عند الشيعة الإمامية الإثنا عشرية “يجب أن يكون اعتقاد المسلم بأصول الدين عن دليل وبرهان، ولا يجوز له أن يقلّد فيها بمعنى أن يقبل كلام أحد فيها دونما دليل”.
أي أن الدليل العقلي هنا شرط لحصول الاعتقاد بأصول الدين، بمعنى أنه شرط للإعتقاد بالتوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد. فالدليل العقلي، لا الاعتماد على رأي الفقيه و”تقليده”، ضروري لحصول الاعتقاد: بالله وبالنبي وباليوم الآخر ثم بالأئمة الإثني عشر وأخيرا بالعدل. فلقد تم تأسيس علاقة شرطية بين الدليل العقلي وبين الاعتقاد.
لكن هذا الاعتقاد، في نظري، لايمكن أن يستند إلى العقل. فعلى سبيل المثال لو تطرقنا إلى مسألة الإمامة، وبالذات إمامة الإمام الثاني عشر، المهدي محمد ابن الحسن العسكري، سنجد بأنها لاتلتقي بتاتا مع الدليل والبرهان.
فالإمام المهدي الذي ولد، حسب الشيعة، في سامراء ليلة 15 من شهر شعبان سنة 255 هجرية، وأن أمه هي السيدة نرجس، “هو آخر حجج الله على الأرض، وخاتم خلفاء رسول الله، وآخر ائمة المسلمين الاثني عشر، وهو بعد في دار الدنيا قد أطال الله تعالى – بمشيئته – عمره الشريف، وهو غائب عن الأبصار وسيظهر في آخر الزمان بعدما ملئت الدنيا ظلما وجورا ليملأها عدلا وقسطا” (كتاب “
المسائل الإسلامية
” للمرجع الديني السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم للتحقيق والنشر، بيروت – لبنان، 1994).
هذا التعريف عن الإمام المهدي يمكن له أن يلتقي مع مفهوم الإيمان، لكنه لا يلتقي مع الدليل والبرهان العقليين، بالتالي هو يُدخل مسألة “أن يكون الاعتقاد بأصول الدين عن دليل وبرهان” في خانة الشك وعدم الدقة.
أما إذا قلنا بأننا “نؤمن” بما جاء حول الإمام المهدي دون الاستناد إلى الأدلة والبراهين العقلية، فذلك سيكون مقبولا. لكن حينما نقول بأننا نعتقد أن ما جاء بشأن الإمام المهدي يستند إلى “الأدلة والبراهين” العقلية، فإنه لا بد من تهيئة تلك البراهين – أولا – لكي ندلل – ثانيا – على صحة هذا الاعتقاد. فالأدلة والبراهين العقلية تثير أسئلة تشكك بمسائل اعتقادية عدة، مثل ولادة الإمام المهدي واختفائه حتى هذه اللحظة، في حين أن “الإيمان” به، بولادته واختفائه وظهوره، وإبعاد الأدلة العقلية عن هذا المجال، مجال الإيمان، يجنب المسألة الشكوك، ذلك لأن الإيمان لا يخضع للأدلة والبراهين العقلية وبالتالي لايخضع للشك، في حين أن أحد نتائج البحث في الدليل العقلي هو الشك.
إن البعض يؤكد على أن الاعتقاد بأصول الدين لا يحتاج إلى أدلة وبراهين عقلية، بل هو شأن إيماني. بمعنى أن مسؤولية المؤمنين لا تكمن في التأكيد على حاجة الاعتقاد إلى دليل وبرهان، لأن ذلك سيحوّل الإيمان بالمعتقد إلى شأن عقلي وموضوع بشري من صنع الإنسان، في حين إن الإيمان شأن غيبي لا يستمد وجوده من الأرض بل من السماء، وبالتالي لا بد من التفريق بين الموضوع البشري الأرضي والموضوع الغيبي السماوي.
وإذا كان هناك من يدّعي بأن من مسؤولية الأدلة العقلية أن ترد على الأسئلة المتعلقة بالاعتقاد الديني وبأصول الدين، فإنها بالتالي لا بد أن تتغلغل في كل مناحي هذا الاعتقاد، أي في المناحي الغيبية الإيمانية التي لايمكن للعقل أن يجد له موضع قدم فيها.
إن حديثنا هنا لا يتعلق بحقيقة الدين وصدقه بل يتعلق بكيفية الاعتقاد وطريقة تحقيق هذا الصدق، حيث لا يمكن له ان يستند إلى العقل بل عليه أن يستند إلى الإيمان، هذا فحسب.
بمعنى أنه: قد لا يستطيع المؤمن أن يثبت حقيقة الدين من خلال الأدلة والبراهين العقلية، لكن من خلال الإيمان، لا يستطيع أحد أن ينفي هذه الحقيقة أو يدّعي بأنها كاذبة. فإذا استطاع شخص أن يشرح لشخص مؤمن بأن أدلة وبراهين وجود الله ضعيفة، وهذا المؤمن لم يستطع أن يرد على تلك الأدلة، فإن ذلك لا يؤدي بالضرورة إلى زعزعة إيمان المؤمن.
لذلك، هناك العديد من الباحثين في الشأن الديني يعتقدون بأن وجود الإمام المهدي لا يمكن أن يستند إلى أدلة وبراهين عقلية، بل يقوم على الإيمان به انطلاقا من أصل الأمامة. بالتالي، يعتقد هؤلاء بأنه لا يوجد دليل عقلي واحد يثبت بأن هناك إماما يكنّى بالمهدي وعمره الآن يتجاوز 1200 عاما. ويضيف هؤلاء بأن هناك جهات عدة لا يمكن أن يقبلوا بولادة الإمام المهدي، منهم غير المسلمين، وغير الشيعة من المسلمين، والشيعة الذين هم ليسوا إثنا عشرية، كالشيعة الإسماعيلية، وأصحاب الإمام الحادي عشر الإمام العسكري، كذلك أخته.
إن عدم وجود الدليل العقلي لا يعني بالضرورة إنكار مسألة الإمام المهدي. فإنكار المسلمين لألوهية النبي عيسى لا يعني نفس المعنى بالنسبة للمسيحيين، كما لم يؤد ذلك إلى شعورهم بالإهانة. فإنكار البعض لوجود الشيطان والجن لا يعني عدم إيمان المسلمين والمسيحيين واليهود بذلك، كما لا يعني توجيه أي إهانة لهم.
لكن في المقابل نقول بأنه: لا بد من وجود أدلة وبراهين تاريخية لإثبات أي حادثة تاريخية، وعدم وجود تلك الأدلة والبراهين لا ينفي الإيمان بها، لكنه يشكك في حدوثها. لذلك لا يمكن أن تكون الأدلة والبراهين شرطا للاعتقاد، لكنها قد تؤدي إلى إعادة النظر فيما كتب من تاريخ، وإلى غربلة شروط الإعتقاد.
وهنا نجد لزاما وجود مؤرخ مستقل يستطيع أن يرد على اسئلة التاريخ فيما يخص الإمام المهدي، وهو بالطبع لن يقدم استنتاجاته استنادا إلى وجود شخص يقول بأنه “على علاقة بالإمام المهدي” و”ينقل إليه بعض الأموال” من دون أن يستطيع أحد رؤية هذا الإمام. بمعنى أن الدليل التاريخي للمؤرخ المستقل يضيع هنا في ثنايا الغيبيات واللادليل. ومسألة ولادة الإمام المهدي تحتاج إلى دليل واضح وقوي من أجل القبول بالاعتقاد استنادا إلى البرهان والدليل. لكن أن يقول شخص بأنه يعتقد بالإمام المهدي من دون طرح أي برهان أو دليل على ذلك، وإنه لا يحتاج إلى شواهد بشأن المسألة، فذلك موضوع آخر يختلف مع شرط الاعتقاد بأصول الدين عند الشيعة.
ssultann@hotmail.com
• كاتب كويتي