خاص بـ”الشفاف”
في حين يشيع استخدام الانترنت، بحيث أن من يظل خارجه يعتبر “أمياً” بالنسبة للعالم الأول، لا تزال منطقتنا تعاني من الأمية الألفبائية التي اخترع الفينيقيون، أبناء المنطقة، أحرف ابجديتها، منذ ما يقرب الـ 4 آلاف سنة. وهي التي سمحت، عن طريق ربط الصوت بالرمز المكتوب، بفتح آفاق تدوين ما لا يحصى، حرفياً، من الكلمات. ما سمح بتسجيل وتدوين الأفكار، وبالتالي، حفظها من النسيان. وهكذا تراكمت معارف البشر وسمحت ببلوغ ما هو أبعد من القمر.
لكن الأمية الألفبائية لا تني تتفاقم في البلاد العربية؛ جراء فشل التنمية والحروب والعنف وموجات التهجير واللجوء التي تتسبب بها. فتقديرات الاونيسكو منذ عدة سنوات ان اعداد الأميين تقارب 70 مليون نسمة، معظمهم من النساء. فما بالك اليوم مع نكبة السوريين واليمنيين والعراقيين، والآن السودانيين، ناهيك عن اللبنانيين!!
دور المطبعة
بعد اختراع المطبعة في القرن السادس عشر، لعبت الطباعة دوراً كبيراً في انتشار الكتب وبالتالي شيوع القراءة؛ الأمر الذي لعب دوراً كبيراً في تطور المجتمعات الغربية وفي ثورتها العلمية والصناعية.
أما منطقتنا فلقد انتقلت من الثقافة الشفهية إلى عالم الصورة قبل اكتمال دورة الألفبائية ومرحلة القراءة الصامتة وتأثيرها على شخصية الفرد، التي أظهر أهميتها كل من “ماك لوهان” مؤلف كتاب “مجرة غوتنبرغ” و”فيليب آرييس”، خصوصاً في كتابه “تاريخ الحياة الخاصة“.
لذا تختلف مجتمعاتنا عن الغرب، فلقد تأخرت عنه في أن غالبية السكان فيها لم تتحول بعد إلى بلورة الفردانية التي انتشرت بعد نشر التعليم وشيوع الكتب المطبوعة، المتوفرة بكلفة بسيطة بسبب المطبعة. فعرفت القراءة الصامتة التي تسمح للفرد بحرية القراءة المطلقة والقدرة على تكوين آرائه النقدية والخاصة، ما يؤدي الى بروز مسافة تفصله عن الجماعة والاقتداء الاعمى بها. إضافة بالطبع الى تأثير ظهور البرجوازية والتصنيع والرأسمالية والتغيرات الهائلة التي حملتها لبنية المجتمعات الغربية كاستقطاب المدن للفلاحين وسكان الريف.
كسر الحواجز
مجتمعاتنا لا تزال مزيجا مختلطا، تجمع ما بين “أفراد“، يتكاثر ظهورهم صحيح، لكن في الوقت الراهن، تغلب الجماعات، سواء الدينية أم الإثنية أو القومية أو العشائرية، والتي ازداد تأثيرها بسبب الأوضاع المأزومة وشيوع العنف في غالبية بلدان المنطقة.
هذه المجتمعات تتعرض الآن للثورة التكنولوجية – الرقمية التي حملت معها قفزة نوعية على صعيد حرية حركة الأفكار والمعلومات والأخبار والأموال، ما كسر الحواجز بين البلدان، بحيث تحققت العولمة الفعلية التي نظّر لها ماك لوهان في كتابه “مجرة غوتنبرغ“.
أصبح العالم قرية صغيرة جعلت من حقوق الإنسان والمساواة ومبادئ العدالة القانونية وصيانة الحريات العامة والشخصية، من بديهيات الوجود المعاصر. وبعد تهاوي الجدران أصبح من المستحيل تغييب الصورة أو إخفاء المعلومة أو بقاء أي مجتمع بمنأى عنها.
يطرح ذلك على مجتمعاتنا مجموعة تحديات على صعيد المعرفة وحرية التعبير وعلى صعيد الأنظمة السياسية وعلى الصحافة نفسها، التي كما نعلم كانت في الغالب لسان حال الأنظمة وبوقها.
فنسمع عن موت الصحافة الورقية والكتب، كما عن موت السينما والإذاعة؛ لكن كل ذلك لم يتحقق حتى الآن. فالقديم لا يزول تماما، والتطور على الكرة الأرضية برهن على تعايش عدة أنساق مع بعضها البعض في نفس الوقت؛ أضف إلى ذلك أن القديم يترك آثاره بطرق شتى. هناك دائما مناطق تحتفظ بالعادات والتقاليد السابقة ولو على درجات ونسب متفاوتة.
لا شك أن تحولات عميقة تعصف بالإعلام العربي في ظل تحديات وسائل الاتصال التكنولوجية والرقمية. وفيما يرى البعض أنه يهدد الصحافة والقراءة عموماً، يرتأي البعض الآخر العكس؛ أنه يعطيها المزيد من الفرص اعتمادا على الإحصائيات التي تقول إن المحتوى العربي على الشبكة لا يشكل سوى 1% من مجموع ما تحويه، بينما تبلغ نسبة المتصفحين العرب 6% من زوار الشبكة.
الحاجة لصناعة المحتوى ودور التعليم
هذا يعني أن الحاجة للمحتوى العربي أكبر بكثير مما كانت قبل الثورة التكنولوجية. إذاً فلدى الصحافة، بما فيها صناع المحتوى ودور النشر العربية وغيرها، فرصة أكبر شرط أن تواكب التحول الحاصل على مستوى حرية التعبير واحترام شروط المهنة والصدقية.
بات الإنترنت بالنسبة للكتّاب عموماً مثل الأنبوب الذي يصلهم بجميع أنواع مصادر المعلومات عبر عيونهم أو آذانهم. ففوائد الإنترنت أكثر من أن تحصى.
مع تحذير بأن الكثير جدا يصبح كالقليل جدا؛ فعندما تعرض عليك آلاف النتائج للبحث عن موضوع ما، يصبح التحدي كيف ستجد بينها ما تريده وما هو أهل للثقة ويجيب على أسئلتك وكيف ستستخدمه.
من هنا يطرح للنقاش دور التعليم والتربية المستقبليين ودور المعلم. فلن تعود مهمة التربية تلقين المعلومات ـ كما هي حال غالبية مجتمعاتنا حتى الآن ـ بل ستتحول نحو التفكير النقدي والإرشاد والتوجيه والتمرين على البحث، من أجل استخدام أفضل الوسائل للاستفادة وللتمييز بين الغث والثمين.
اختلاف قواعد التفكير
لهذه النعمة، إذاً، أثمان. وسبق أن أشار “ماك لوهان”، في كتابه “الماسّ ميديا” إلى ذلك بقوله “إن الميديا ليست قناة فاترة للأنباء توصل إلينا قواعد للتفكير، لكنها تشكل أيضا سياق هذا التفكير“.
كان لأحد فراعنة مصر تبصّر مذهل عندما استمع إلى الحكيم تحوت، الذي أراد أن يشرح له دور الكتابة (الهيروغلوفية) بأنها “فرع من التعلم سيحسن ذاكرة شعبك؛ إن اختراعي وصفة تخدم الذاكرة والحكمة“، لم يتأثر الملك بهذا على الإطلاق ورد قائلا: “عندما يحصل الناس على هذه القدرات، فإنها ستزرع النسيان في قلوبهم، وسيتوقفون عن تدريب ذاكرتهم لأنهم سيعتمدون على الأشياء المكتوبة ولن يعودوا قادرين على استحضار ما في ذاكرتهم من أمور. إن ما اخترعته ليس وصفة للذاكرة وإنما للنسيان“.
لم يفرّق الفرعون بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية؛ فالكتابة قد تساهم بإضعاف قدرة الفرد على التذكر لأنه يعتمد على ما هو مكتوب، لكنها تعزز الذاكرة الجماعية، على مستوى البشرية ككل، فتسمح بالتأريخ لتحفظ بذلك الذاكرات البشرية، وهذا ما ساهم ويساهم في حدوث جميع القفزات العلمية والمعرفية عل مستوى العالم.
ومن هذا المنظار يرى كثيرون أن القراءة عبر الإنترنت تضعف القدرة على التركيز والتفكير. فالفكر ينتظر عبره الحصول على المعلومات بحسب الأسلوب الذي يوزعه لنا الإنترنت: كتيار من الجزيئات الكثيفة والتي تسيل بسرعة. قبله كان الفكر يغوص في الكلمات، لكنه الآن يشق السطح كما يفعل متزلج “الجت ـ سكي”.
يتطلب الأمر بالطبع انتظار التجارب النيرولوجية والفيسيولوجية طويلة المدى لكي تتضح الصورة النهائية لكيفية تأثير الإنترنت على قدراتنا المعرفية.
لكن دراسة بريطانية حديثة، حول عادات البحث على الإنترنت قام بها مختصون في جامعة لندن، توحي بأننا نعاني تغيرات عميقة في طريقتنا في القراءة وفي التفكير. الباحثون فحصوا آثار زائري موقعين شعبيين للبحث خلال 5 سنوات من أجل جمع معلومات عن سلوكهم؛ أحدهما يعود إلى المكتبة البريطانية، والآخر لموقع تربوي وكلاهما يسمحان بالوصول إلى مقالات صحف وكتب إلكترونية ومصادر أخرى مكتوبة.
تبين أن الأشخاص المستخدمين لهذه المواقع يقومون بنشاط من نوع “كشح القشدة“، فيقفزون من مصدر إلى آخر.. ونادرا ما يعودون إلى الأول. وعموما لا يقرأون أكثر من صفحتين. أحيانا يفتحون مقالا لفترة طويلة، لكن هذا لا يعني أنهم قرأوه أو رجعوا إليه.
واستنتج الباحثون أن المستخدمين لا يقرأون السطور بالطريقة التقليدية. إذ توجد إشارات على أن هناك أشكال “قراءة” جديدة تظهر، وأن المستخدمين يتصفحون أفقيا بحسب العناوين ومحتويات الصفحات والملخصات للوصول إلى خلاصات سريعة.
ربما صرنا نقرأ أكثر من السبعينيات والثمانينيات، حين كان التلفزيون هو الوسيط الإعلامي المفضل، بفضل الحضور الدائم للنصوص على الإنترنت وبسبب قراءتنا لرسائل الهاتف النقال. لكنه نوع مختلف من القراءة. فبحسب العلوم النفسية: نحن ما نقرأه بالطبع، وهويتنا تتأثر أيضاً بطريقة قراءتنا.
إن القراءة عبر الإنترنت تعطي الأولوية للفعالية والمباشرة فوق أي اعتبار. مما قد يضعف قدرتنا على القراءة المعمقة التي انبثقت عن تقنية أقدم تعود إلى اختراع المطبعة، وجعلت من قراءة الكتب الطويلة والمعقدة شيئا عاديا. عندما نقرأ على الويب، نصبح بحسب البعض مجرد “مفككي شيفرة المعلومات“.
كما أن امتلاك الجميع للهاتف الذكي، جعلهم يبحثون عن السرعة بابتداع كتابة جديدة تجمع الأحرف والأرقام في اللغة العربية، او الاكتفاء بالرسائل الصوتية.
فماذا عن الأجيال التي دخلت مباشرة هذا العالم وهذا النوع من القراءة دون المرور بتجربة الكتابة والقراءة التقليديتان؟
القراءة ليست مقدرة غريزية عند الكائن الإنساني كما هي اللغة. إذ يجب أن نمرّن فكرنا لكي يترجم الحروف الرمزية المكتوبة التي نراها للغة الشفهية التي نفهمها. وتبرهن التجارب أن قراءة “الإيديوغرام“ (كما في اللغة الصينية) تنمي دورة ذهنية مختلفة جدا عن تلك التي تستخدم في قراءة اللغة الألفبائية. وتشمل التغيرات المناطق الدماغية وصولا إلى الوظائف المعرفية الأساسية كالذاكرة والتأويل البصري والسمعي. وبالطريقة نفسها، يمكن توقع أن تكون الدوائر التي ينسجها استخدامنا للإنترنت مختلفة عن تلك التي تنسج جراء قراءاتنا للكتب والمطبوعات الأخرى.
تجربة نيتشه في الكتابة
فوق هذا وذاك، تبين تجربة فريدريك نيتشه (1844 ـ 1900) تأثير أداة الكتابة في الفكر. فلقد اشترى في العام 1882 آلة طباعة بسبب بصره الذي صار يضعف وتعبه من التركيز طويلا على الصفحة، ما تسبب له بأوجاع متكررة في الرأس. وأجبر على الإقلال عن الكتابة، وخاف من ألا يعود باستطاعته الكتابة مطلقا. أنقذته الآلة الكاتبة عندما سيطر عليها وصار يكتب مغمضاً عينيه وبواسطة أطراف أصابعه فقط. وصار بإمكان الكلمات أن تسيل من فكره مجددا على الصفحة.
لكن كان للآلة الطابعة تأثير آخر على كتاباته. لاحظ أحد أصدقائه، وهو مؤلف موسيقي، تغيرا في أسلوب كتابته. فنصوصه التي كانت بالأصل مقتضبة ازدادت اقتضابا، وصارت برقية: “ربما بسبب الأداة الجديدة سوف تحصل على لغة جديدة“، كتب له صديقه الموسيقي مسجلا أنه بحسب تجربته يجد أن أفكاره حول الموسيقى ولغته غالبا ما تتعلق بنوعية الورق والقلم الذي يستخدمهما. “معك حق“، أجابه نيتشه مضيفا: “أدوات كتابتنا تشارك في تفتح أفكارنا“. ولقد سجل فريدريك كيتلر، الألماني المختص بالميديا، أن أسلوب نيتشه تغير مع استخدامه الآلة من الحجة والبرهان إلى الحكمة، ومن الأفكار إلى اللعب على الكلمات، ومن البلاغة إلى الأسلوب التلغرافي.
في الخلاصة، غيّر ظهور الساعة من تعامل البشر مع الوقت، كذلك فعلت المطبعة والهاتف والآلة الحاسبة والراديو والتلفزيون.
والإنترنت “سيستم” للأنباء له قدرة مذهلة، يجمع معظم هذه الوسائل التقنية الفكرية. لقد أصبح مخططنا وساعتنا ومطبعتنا وآلتنا الكاتبة والحاسبة والتلفون والراديو والتلفزيون.
لا بد أن الإنترنت ليس الألفبائية، وحتى لو استطاع الحلول مكان المطبعة فسوف ينتج عن ذلك شيء مختلف تماما.
الإنترنت هو أكثر من أداة جديدة للاتصال. إنه أداة تحول العالم وهذا التحول لم ينته بعد.