إحتفالات شهر آذار الماضي للمرأة والأم، كانت هذه السنة على عهدها من الخشبية التقليدية والبَهَتان. الخطب والمحاضرات والندوات و»الكلمات» وحتى «الدراسات» البحثية…. غالبيتها العظمى حفلت بألوان من التكرار، يعلو على سطحه غبار سميك من القِدَم. هذه السنة، أكثر من أي سنة أخرى، كان هذا الخطاب حاضراً، صاخباً، مزدحماً بالأقوال المحفوظة. ربما لأن المنابر مزدهرة، هذه السنة؛ وهي تنضح بتناقض بات صارخاً بين خطابها المتحجّر، وبين غليان الواقع بكل فوضاه وتعقيداته.
نقاط الضعف الرئيسية لهذا الخطاب تدور حول عطبين:
العطب الأول هو الضحاوية. أي أنه يقدم المرأة بوصفها ضحية دائماً وأبداً. في بداية إنتشار الأيديولوجيا النسوية، أي في ستينات القرن الماضي، كانت الضحاوية مطابقة لوقائع بدأت تجد الألسن لوصفها. مثل التقدمية واليسارية، التي انتشرت بانتشار النسوية، بصدفة تاريخية وبميعاد فكري، كانت النسوية قد استوردت فكرتها الغربية بالكثير من التبسيط والإستعجال، كما يحصل للديموقراطية الآن، أو لمجال شبكات التواصل الالكترونية، أو للبرامج التلفزيونية المنسوخة عن أصلها… بحيث كان «تبييء» (بيئة) النسوية يتم بنوع من الترجمة، المبسّطة أحياناً؛ فتكون الضحاوية واحدة من محاورها الفكرية، وتبقى وتدوم. كان يمكن وقتها ان يكون هذا «النقل» المختصر مفيداً، فاللحاق بالغرب كان غاية وتوقاً عارماً. بل كان هذا الغرب وقتها أيضا منطلقاً بتفاؤله بالتقدم، وإيمانه بما ينجزه العلم والإكتشافات، لتحقيق سعادة للبشرية القادمة. الآن اختلف الوضع. ليس فقط لأن الغرب بدأ يشك بنفسه، ويعيد قراءة منظوماته الفكرية، ويستعيد أزمنة غابرة لإلهام فنه وفكره؛ فسمى مرحلته هذه بالـ»ما بعد حداثية». ولكن أيضاً، لأن المرأة لم تعد تلك الضحية التي كانتها منذ نصف قرن. يومها، كان مجرد تثبيت خطاب الضحية يعد انتصاراً لها، إذ يفسح لها المجال في نيل بعض الحقوق الأساسية الحيوية، ما أكسبها القدرة على خرق دوائر حياتها القديمة، والإنطلاق في رحابة كانت غريبة عنها لآلاف من السنين. يمكن القول عن هذه المرحلة أن النساء، بعد ثورتهن الأولى التي ارتبطت بخطاب تبيسطي سهل ممتنع، تقدمت أوضاعهم، ولكنهن بقين على الوعي الأولي نفسه الذي صاغ ملامح ثورتهن. والبقاء ضمن المنطق نفسه المؤسس، شبه «العقيدي»، دون النظر الى الوقائع التي حركها فخلق منها أوضاعا جديدة…هو أشبه بتشبث أصحاب العقائد المتشددة، الذين لا يمكنهم النطق إلا بلغة خشبية.
هذا خطاب عزل قضية النساء عن قضية الرجال. بل خلق عند الرجال قضية صامتة لم يجدوا حتى الآن اللغة، أو «الأدوات النظرية» التي تمكنهم من وصفها. إذ من المؤكد، ومن دون الذهاب بعيداً في الاحصاءات والدراسات، ان الرجال، بعد الثورة النسوية، لم يعودوا كما كانوا، وان كانت الأيديولوجيا النسوية تضعهم كلهم في السلة الواحدة (كلهم مثل بعضهم). وقد يكون حرمان الرجال من لغتهم الجديدة، فضلاً عن انعدام جاذبية الخطاب النسوي الحالي… هو الذي جعلهم لا يكترثون بالإنتاج الفكري النسوي، ويعتبرونه «إختصاصاً» نسائياً محضاً، يعزفون عن الخوض فيه، ويجدون دائماً فرصاً ذهبية للسخرية منه، والاستهزاء به.
ولكن المفارقة الشديدة للضحاوية النسوية هذه، هو أن رائداتها ووجوهها البارزة لسن على ضحاوية بشيء. هن، بالعكس، اخترقن كل الحواجز وتمكنّ من بسط هيمنتهن على الجمعيات والمنابر «الأهلية» الوطنية وعلى كل التعبيرات النسائية؛ أي انهن ينسخن المسالك الذكورية التي يبكَين على سلبيتها وأذاها وأضرارها «التاريخية». فأولئك النساء يتسلطن، يغتنمن، يلعبن لعبة السلطة الذكورية بحذافيرها، ثم بعد ذلك ينمن على حرير الضحايا. والخطاب النسوي المعتمد لديهن هو الصالح لهن، هو الذي يمكنهن من البقاء حيث هن، أو «الإرتقاء» الى أعلى منه غالباً. الخطاب الضحاوي، مثل الخطابات الأخرى الرجالية، صاحب مشاريع بلوغ السلطة، لم يعد خطابا تحررياً، إنما خطاب سلطوي؛ وأهم المؤشرات على ذلك، انه يبعث على الضجر، لا على الحرية.
العطب الثاني لهذا الخطاب هو ارتكازه، المعلن أو الضمني على ثنائية حداثة\تقليد. وهي ثنائية تعبر هذا الخطاب من دون الإنتباه الى ظاهرتين، عمرهما الآن عشرون سنة، وربما أكثر. أولهما صعود وجهين من وجوه التقليد، متنافرين غالباً، وإن ترابطا: وهو التقليد الأصولي، والتقليد «التقليدي». أي حركات الاسلام السياسي وظاهرة التدين العام. وكون الإثنين آتيين من التقليد، فان الخطاب النسوي، إما أنه يتجاهلهما أو أنه لا يضعها في نطاق نظره أو تنظيره. أما الثاني من هذه الظواهر، وهو أيضا مرتبط بالأول، فهي تلك الفوضى العارمة التي تخرق ثنائية الحداثة\التقليد من أساسها. معطوفة على أزمة الحداثة، ليس فقط لأن صار لها في الغرب إسم آخر، الما بعد حداثة؛ إنما ايضاً لأن الحداثة العربية تشهد الآن على واحدة من أعتى لحظات تقهقرها، وربما انهيارها. وبالمنطق البسيط، لا يمكن لهذا القطب المفهومي المنهار ان يكون عوناً فكرياً، لا للنساء ولا للرجال التائقين للحرية. ولأن خارج الإسلامية التقليدية لا يوجد شيء آخر، فان أضعف إيمان النسويات هو مراجعة الحداثة نفسها، بغية قياس دقة وصفهن لحقيقة أوضاع النساء. الحداثة في هذه الحالة ليست بنية فكرية جامدة، إنما إنجاز بشري، ليس معصوماً ولا خالداً ولا مكتملاً. انه صيرورة، حركة تتغذى بواقعها بحثا عن شيء هو نفسه وغيره في آن.
وبخصوص التقليد/الحداثة، يمكن ملاحظة المفارقة نفسها التي وردت في النقطة الخاصة بالضحاوية. أن النسويات البارزات اللواتي احتللن مكان صدارة خطاب النسوي، يعقدن مع التقليد صفقات وتسويات لا تحصى، تيسيراً لشؤونهن الخاصة أو العامة. هنا أيضاً، يتغطى الخطاب النسوي ببساطة هذه الثنائية ليضع الدخان الأسود الكثيف حول تعامل صاحباته مع بنى التقليد، كما لو كان من البديهيات. من دون سؤال ولا شكوك ولا أي قلق… فيما الفوضى العارمة تبقي هذا الدخان مستعراً.
من دون التقليل من الأثر الايجابي، النسبي، الذي تنطوي عليه حملات وتظاهرات معادية للعنف ضد النساء ومطالبة الدولة بتشريع القوانين التي تحميهن… فان المشهد النسوي الآن صار يمكن تلخيصه، باستراتيجيات الإدانة والمطالبة والندوات والمحاضرات والحملات الإعلامية، المتوجهة الى «الدولة»، المعروف تهافتها؛ وبزعيمات طموحهن الوزارة أو النيابة، عبر «الكوتا»، أو بصاحبات شركة، اسمهن الرسمي «مديرة» الجمعية «الأهلية» اللواتي يرأسن.
فيما الحياة في مكان آخر. والإستراتيجيات كذلك. فأنت في بلد التوتير الأمني اليومي، حيث ينطلق الموت من حيث يشاء القدر، لا يمكنك غير التوقف عند الحمى «الجمالية» التي تصيب اللبنانيات: انظر الى الوجوه النسائية، ومن طبقات متوسطة وما فوق، وربما فقيرة فقر غير مدقع، وسوف تلاحظ عليها أثر المشرط أو النفخ أو الإزالة، في أقصى الحالات، أما في أدناها، عناية بالمظهر تتفوقن فيه على نساء الأرض. انظر الى الاجسام، الى الهندام… وسوف تخلص بأن لا بد من ان خلف كل هذا «التجمّل» استراتيجية؛ وبأن هذه الأخيرة مرتبطة بأخرى نظيرتها، وتتمثل بذاك التوسع المتصاعد لفضاء النساء في الشارع، الشارع تحديداً، حيث يمشين، يركضن، يتنزهن، يتسوقن، حيث يرتدين النوادي والمقاهي المفتوحة على الهواء الطلق ويقدن الدراجات النارية والسيارات والتاكسيات… محجبات كن أم سافرات، عاملات وغير عاملات، مثقفات وغير مثقفات. أنظر من حولك وسوف تلاحظ بأن النساء أولئك يحتللن الشارع، بنوع من التحدي الناعم والجميل لكل الحياة المغلقة التي قعدن فيها قسطاً وافراً من الدهر، وكأن حركة خلاص هبطت… خذ مثلا آخر: إسلاميات أو مسلمات ملتزمات بفرائض الدين، من حجاب وصلاة وصوم الخ. كيف بلغن ما بلغنه من رئاسة أو إنتاج أو أي نشاط «خارجي»، يحتاج إلى كفاءة عليا أو وسطى؟ بأية استراتيجيات وصلن إلى مبتغاهن؟
الخطاب النسوي، يتجاهل تماماً هذه الظواهر ومثيلاتها. هو لا يستطيع أن يضعها في أية خانة من خانته الثابتة. لذلك، يحتاج إلى هواء جديد، دماء جديدة، ربما جيل جديد… لكي يبقى وفياً لروح ثورته الاولى، الثورة النسوية، الأخطر والأعمق من بين كل الثورات الأخرى التي عرفتها البشرية.
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل