فى الجزء الأول من هذا المقال رأينا كيف تقوم جماعة الإخوان المسلمين بدور ضخم فى مأساة توريث مصر، دون قصد منها، وذلك بمجرد وجودها فى حد ذاته، إذ يستخدمها رجال النظام كفزاعة يرهبون بها المواطنين بالداخل والدول الغربية بالخارج قائلين لهم: إما أنا أو الإخوان! وبذلك أصبح الإخوان هم أهم أسلحة النظام فى معركته لتأمين توريث مصر من الرئيس حسنى مبارك لإبنه جمال مبارك.
وأنتقل هنا إلى دور الأقباط، والقيادات الكنسية فى توريث مصر. ونجد أنه بخلاف الموقف المذبذب للإخوان المسلمين بين مؤيد تارة ومعارض تارة، فإن موقف القيادة الكنسية للأقباط كان واضحا وثابتا فى تأييد التوريث – وإن لم يستخدموا هذا التعبير. إذ صدرت تصريحات وأقوال لقداسة البابا شنودة نفسه، وأخرى لبعض مساعديه من الأساقفة، تتحدث عن “حب الشعب كله” لجمال مبارك، و”لا يوجد من هو أفضل منه”. ولا يعكس هذا موقفا قياديا مختلفا عن موقف الأغلبية من أقباط مصر. فواقع الأمر أن أغلبية الأقباط داخل مصر وخارجها لا يمانعون من استلام جمال مبارك للحكم، وإن أعلن بعض الأقباط منفردين بمعارضتهم لمبدأ التوريث. ولكي نفهم موقفهم هذا، علينا أن ندخل بشكل أعمق فى السيكولوجية القبطية عبر التاريخ القبطى- المصرى الحديث.
وطنية الأقباط
فى أدبيات تاريخ البابوات الأقباط المعاصر نجد هذا الموقف للبابا بطرس الجاولى فى حادثة شهيرة له مع قيصر روسيا أيام حكم محمد على. فقد خشيت روسيا القيصرية من النفوذ المتصاعد لمحمد على فى الشرق الأوسط والذى بدا قريبا من تهديد تركيا وجاراتها فى الشمال، فأرادت روسيا أن تلعب لعبة الاستعانة بالاقليات لإضعاف الجبهة الداخلية للبلدان بالمنطقة، فأرسل قيصر أميرا روسيا لمقابلة بطريرك الأقباط- بطرس الجاولى – وعرض عليه وضع الأقلية القبطية فى مصر تحت حماية قيصر روسيا العظيم. فابتسم البطريرك القبطى وسأل الأمير الروسى قائلا: هل قيصركم العظيم يمكن أن يموت؟ فأجاب الأمير فى دهشة: بالطبع يا سيدى، إنه يموت مثل سائر البشر. فقال البطريرك بطرس: ولماذا إذن تريدنى أن أدخل فى حماية ملك يموت، بينما نحن نعيش فى حماية ملك الملوك الله الحي الذى لا يموت! فانصرف الأمير مبهوتا. وعندما ذهب لمقابلة محمد على باشا سأله عما أعجبه فى مصر، وهل أعجبته آثارها، أجاب الأمير: نعم ما أعظم أبو الهول والأهرام ولكن ما آثار إعجابى هو بطريرك الاقباط! وعلم محمد على بعد ذلك بما حدث فقابل البطريرك وشكره.
وليس هنا مجال ذكر العشرات من المواقف الوطنية الناصعة المماثلة للعديد من قادة الأقباط الروحيين والسياسيين عبر القرنين الماضيين فى مقاومة الإستعمار والتمسك بالوطن مصر ووحدته وكرامته. وصولا إلى البابا الحالى الأنبا شنودة الثالث بمواقفه الشامخة دفاعا عن الوطن ووحدته، بل وبمواقفه المؤيدة للحقوق العربية والفلسطينية، حتى أطلق عليه البعض لقب “بابا العرب”. وقد رفض البابا شنودة الذهاب مع الرئيس السادات إلى القدس فى رحلته الشهيرة، وقال أنه لن يدخل القدس إلا ويده فى يد إخواتنا المسلمين. ومن المعروف أن الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات كان لا يزور مصر إلا ويزور البابا شنودة، وقد شاهدت مؤخرا على يو تيوب فيديو تاريخى لإحدى هذه الزيارات.
ولهذا كله جاءت تصريحات قداسة البابا شنودة عن حب الشعب لجمال مبارك مثيرة لدهشة البعض من المصريين- وصادمة للبعض الآخر، حتى أن بعض المفكرين المصريين المعروفين بدفاعهم عن حقوق الأقباط فى المواطنة الكاملة، مثل الروائى علاء الأسوانى، كتبوا معترضين على موقف البابا مطالبينه بالابتعاد بالكنيسة عن السياسة.
فما الذى يدفع بالقيادة الكنسية القبطية المشهود لها بالمواقف الوطنية التاريخية الصلبة حتى فى أحلك فترات التاريخ باتخاذ موقف يبارك توريث مصر فى اللحظة المصيرية الراهنة؟
من محمد على إلى السادات
لا تستطيع “الأغلبية” فى أى شعب أن تدرك إدراكا كاملا مشاعر “الاقلية” التى تشاركها الوطن، لأنها لا ترى هذه الاقلية إلا من الخارج- فتراها مشوشة – والأغلبية المسلمة فى مصر- بما فى ذلك النخبة المثقفة- لا تفهم مشاعر الأقلية المسيحية بشكل عميق. وعلى من يريد مخلصا معرفة مشاعر الأقباط فى مصر إدراك أن الأقباط لم يشعروا بتهديد حقيقي يمس وجودهم ودينهم ومستقبلهم فى مصر ومنذ عهد محمد على كما يشعرون منذ مطلع سبعينات القرن الماضى وإلى اليوم. فمحمد على كان زعيما وطنيا يسعى لمصلحة مصر- رغم أنه ليس مصريا- عبر رؤية عصرية ترتكز على الأخذ بأسباب التقدم والحداثة من علوم وفنون بغض النظر عن الدين والجنس – واستطاع بذلك أن يضع مصر على طريق التقدم والنهضة حتى أصابه الغرور وراح يهدد أوروبا فانكسر أسطوله على سواحلها. وتحت رؤية كهذه، يشعر الأقباط بالأمان ويقدمون كل ما لديهم للوطن. وتحت الإحتلال الإنجليزى لمصر كان للأقباط دور قيادى باهر لحركة المطالبة بالاستقلال حتى قام الإنجليز بنفى أربعة من زعماء الأقباط وثلاثة من زعماء المسلمين (لاحظ النسبة) وكانوا يتذمرون دائما من أن الأقباط لا يستجيبون إطلاقا لمحاولات التفرقة الدينية. ومن يشاهد صورا تاريخية لمصر فى تلك الفترة يرى دائما صورة الصليب داخل الهلال فى الشعارات واللافتات المرفوعة بشكل وطنى بالغ الجمال. وكان للأقباط زعماء وطنيون ينظر إليهم المسلمون على أنهم زعماؤهم أيضا مثل السياسى الوفدى الكبير مكرم عبيد والقس سرجيوس الذى كان يخطب ضد الانجليز فى الجوامع والكنائس على حد سواء.
وعندما قام عبد الناصر بانقلابه العسكرى لم يكن بين مجلس قيادة الثورة قبطى واحد. وإن كان عبد الناصر بعد ذلك قد وضع أقباطا كوزراء للتموين والمواصلات وغيرها. ولكن دور الأقباط السياسى بدأ فى الإنحسار فى عهد الثورة بسبب انتهاء دور الأحزاب وموت الحركة السياسية الداخلية بشكل عام. ولكن الثورة لم تستهدف الأقباط كأقلية وإن كانت قرارات التأميم قد أضرت بمصالحهم الاقتصادية بشكل ربما أكثر – نسبيا – مما أضرت المسلمين.. ولكن لم يشعر عامة الاقباط بالغبن أو الاضطهاد فى عهد الثورة، إذ كان توجه الثورة علمانيا بشكل عام- دون استخدام هذا التعبير- وكان اليسار العلمانى فى مواقع السلطة الثقافية والاجتماعية مما أدى إلى تحرر اجتماعى سريع ومدهش فى الخمسينات والستينات صاحبته حركة ثقافية وفنية باهرة ومثيرة. شارك الاقباط فى كل هذا بشكل طبيعى بسبب غياب الإخوان ورؤيتهم الدينية العتيقة عن الساحة بعد إطلاقهم الرصاص على عبد الناصر الذى ضربهم بعدها ضربه أبعدتهم عن التأثير فى مصر لما يقرب من عشرين عاما. ولم تحدث حوادث عنف ضد الأقباط فى عهد بعد الناصر وتبرعت الدولة لبناء كنيسة الكاتدرائية وهى أكبر كنيسة قبطية فى مصر- ولم يكن يستطيع أحد أن يكتب أو يعلن من على المنابر تكفيرا للأقباط أو النصارى- وبذلك لم يشعر الأقباط إلا بالأمان والمشاعر الوطنية الخالصة مثلهم مثل المسلمين تماما. وعلى هذا شاركوا فى حروب مصر عام 67 وحرب الاستنزاف ثم حرب العبور عام 73 حيث اشترك عشرات الآلاف من الأقباط جنودا وضباطا وعلى مستوى اللواء والقائد جيش واستشهد منهم الآلاف بجانب أخوتهم المسلمين) الفريق فؤاد عزيز غالي .. قائد الفرقة 18 التى حررت مدينة القنطرة شرق ودمرت أقوى حصون خط بارليف عين قائدا للجيش الثاني الميداني ومُنح رتبة لواء).
صدمة التطرف
ما أن انتهت حرب العبور بالانتصار المصرى المشرف حتى بدأت الاقلية القبطية تسمع ما لم يسمعه الكثيرون من الأغلبية المسلمة، وهى عبارة “النهاردة السبت وبكرة الحد” ، ومعناها أننا انتصرنا اليوم على اليهود أصحاب السبت وغدا سننتصر على أصحاب الأحد- أى المسيحيين! وهكذا بدأت نعمة الكراهية والعداوة والتعصب البغيض ضد الاقباط تعلو فى سبعينات القرن الماضى، تغذيها رؤية دينية متطرفة للجماعات الإسلامية التى راحت تفرخها جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن أطلق لها نظام السادات العنان وشجعها على الاستيلاء على النقابات واتحادات الطلاب والاتحادات المهنية والجامعات وأستطاعت الرؤية الإخوانية السلفية أن تسيطر على الشارع المصرى بمزيج من الترغيب والترهيب. وفى خلال سنوات قليلة وجد الأقباط أنفسهم يعيشون فى مجتمع راحت فيه الأغلبية المسلمة من شركائهم فى الوطن تتغير تغيرا سريعا وظاهرا ومحسوسا وبشكل مرعب حقا على جميع الأصعدة.
لكى تفهم مشاعر الأقباط الدفينة ضع نفسك مكان ذلك المواطن القبطى الذى يرى جيرانه المسلمين الرجال الذين كانوا يشبهونه فى الملبس والمظهر والسلوكيات وحب المرح والحياة قد بدأوا يرتدون الجلباب الأبيض ويطلقون لحاهم السوداء بشكل ضخم ويحملون المسابح والمسواك ويقحمون الآيات فى كل شئ ويمتنعون عن الضحك ويمتنع البعض منهم حتى عن إلقاء السلام أو تحية الصباح عليه، بينما يرى جيرانه من النساء المسلمات وقد بدأن يلبسن الحجاب والبعض منهن النقاب، وامتنعن عن مصافحة الرجال بالأيدى كما كن يفعلن ببساطة وتلقائية من قبل! يحدث هذا بشكل متزايد حوله بينما يرى جيرانه يطربون ويستمعون بنشوة وقبول لشيوخ ووعاظ فى الجوامع يمطرون بلعناتهم “الكفار من اليهود والنصارى” فى ميكرفونات تصم الآذان، ثم يرى ان محلا تجاريا فى البيت الذى يسكن فيه قد تحول إلى زاوية أو مصلى وأن ميكروفونا هائلا قد نصب أمام نافذته مباشرة، ثم يسمع هذا القبطى- الذى كف زملاءه وأصدقاءه القدامى عن دعوته لمنازلهم، عن حوادث العنف المتتالية ضد الأقباط فى القاهرة والإسكندرية والصعيد وكل مكان، ثم حوادث اسلمة الفتيات حتى القاصر منهن، ثم مذابح الزاوية الحمرا ثم مذبحة الكشح، ثم حرق الكنائس ومطاردة المصلين الأقباط. إن هذا المواطن القبطى الذى يرى كل هذا يحدث حوله بشكل متزايد متسارع لابد أنه سيشعر بالتهديد الخطير له ولعائلته ولمجتمعه ولوطنه كله، لذلك لم يكن غريبا أن بدأ الشباب القبطى يهاجر من مصر بأعداد متسارعة، مما حدى بالبابا شنودة أن يقول بأسلوبه المرح المعروف واصفا هذه الحالة الخطيرة – وكانت أيامها جماعة التكفير والهجرة تنشر الرعب والعنف فى أنحاء مصر “هم لديهم التكفير والهجرة، وأحنا عندنا التفكير فى الهجرة”.
ربما لا يفهم المثقفون المسلمون معنى أن يرى الأقباط أن مصر قد تحولت فى خلال بضع سنوات إلى مجتمع مصاب بلوثة التشدد الدينى إلى حد يقترب من الهوس والمرض، وبشكل طارد للقبطى الذى لم يعد يجد له مكانا فى الساحة المصرية العامة التى احتلها الإسلاميون بصخبهم الدينى بالغ الإزعاج والتهديد لغير المسلمين بل وللمسلمين المعتدلين أيضا، فاضطر المواطن القبطى إلى أن يهجر ساحة المواطنة المشتركة ويلجأ إلى كنيسته يحتمى بها من طغيان وصخب وهوس الشارع المصرى الذى لم يعد مصريا وإنما صار شارعا إسلامويا وهابيا أفغانيا باكستانيا، ولكن بالتأكيد ليس مصريا. فازدحمت الكنائس بالأقباط الفارين من مجتمع طارد لهم، فضاقت بهم واحتاجوا إلى مئات الكنائس الجديدة لاستيعابهم ولكن الدولة لا تمنهم تصاريح بناء فيصلون فى البيوت فيلاحقهم “إخوانهم فى الوطن”! هائجين ثائرين غاضبين ويقومون بإشعال النيران فى المكان كما حدث، ومازال يحدث، فى عدة مدن وقرى مصرية!
فى هذا المناخ المرعب للأقباط يقدم النظام نفسه باعتباره الملاذ الوحيد من خطر الإخوان المسلمين المسئولين عن دروشة المجتمع المصرى وتحجيب نسائه وحرمانه من الإبداع والفنون والتقدم والحياة العصرية، فكيف يستطيع الاقباط فى هذا المناخ أن يعادوا النظام الذى يحميهم من خطر الدولة الدينية الذى بات على الأبواب؟!
إن المجتمع المصرى قد صار مجتمعا دينيا لأول مرة منذ قرنين – ولم يبق سوى النظام الحاكم وحده لم يرفع اللافتات الدينية، وأن كان بعض قيادانه قد فعل ذلك وسار فى الزفة مثل غيره، وأصبح الأقباط فى وضع تحاصره المخاوف من كل جانب، وواضح أن قياداتهم الكنسية قررت أن تختار أهون الشرين. وهو استمرار النظام القائم رغم أن الكثيرين يحملونه مسئولية تدهور الأحوال فى مصر فى كل اتجاه، بما فى ذلك تدهور العلاقة بين الاقباط والمسلمين- وفشل النظام فى تقديم بديل وطنى فعال لما يطرحه الإخوان من رؤية ما تزال هى المؤثرة فى الشارع المصرى. كنت .
.أتمنى ألا يكون هذا هو حال مصر اليوم
كنت اتمنى والحال على هذه الصعوبة، لو إختار الأقباط وقياداتهم الروحية أن يقفوا موقفا وطنيا ناصعا يضاف إلى مواقفهم التاريخية التى سجلها التاريخ بأحرف من ذهب. مطالبين بسمتقبل أفضل لمصر تتخلص فيه من فساد الاستئثار بالسلطة والحكم العائلى، وفيه تمتنع القيادات الكنسية عن الزج بنفسها فى الصراعات السياسية، بينما يدخل فيه المواطنون الاقباط إلى المعترك السياسي بشجاعة وحماس وإيمان بأن مصر لن تسقط أبدا فى مستنقع التطرف الدينى. وأن عليهم أن يضعوا أيديهم فى أيدى إخوتهم من المسلمين المعتدلين، والعلمانيين، والليبراليين، واليسارين، والوطنيين المخلصين لانتشال مصر من الهوة الحضارية التى سقطت بها فى ثلث القرن الأخير
وما زال هذا ممكن التحقيق – ولكى يا مصر السلامة.
fbasili@gmail.com