية، وخاصة أن القوى اليسارية المتعارف على أنها إشتراكية أو شيوعية، بعيدة أصلاً عن الشارع في البلدان التي شهدت هذه الثورات، وذلك لأسباب متعددة، قد تختلف من بلد إلى آخر، ولكن يمكن إجمالها في أنها بعيدة عن روح العصر، ما زالت تعيش في إطار أيديولوجيا فات زمانها، وهو ما أكدته التغييرات العالمية العاصفة التي بدأت مع إنهيار أنظمة بلدان كتلة الدول “الإشتراكية” في التسعينات من القرن الماضي، وتحول هذه البلدان لأنظمة ديمقراطية، ليبرالية سياسياً واقتصادياً، بعكس كل التنظير “اليساري” حول أولوية الشعارات الإشتراكية واعتبار الليبرالية عدواً يجب محاربته، وذلك بالإعتماد على النصوص القديمة التي لا علاقة لها بالوقائع الراهنة في هذه البلدان وفي العالم.
القوى اليسارية رغم شعاراتها الملحقة حول الديمقراطية، ما زالت بعيدة عن الهم الشعبي الذي عبر بوضوح تام مثل الشمس أن ما يريده هو الحرية والكرامة والعدالة بإنهاء الاستبداد من أية جهة أتى من اليمين او اليسار أو الوسط وهي تقسيمات لم تعد تهم سوى من يتعبدون النصوص القديمة الماركسية وغيرها التي تشوش رؤيتهم للاوضاع الراهنة، وكمثال على هذا التشوش الذهني سعي كتاب يساريون للبحث في وصف الثورات حسب دور الطبقات فيها، علما بانها شاملة لجميع الطبقات بلا تمييز والإنقسام الرئيسي فيها بين القوى الديمقراطية التي تشمل كل الطبقات من جهة، والقوى المؤيدة للديكتاتورية وفيها قطاعات من كل الطبقات من جهة أخرى. تفسير اليسار الخيالي يمكن إشتقاقه بسهولة من نصوص ما زال يتبناها ويعتقد أنها العلم الوحيد الصحيح القادر على تفسير كل ما يجري في العالم.
قد يعتقد البعض أن الإستبداد والقمع في الدول العربية كان موجهاً بالدرجة الأولى للقوى اليسارية مما اضعفها بالنسبة للقوى الاخرى، ولكن هذا غير دقيق إذ أن القمع كان موجها للجميع ولم يختص بها، ورغم هذا القمع فقد انطلقت الثورة دون علم الجميع. فيما أطراف محسوبة على اليسار تحالفت مع الانظمة المستبدة لتأمين مصالحها على حساب الشعب المضطهد والمهمش، وكمثال على ذلك الأحزاب “اليسارية” التي تشارك في الجبهة الوطنية التقدمية التابعة للنظام السوري والتي تضم أحزاب شيوعية واشتراكية إلى جانب حزب السلطة.
لا أرى أن هذه الثورات قد اعطت دروساً جديدة لليسار لتجديد نفسه وتعزيز دوره، فإذا كانت التغييرات العاصفة في العالم لم تدفعه للتخلي عن نظرياته القديمة فإني أشك ان الثورات من أجل الحرية ستدفعه لذلك. لكي يجدد نفسه يجب بالدرجة الاولى ان يتخلى عن كل الأيديولوجيا التي لم تعد مناسبة للعصر، ولا يكفي إجراء تجميل بلصق الديمقراطية ويضيفها لشعاراته، فإذا لم تكن الديمقراطية والليبرالية هي أولويته الرئيسية فأي تغيير او تجديد هو ديكور لن يقنع أحداً، يبقه حياً من بقايا عهود سابقة، غير مؤثر أو مقبول من الغالبية التي تريد بناء نظام ديمقراطي حقيقي سيستغرق زمناً طويلاً ويحتاج إلى جهود مضنية. لذلك أتوقع أن القوى اليسارية ستكون مشاركتها محدودة وغير فاعلة فيما يلي سقوط الانظمة الإستبدادية، فالتغيير المطلوب لا يتناول الشكل بل المضمون ومعظمه.
كما لا أظن أن الاحزاب اليسارية ستقبل قيادات شابة ونسائية تقود حملاتها الانتخابية، “فالقيادات التاريخية” ما زالت مهيمنة في صفوفها ولن تتخلى عن مناصبها للشباب في أغلب الحالات، وستقاتل من أجل بقائها على رأس الهياكل المتبقية من أحزابها، فهي مفصلة أصلاً لتناسب قياسها. فإذا كانت الستالينية قد دحرت في الإتحاد السوفييتي السابق فإن بقاياها ما زالت حية في أحزاب اليسار الباقية ونماذجها التي تقلدها هي للبعض القيادة “التاريخية” الكوبية والكورية وهي “جمهوريات وراثية”، وربما لآخرين الصينية والفييتنامية التي لا تزال تطبق “ديكتاتورية البروليتاريا” الموكل بها للحزب وأمينه العام. هل سيتخلى الرفيق نايف حواتمة مثلاً لصالح الشباب عن أمانة عامة الجبهة الديمقراطية التي يحتفظ بها منذ تأسيس الجبهة في العام 1969، وهي نفس المدة التي حكم فيها القذافي ليبيا إلى أن أطاحت به الثورة؟ لا أظن ذلك، فالأمناء العامون لا يتركون كراسيهم عادة إلا لحملهم للقبر.
أما أن يتمكن اليسار من الحد من تأثير الإسلام السياسي السلبي على الحريات العامة وقضايا المرأة فلا أعتقد أن ذلك ممكن، فالاحزاب اليسارية والقوى العلمانية عامة تدعو لهذه الحقوق منذ زمن بعيد فلا تلقى الإستجابة من غالبية الشعب، الذي بحكم تغييب وعيه في مرحلة الانظمة الاستبدادية الطويلة يعطي تأييده بشكل واسع لقوى الإسلام السياسي. هذا التأييد لن ينتهي بجهود اليسار أو العلمانيين، دورهم سيساعد ولكنه ليس الحاسم والرئيسي. القطاعات الشعبية التي ما يزال الإسلام السياسي مؤثراً في حشدها خلفه ستتعلم من تجربتها الخاصة ومع الزمن في ظل الديمقراطية، أن الإسلام السياسي لا يمثل مصالحها وتحديثها وتـأمين حقوقها التي اقرتها الشرائع الإنسانية، وأنه يسعى لإبقائها متخلفة، وحتى يمكن أن يجردها من المكاسب القليلة التي تحققت أثناء الحكم الديكتاتوري. وأظن أن المثال الإيراني افضل نموذج لذلك، فقد حظيت الثورة الإيرانية بقيادة الإسلام السياسي بتأييد الملايين من الشعب الإيراني، ثم بعد تجربة الحكم الديني لولاية الفقيه بدأ الشباب والنساء بالتمرد على النظام الإسلامي وتصاعدت انتفاضاتهم حتى باتت مليونية منذ عامين، والنصر في النهاية سيكون لهم. أما عن دور اليسار الإيراني في هذه الانتفاضات فهو تقريباً لا شيء.
هذا مع الأخذ بعين الإعتبار أن الإسلام السياسي لا يمكن وضعه في سلة واحدة، رغم ان مراجعه واحدة، فالإسلام السياسي المعتدل كحزب العدالة والتنمية التركي قبل بالحكم من خلال العلمانية وفصل الدين عن السياسة وتخلى عن تطبيق الشريعة في شؤون المجتمع والدولة وقدم نموذجاً للحكم حداثياً ومتقدما يكاد يشابه الأحزاب المسيحية الديمقراطية في الغرب. وربما لا تكون تجربة حزب النهضة التونسي بعيدة عن هذا الإتجاه، فإذا حدث ذلك وهو امر غير مستحيل، فسيشكل عندها الإسلام السياسي منافساً قويا على الاصوات الانتخابية مع القوى العلمانية والليبرالية واليسارية لفترة طويلة، علما بأن مثل هذا التطور لأقسام رئيسية من الإسلام السياسي لا يعني أن المتطرفين والسلفيين ضمن هذا التيار سينتهي دورهم ولكنه سيهمش كما اتوقع بشكل كبير، والمثال التركي ايضاً واضح في هذا المجال حيث الأحزاب الإسلامية المتطرفة ما زالت موجودة وتمارس نشاطاتها ولكنها محدودة التأثير حيث الكتلة الرئيسية في الشارع مع الإسلام الحداثي للعدالة والتنمية.
من المؤكد أن تقنية المعلومات الحديثة قد أدخلت تطويراً كبيراً على شكل العمل السياسي، لكنها لم تدخل وسائل اخرى مكان وسائل سابقة، بل أدخلت وسائل أحدثت ثورة في المفاهيم السياسية والإجتماعية نفسها فغيرت العالم.. فيما الاحزاب اليسارية متخلفة مرحلتين: الأولى عن الشكل الديمقراطي الليبرالي للأحزاب الحديثة من نموذج الحزب الإنتخابي غير الأيديولوجي، بسبب إستمرار تبنيها للمركزية الديمقراطية التي هي مركزية على الاغلب مع غطاء ديمقراطي، وهي ستتخلف بالتأكيد عن المرحلة الثانية الجديدة التي يدخلها المجال السياسي بعد عصر تقنية المعلومات والذي تجاوز الحزب الإنتخابي نفسه لأشكال جديدة من تحشيد الانصار لتحركات سياسية من خلال شبكات التواصل الإجتماعي، ودون الحاجة لتنسيبها لحزب سياسي ما حسب التقاليد القديمة في احزاب اليسار.
كما أن الخطاب السياسي التقليدي لليسار لم يعد يجتذب المهتمين بالشأن السياسي العام بقدر التعليقات القصيرة والمناقشات التي تشرك الجميع دون قيود، فمعظم أحزاب اليسار ما زالت تعمل في إطار ما تسميه “الأقنية التنظيمية” التي تقنن النقاش بحدود لا تتجاوز ما تريده القيادات الحزبية “التاريخية”. وحتى الإعلام الحزبي تجاوزه آلاف الإعلاميين السياسيين المستقلين الذين يرصدون الحدث ويكتبون عنه ويصورونه ويبثونه دون الحاجة لوسائط مثل الصحف الحزبية. لذلك فالأحزاب اليسارية “من النموذج اللينيني” أو غيره من النماذج لن تستطيع الإستفادة من التقنية الحديثة طالما انها لم تتخلص من مسألة رئيسية تحكم عملها وهي مطابقة الوقائع للنصوص بدل العملية العقلانية وهي مطايقة النصوص للوقائع الحديثة المتغيرة باستمرار.
ahmarw6@gmail.com
* كاتب فلسطيني – سوريا