كان الخطاب الأخير للأمين العام للحزب حسن نصرالله خطاباً في غاية الأهمّية، خصوصاً بعدما أكّد الأخير ما ليس في حاجة إلى تأكيد وهو أنّ الحزب بات هو لبنان. لم يعد من وجود لدولة لبنانيّة. لم يكن ينقص حسن نصرالله غير القول: “أنا الدولة والدولة انا”، على طريقة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر (1638 – 1715) أحد رموز السلطة المطلقة خلال العهد الملكي في فرنسا.
إختزل الأمين العام للحزب لبنان واللبنانيين في شخصه وحزبه. حدّد خيارات البلد كمشارك في حرب غزّة من دون المشاركة فيها في الوقت ذاته. أبقى كلّ الخيارات المستقبلية مطروحة من بوابة “الغموض”. لكنّه حرص، من دون كشف ذلك صراحة، على إيضاح أنّ هناك اجندة إيرانيّة في المنطقة وأن لبنان، ممثلا بـ”الحزب”، جزء لا يتجزأ من هذه الأجندة.
يفسّر ذلك تشديد حسن نصرالله على الدور الأميركي في شأن كلّ ما له علاقة بحرب غزّة، التي لا دخل لإيران فيها، على حد قوله. حصر مسؤولية الحرب بـ”حماس”. كشف أنّ الولايات المتحدة، التي ذكّرها بما تعرضت له في لبنان في العام 1983 (تفجير مقر المارينز وقبل ذلك سفارتها في بيروت)، هي الأساس وأنّ إسرائيل ليست سوى “منفّذ” لدى أميركا.
صفقة مع الشيطان الأكبر
في النهاية تسعى “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران إلى صفقة مع “الشيطان الأكبر” الأميركي وليس مع أي طرف آخر. الأكيد أنّ هذه الصفقة تشمل لبنان ومستقبله وتكريس الوصاية الإيرانيّة عليه. لا تزال إيران في انتظار المكافأة الأميركيّة منذ سماحها للرئيس السابق ميشال عون بترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل قبل أسابيع قليلة من إنتهاء الولاية الرئاسيّة لميشال عون في 31 تشرين الأوّل – أكتوبر 2022.
عكس الأمين العام للحزب كلّ أنواع القلق التي تساور القيادة الإيرانيّة بسبب حرب غزّة في ظلّ الإصرار الإسرائيلي على إجتثاث “حماس”. حاول حسن نصرالله إستعادة تجربة حرب صيف 2006 في لبنان، وهي حرب تواجه فيها “حزب لله” وإسرائيل بعد خطف الحزب لجندين إسرائيليين تبيّن لاحقا أنّهما قتلا. أراد عملياً استعادة الطريقة التي انتهت بها تلك الحرب بدءا بوقف لـ”الأعمال العدائية” وصدور القرار 1701… وإنتهاء بعملية تبادل للأسرى بين الجانبين. ذكّر بذلك من أجل إنقاذ “حماس”. خرج “الحزب” منتصرا من حرب صيف 2006. كان لديه هدف واضح وقتذاك. كان الهدف تحقيق انتصار على لبنان وتغطية جريمة إغتيال رفيق الحريري وغيرها من الجرائم… تمهيداً للسيطرة على البلد. هذا ما حصل بالفعل.
الفارق الآن أنّ حرب غزة لا تشبه في شيء حرب صيف العام 2006 كي يكون هناك وقف للنار وتبادل للأسرى. يعود ذلك إلى أنّ “حماس” هزمت إسرائيل في أقلّ من 24 ساعة، لكنّ الحركة الإسلاميّة لم تجد مكانا تترجم فيه الهزيمة التاريخية التي الحقتها بإسرائيل إلى انتصار على الأرض. ليس في استطاعة الدولة العبريّة سوى الإنتقام نظرا إلى أنّ حرب غزّة معركة حياة أو موت بالنسبة إليها. من هنا، يمكن تفسير الإرهاب الذي تمارسه إسرائيل والذي لا يتناسب مع الضربة التي تلقتها. ليس ما يبرر بأي شكل قتل نساء وأطفال وشيوخ واستهداف مستشفيات ومدارس في عالم، يفترض أن يكون متحضرا، ولو قليلاً. ليس ما يبرّر اعتبار الجيش الإسرائيلي مستشفيات غزّة “أهدافا مشروعة”.
السيّد يعكس رؤية إيران
في الواقع، عكس خطاب حسن نصرالله رؤية “الجمهوريّة الإسلاميّة” لحرب غزة. غابت عن الخطاب عبارة “وحدة الساحات”. في المقابل، كان هناك عرض لنقاط القوة التي تتمتع بها إيران عبر ميليشياتها المنتشرة في المنطقة مع تركيز خاص على العراق. تحدث الأمين العام للحزب غير مرّة عن الميليشيات المذهبيّة العراقية المنضوية تحت لافتة “الحشد الشعبي”. أشاد باستعداد هذه الميليشيات للإنخراط في حرب غزّة ودعم القضية الفلسطينية. بات العراق مكانا آخر تحت السيطرة الإيرانيّة، خصوصا في ضوء اعلان “الحشد الشعبي” أخيراً أنّه صار “الدولة”. هذا مثبت في شريط فيديو ظهر فيه قادة “الحشد” أخيراً.
جاء ظهور هؤلاء في هذا الفيديو في وقت أجرى رئيس الوزراء العراقي محمّد شياع السوداني تغييرات عسكرية شملت، بين ما شملت، تعيين قائد جديد لمكافحة الإرهاب بديلا من عبد الوهاب الساعدي، الضابط المحترف الذي لا غبار على وطنيته. القائد الجديد الذي حلّ مكان الساعدي محسوب على “عصائب أهل الحق”، إحدى الميليشيات العراقيّة الموالية لإيران!
كان خطاب الأمين العام للحزب بمثابة عرض عضلات لإيران ولأوراقها في المنطقة. جاء الخطاب في مناسبة اقتراب مرور شهر على حرب غزّة. ركز حسن نصرالله أيضا على الحوثيين في اليمن من منطلق أنّهم يشاركون في دعم غزّة عن طريق قصف إيلات بواسطة صواريخ بعيدة المدى. لكن اللافت في الخطاب كان شبه التجاهل لسوريا. لم يأت على ذكرها سوى بالصدفة في سياق كلام عام. يكشف ذلك نظرة حسن نصرالله ومن خلفه إيران إلى النظام السوري الذي تحوّل فيه بشار الأسد من رئيس دولة إلى مجرد “مسهّل” لنشاطات “جبهة الممانعة”. صار بشّار الأسد مجرد حارس لمستودع للاسلحة والذخائر والمخدرات لدى الحلف الممانع. تبدو سوريا بوضعها الراهن دولة من الدول العربية التي تسيطر عليها إيران وتتحكم بها تباعا واحدة تلو الأخرى.
كان لبنان في غنى عن خطاب الأمين العام للحزب وكان في غنى عن التورط في حرب غزّة والعيش تحت رحمة تطوراتها. كان في استطاعة لبنان، لو بقيت مؤسساته ولم يسقط في يد إيران، الوقوف على مسافة من الحدث مثله مثل بقية الدول العربيّة التي تفكّر في رفاه شعوبها ومستقبلهم.
لكن ما العمل عندما لا يعود مكان للمنطق الذي تحلّ مكانه مزايدات لا طائل منها، مزايدات مستمرّة منذ توقيع إتفاق القاهرة المشؤوم في مثل هذه الأيام من العام 1969…