شارك البروفيسور مناحم ميلسون في “المؤتمر الدولي حول الإسلام في أوروبا” الذي انعقد في ديسمبر 2006 في الجامعة العبرية بالقدس، بمحاضرة عن “وجهات نظر المفكر المصلح العفيف الأخضر حول مسألة الاندماج، المعارضة للرؤية الطائفية الأثنية التي يتبناها البعض من مسلمي أوروبا”. ومناحم ميلسون بروفسور الأدب العربي الحديث وأخصائي في التصوف الإسلامي في العصور الوسطى، وهو رئيس كلية الآداب في الجامعة العبرية في القدس سابقا ورئيس مجلس إدارة ميمري حاليا ومؤلف كتاب “الروائي الفيلسوف من القاهرة” عن نجيب محفوظ بالإنجليزية. وعلى هامش هذا المؤتمر، ارتأى ميلسون أن يثري محاضرته بحوار موسّع مع العفيف الأخضر حول هذه النقاط. وقد خص مناحم ميلسون “إيلاف” (مشكورا)، الحوار كاملا، قبل أن ينشر مع محاضرته في كتاب أعمال المؤتمر، الذي سينشر نهاية العام الجاري بالانجليزية.
مناحم ميلسون: ما معنى الصراع الفكري الذي نشهده محتدمًا بين المسلمين في أوروبا؟
العفيف الأخضر: يتصارع داخل الإسلام الأوربي اتجاهان أساسيان:
1- الاتجاه المصرّ على استقلال المسلمين ثقافياً عن المجتمعات الأوربية، والمحافظة على جميع التقاليد الإسلامية بما فيها تلك التي تتناقض مع القيم الإنسانية الكونية المركزية في المجتمعات الأوربية مثل المساواة بين الرجل والمرأة والعلمانية وحرية الفرد…
2- الاتجاه الآخر، الذي أنتمي إليه، يطالب، بالعكس، بضرورة اندماج المسلمين الأوربيين والمقيمين في أوربا ثقافياً في المجتمعات الأوربية وتبني قيمها الحضارية الكونية لتجديد وتحديث قيمهم التقليدية التي لم تعد في معظمها متكيفة مع متطلبات زمانهم. هذا الاندماج الضروري لا يعني تخليهم عن قيمهم الروحية أو عن أفضل قيمهم الاجتماعية أو عن تأريخهم؛ بل فقط تخليهم عن تقاليدهم المتناقضة مع قيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقات الأممية الأخرى المتفرعة عنها مثل اتفاقية منع التمييز ضد المرأة، واتفاقية حقوق الطفل، وحماية الأقليات. ومن دواعي الأمل أنّ أعلى نسبة من المسلمين المندمجين ثقافيّا في المجتمع الفرنسي، كما أكّد آخر استطلاع، هم من التونسيين. وذلك عائد، في جزء كبير منه، إلى جودة التعليم الديني التونسي الذي لا مكان فيه لثقافة كراهية “الكفّار” وإلى ثقافة الاعتدال التي يتشرّبها التونسي في الخطابين الديني والسياسي. وهذا للأسف نادر في أرض الإسلام.
مناحم ميلسون: هلا صارحتنا بما تقصد عندما تتكلم عن التقاليد المضادة لحقوق الإنسان؟
العفيف الأخضر: القيم الإسلامية المضادة لحقوق الإنسان التي ينبغي للمسلمين في كل مكان وخاصة في أوربا حيث تتمتع المرأة تقريباً بكامل حقوقها هي مثلاً احتقار المرأة وضربها كما أمرت بذلك آية قرآنية:”واضربوهن” (34 النساء) وقد طالبت بنسخ هذه الآية، أي بعدم العمل بحكمها لأنها لم تعد متكيفة مع قيم العصر الكونية وقد طالب أيضاً بنسخها هذه السنة المؤرخ التونسي الإسلامي محمد الطالبي، وكذلك يجب تخلينا نحن المسلمين عن اعتبار كثرة الأطفال واجباً دينياً، وعن حرمان المرأة غير المسلمة المتزوجة من مسلم من حقها في حضانة أطفالها وإرث زوجها وأبنائها المسلمين، وعن تشويه البنات جنسياً بالختان، وعن الإصرار على عدم مساواة المرأة بالرجل في حقوق المواطنة وعن تعدد الزوجات الذي هو كارثة على المسلمين في بلدانهم وفي المهجر. في فرنسا 30 ألف عائلة متعددة الزوجات، تمتلك 600 ألف طفل، بمعدل 14،5 طفلا لكل عائلة. معدلات الفشل المدرسي بينهم عالية جدّا وكذلك معدلات التهميش والجنوح. والحال ان معدل النجاح المدرسي في الأسر التي لا يتجاوز أطفالها الخمسة فهو قريب من معدل النجاح الفرنسي العام.
كثيراً ما يثير الإسلاميون الاعتراض التالي. انتم تريدون استئصالنا من جذورنا! نعم، أعي ضرورة ارتباط الناس بجذورهم التاريخية، لكنني أقترح على المسلمين أن يرتبطوا بجذورهم رمزياً مثل الاحتفال بأعيادهم وممارسة قيمهم الروحية. وبالمقابل أقترح عليهم الارتباط العضوي بالحضارة الحديثة، أي بمؤسساتها الديمقراطية وقيمها الإنسانية وعلومها التي لا مستقبل للمسلمين خارجها، وخاصة ضدها… في الواقع لا توجد إلى اليوم إلا حضارة واحدة عالمية لكن توجد ثقافات عدة لا تستطيع أن تكون مقبولة إلا إذا كيفت تقاليدها البربرية أحياناً مع قيم حقوق الإنسان.
الاتجاه الأول الذي ينشّطه الإسلاميون الفرنسيون والأئمة التقليديون – وهم الأغلبية الساحقة – هو الاتجاه السائد في الإسلام الأوربي الذي يرفض هذا الاتجاه تسميته بالإسلام الأوربي مفضلاً تسميته بـ” الإسلام في أوربا” للتأكيد على استقلاله الثقافي عن المجتمعات التي يعيش فيها. الاتجاه الأول المعادي لاندماج الإسلام الأوربي في المجتمعات التي يعيش فيها أقوى بكثير من الاتجاه الثاني الذي أنتمي إليه، والذي يطالب بضرورة، الاندماج الثقافي.
مناحم ميلسون: من أين يستمد الاتجاه المعادي للاندماج قوته؟
العفيف الأخضر: الاتجاه المعادي للاندماج يستمد قوته من أربعة عوامل أساسية:
1- من كون الخطاب الديني أي خطب الجمعة، الوعظ والتعليم الإسلامي الخاص والإعلام… محتكراً من أنصار هذا الاتجاه. بل حتى الإعلام الأوربي، وخاصة السمعي – البصري، الباحث بكل ثمن عن الإثارة، يقدم في كل مناسبة أنصار هذا الاتجاه مثل طارق رمضان، ونادراً ما يقدم فتحي بن سلامه، أو مالك شبيل، أو الطاهر بن جلون، غالب بن الشيخ، أو مفتي مرسيليا، صهيب بن الشيخ، أو يوسف الصديق، أو جورج طرابيشي، أو هاشم صالح، أو محمد أركون، أو أنا نفسي وغيرنا من عشرات المثقفين المسلمين العلمانيين؛ وكذلك يفعل الإعلام العربي كـ”الجزيرة”،و”اقرأ”،و”المنار” التي لها جمهور كبير بين مسلمي أوربا. وأما أنصار الاتجاه العلماني فهم مبعدون من هذا الإعلام. أنا مثلاً قاطعني “الاتجاه المعاكس”، أكثر برامج الجزيرة شعبية، بعد أن فندت في آخر برنامج لي فيه، ادعاءات التحريفيين بخصوص المحرقة (انظر ممري) ومنعني الأمير خالد بن سلطان سنة 2001 من الكتابة في الحياة، بعد أن دافعت في تلفزيون الجزيرة عن ضرورة تدخل المجتمع المدني العالمي لمنع رجم المرأة المسلمة في إيران (انظر ممري).
2- العامل الثاني البترودولارات التي تتدفق على أنصار الاتجاه المعادي للاندماج لتكون له صحافة خاصة به، وليترجم كتب القرضاوي إلى اللغات الأوربية، وليكون دعاة يرسلهم إلى ألضواحي وجميع المدن الفرنسية لحشو أمخاخ مسلمي أوربا بدعايته المضادة للاندماج والمحرضة على انتهاك قيم حقوق الإنسان…
3- العامل الثالث تنظيم المسلمين في أوربا وخاصة في فرنسا يحابي الاتجاه المضاد لاندماج الإسلام الأوربي في المجتمعات الأوربية على حساب الاتجاه المطالب باندماجهم.
4- العامل الرابع فقه الولاء والبراء أي الولاء حصراً للمؤمنين والبراء الكامل من الكفار [= المشركين، اليهود والنصارى]. هذا الفقه هو الذي ساهم في تشكيل الثقافة الدينية لمسلمي أوربا خاصة من الجيل الأول لأنهم درسوه في بلدانهم من الابتدائي إلى العالي. وهو اليوم الفقه الذي تنشره وسائل الإعلام السمعية البصرية مثل “الجزيرة”و “اقرأ” و”المنار”. وهي لها جمهور كبير بين مسلمي أوربا. وتنشره مواقع الانترنت الإسلامية والجهادية. وقد قال الشيخ المجاهد د. أيمن الظواهري في كتابه “فرسان تحت راية النبي” أن نشر شعار الولاء والبراء بين جماهير الأمة هو الهدف المركزي للقاعدة وليس تحرير فلسطين “رغم أنها عزيزة علينا”. ولكن “إفهام جماهير الأمة للولاء والبراء يتطلب وقتاً طويلاً وعدونا لن يترك هذا الوقت، لذلك علينا أن نستخدم الجهاد في فلسطين كوسيلة لإفهام الأمة الولاء والبراء ” أي أن اليهود والنصارى هم أعداؤها ويجب أن نعاملهم كأعداء بالجهاد ضدهم إلى إدخالهم في الإسلام أو القضاء عليهم…
مناحم ميلسون: كيف يشكل فقه الولاء والبراء عائقاً لاندماج المسلمين ثقافياً في المجتمعات الأوربية؟
العفيف الأخضر: الولاء والبراء يقسم البشرية إلى “مؤمنين” و”كفار”، العلاقة الوحيدة بينهما هي الكراهية والجهاد أي الحرب؛ ويقسم العالم إلى “دار الإسلام” و”دار الحرب”. دار الحرب منذ الحروب الصليبية هي أوربا. وعلاقة دار الإسلام معها هي كراهيتها والجهاد ضدها. والبراء التام من ديانات أهلها “الكفار” وعاداتهم في الملبس والمأكل ومؤسساتهم وعلومهم وقيمهم… واعتبار من يقلد الكفار من المسلمين مرتداً يجب قتاله وقتله.
فقه الولاء والبراء يحرم الإقامة في دار الحرب لأكثر من ثلاثة أيام إلا إذا كانت إقامته اضطرارية للتجارة أو للعلاج أو للتعليم “في الفروع العلمية النافعة التي لا توجد إلا في بلدان الكفار”. لكن رخصة الإقامة في بلدان الكفر مشروطة بتمسك المسلم بدينه والاعتزاز به وكراهية الكفار”. يدرس التلميذ السعودي: “إذا أقمت في دار الكفر للتطبب، أو التعلم أو التجارة، فأقم بينهم وأنت تضمر العداوة لهم”. والإسلاميون اللاجئون في أوربا يحملون فتاوى تسمح لهم بالإقامة في دار الحرب للضرورة، بشرط إلحاق الأذى بها…
صعوبة اندماج المسلمين في المجتمعات غير المسلمة سببه ثقافة الكراهية هذه التي رضعوها في التعليم والإعلام في بلدانهم: من هنا ضرورة وقف تكوين الكادر الديني الإسلامي الأوربي بهذا الفقه الانطوائي (autiste) والعنصري الذي هو ترجمة للأثنية المركزية (ethno-centrisme) الشائعة بين القبائل والشعوب البدائية.
مناحم ميلسون: لماذا ترفضون فكرة التعددية الثقافية و le communautarisme ؟
العفيف الأخضر: التعددية الثقافية التي تعني التعايش السلمي بين الثقافات التي يجمعها قاسم مشترك هو القيم العقلية والإنسانية، وهي مكسب للبشرية. امّا رفض الكومونوتاريزم، أي انطواء كل مجموعة دينية على نفسها وانتهاك المشترك الإنساني فهو رفض لفقه الإرهاب: فقه الولاء والبراء الذي يطلب من المسلمين “حب أنفسهم فقط” و “كراهية الكفار”. رفض الحجاب الذي هو أيضاً رفض للولاء والبراء الذي يطلب من المسلم، كما يقول فقيه القاعدة، القحطاني، في كتابه “الولاء والبراء”: “أن يسعى لـ”إقامة كلمة الحق [=الإسلام] في الأرض وهيمنة الشريعة الإسلامية على كل وضع”. والحجاب بما هو تطبيق لـ:”لضوابط اللباس الشرعي” هو رمز لهيمنة الشريعة على الحياة اليومية للمسلم والمسلمة. كما هو رمز لدونية المرأة المسلمة “الناقصة عقل ودين”، ورمز إلى كون جسدها كله “عورة” يجب أن يستر كما تستر العورات. فهل هناك إهانة للمرأة أكثر من هذه الإهانة؟.
مناحم ميلسون: هل الحجاب في الحقيقة فرض ديني في الإسلام؟
العفيف الأخضر: دعاة الحجاب من الإخوان المسلمين الفرنسيين والمقيمين المتعاطفين معهم، الذين استبطنوا جميعاً فقه الولاء والبراء، انطوائيون عندما يصمون آذانهم عن الحجج المضادة للحجاب: فتوى شيخ الأزهر،د. محمد سيد طنطاوي، لمسلمات فرنسا وأوربا بعدم وضع الحجاب عملاً بالقاعدة الفقهية الإسلامية: “الضرورات تبيح المحظورات”. كما أن الفقيه المصري الكبير المستشار محمد سعيد العشماوي في كتابه “حقيقة الحجاب وحجية الحديث” اعتبر أن الحجاب ليس فرضاً إلا على نساء محمد فقط. ومثله قال الشيخ المعروف جمال البنا، شقيق حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين:”لم يفرض الإسلام الحجاب على المرأة، بل فرض الفقهاء الحجاب على الإسلام”. لكن في مجتمع علماني، كالمجتمع الفرنسي، فصل الدين عن الدولة، من الهذيان الدخول في نقاش فقهي. النقاش فيه لا يمكن أن يكون إلا قانونياً وسياسياً. قانونياً: القانون العلماني الفرنسي يرفض الدعاية الدينية داخل المدارس. والحجاب في إحدى مدلولاته هو دعاية دينية لاتجاه سياسي – ديني هو الإسلاموية. سياسياً: 67% من الفرنسيين يرفضون الحجاب، حسب الاستطلاعات. وسيكون انتحارياً، في بلد ديمقراطي مثل فرنسا، عدم الاستجابة لرغبة المواطنين الفرنسيين الرافضين للدعاية الدينية في المدارس. ويجب أن يكون ممثلو الأقلية المسلمة مجانين ليفكروا في إدخال المسجد إلى المدرسة الفرنسية سنة 2004 والحال أن أجداد وآباء هؤلاء الفرنسيين أخرجوا الكنيسة من المدرسة سنة 1905 بالميثاق العلماني –pacte laïque – مثل هذه المحاولة تمثل انقلاباً مرفوضاً على العلمانية الفرنسية !.
مناحم ميلسون: ما هو ردك على من يقول إن منع الحجاب في المدارس الفرنسية “انتهاك للحريات الدينية”؟
العفيف الأخضر: احتج بعض المثقفين المسلمين الفرنسيين، وساندهم بعض المثقفين الأوربيين وبعض الصحف الأنجلوساكسونية، بأن منع الحجاب في المدارس الفرنسية “انتهاك للحريات الدينية”. بل إن بعضهم ذهب بعيداً مثل المستشرق O. Roy الى الزعم بانّ الحجاب طريق المسلمة للدخول إلى الحداثة !. الحرية الدينية والحرية الشخصية مرتبطان قانونياً وأخلاقياً بالمسئولية. والمسئولية هنا هي احترام القانون الوضعي الفرنسي واحترام حقوق الإنسان – هذا الاحترام الذي أوصت به ديباجة دستور 1946 – لو طبقت فرنسا احترام الحريات الدينية للمسلمين فعليها أن تنتهك قانونها وحقوق الإنسان فتسمح مثلاً بضرب المسلم لزوجته، وختان البنات، وتطبيق العقوبات البدنية الشرعية… احترام الحريات الدينية ليس مطلقاً بل مشروط باحترام القانون الوضعي والقيم الإنسانية الكونية.
احتج الإخوان المسلمون الفرنسيون بأن قانون الحجاب ضد الحرية الشخصية للمرأة. وهو ادعاء لا يصمد للنقاش: أولاً، عدد الفتيات اللواتي لبسن الحجاب كان 1200 فتاة حسب إحصائيات وزارة الداخلية،وبعد الحوار بين هؤلاء الفتيات ومدراء مدارسهم تخلين عن الحجاب باستثناء 240 فتاة تمسكن بالحجاب على الأرجح، بإيعاز من أسرهم المتعاطفة مع الإخوان المسلمين الفرنسيين. إذا علمنا أن عدد الفتيات المسلمات الفرنسيات يتجاوز 350 ألف، اتضح أن المتحجبات أقلية وأنهن – أو بالأصح الإسلاميين الذين يتلاعبون بهن – يردن فرض الحجاب على القانون الفرنسي، وعلى الدستور الفرنسي وعلى أغلبية المسلمات الفرنسيات.
كثير من المسلمات استبطن الفقه الإسلامي الذي كتبه الرجال للرجال. وهذا ما يسميه السوسيولوجي الفرنسي P.Bourdieu “العنف الرمزي” أي أن الضحية – المرأة المسلمة في هذه الحالة – تقبل برأي جلادها فيها. عندما ألغى أيبرهام لنكولن الرق، رفض العبيد قراره أي رفضوا حريتهم. فهل كان يجب على لنكولن أن يحترم حريتهم الشخصية ويتراجع عن إلغاء الرق لأن العبيد استبطنوه؟ وعندما ألغى بورقيبة سنة 1956 تعدد الزوجات والطلاق الأحادي رفض معظم النساء هذه القوانين وصوتن ضده في الانتخابات البلدية. فهل كان على بورقيبة أن يتراجع عن هذا القانون ويترك المرأة ضحية الفقه الإسلامي البالي ؟ وفي سنة 1964 ألغت السعودية الرق، لكن معظم العبيد رفضوا حريتهم. فهل كان يجب على السعودية أن تتراجع عن إلغاء الرق احتراماًًُ للحرية الشخصية للعبيد؟ كل قرار يكون مشروعاً قانونياً و أخلاقياً إذا كان يهدف إلى جعل الإنسان أكثر كرامة وأقل تبعية لتقاليد مجموعته الدينية أو الاثنية؛ وإلغاء الرق، وإلغاء تعدد الزوجات والطلاق الأحادي، ومنع الحجاب في المدارس، ومنع ختان البنات تجعل العبيد والمرأة أكثر كرامة وأقل خضوعاً لتقاليدهم البالية التي استبطنها الوعي الجمعي للعبيد وللمسلمين نساء ورجالاً. إنّ منع الحجاب يجعل المرأة أكثر كرامة.
مناحم ميلسون: كيف يجعل منع الحجاب المرأة أكثر كرامة؟
العفيف الأخضر: لأنه يرد لجسدها الاعتبار. لماذا؟ لأن جسد الرجل عورة جزئية:من السرة إلى الركبة. أما جسد المرأة فكله عورة – عدا الوجه والكفين – حتى في قيمة جسدها ليست المرأة المسلمة مساوية للرجل المسلم ! يري محلل نفسي فرنسي أن الإسلاميين الفرنسيين يطالبون بالحجاب لأن شعر المرأة يذكرهم بشعر لها في مكان آخر [= شعر العانة] فتهيج غرائزهم. وهذا اختزال للمرأة إلى جنس. ويكون الحجاب في هذه الحالة “حلاً” سخيفًا لكبت الإسلاميين الجنسي. وهذا معناه لا شعورياً أن كل امرأة سافرة بغيّ يحق لكل مسلم أن يغتصبها. لذلك منع فقهاء الإسلام على الجارية المسلمة أن تتحجب. وكذلك منعوا على المرأة غير المسلمة أن تتحجب… أي أنه يحق للمسلم أن يغتصبها متى شاء. وهذا كان مدلول الحجاب عند كهنة بابل في القرن 18 قبل الميلاد ! المرأة المتحجبة حرة مملوكة لرجل بابلي حر لا يجوز لأي رجل آخر أن يغتصبها. أما المرأة السافرة فهي امرأة سافلة اغتصابها مشروع!. وهكذا فدلالات الحجاب التاريخية والسوسيولوجية، الأنثروبولوجية والسيكولوجية… كلها تشير إلى الحط من كرامة المرأة.
الاتجاه المطالب بعدم دمج مسلمي أوربا ثقافياً في مجتمعاتها لا يطالب بالحجاب فقط بل أيضاً يعارض قطاع منه منع ختان البنات الذي يمنعه القانون الفرنسي، ويحرض التلامذة المسلمين على المطالبة في المبيتات المدرسية بالاستقلال الغذائي – اللحم الحلال – على رفض حضور درس نظرية التطور لأنها ضد نظرية الخلق في القرآن، وعلى رفض حضور درس الفلسفة لأن الفقهاء المسلمين حرموها منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وبالاستقلال في اللباس عن الفرنسيين [= الحجاب واللباس الأفغاني الأبيض] وبضرورة علاج المرأة المسلمة في المستشفيات من طبيبات نساء لا من أطباء رجال لأنه لا يجوز للرجل – وخاصة غير المسلم – أن ينظر إلى جسد المرأة المسلمة أو أن يمسها… هذه المطالب مستلهمة من فقه الولاء والبراء الذي يحرم على المسلم الاندماج في المجتمعات غير المسلمة وتقليد اليهود والنصارى “حتى في ما فيه مصلحة لنا” كما يقول ابن تيمية في كتابه “اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم” “لأن الله إما أن يعطينا مثله أو خيراً منه في الدنيا وإما أن يعوضنا عنه في الآخرة” كما يقول!.
إشكالية الإسلام الأوربي لها سببان أساسيان: عدم إصلاح الإسلام وعدم استبطان الإسلام السني لوضعه كأقلية.
1- الإسلام مازال ديناً بدائياً لم يقع إصلاحه مثل المسيحية الأوربية، ولم يقع ترشيده مثل اليهودية الأوربية؛
2- الإسلام السني الذي تعود منذ 15 قرناًَ أن يكون دائماً أغلبية حاكمة مازال لم يهضم بعد واقعة أنه أقلية في أوربا أو في العراق [احد الأسباب الأساسية للإرهاب في العراق هو أن الأقلية السنية ترفض الاعتراف بواقع كونها أقلية وإذن بعدم احتكارها لحكم الأغلبية الشيعية والاقلية السنية الكردية] الأقلية المسلمة السنية في أوربا ترفض الخضوع للقوانين والقيم الكونية للمجتمعات الأوربية لأنها لا شعورياً تنظر للأغلبية الفرنسية كأهل ذمة لا يحق لهم حكم سادتهم المسلمين.هذه الذهنية هي التي حالت حتى الآن دون ظهور فقه سني يُنظِّر شرط الأقلية المسلمة الأوربية ويقدم للمسلمين أحكاماً فقهية تسهل عليهم التكيف مع القوانين والقيم الأوربية. في التلمود حكمة توصي اليهودي: “إنّ أحكام الدولة التي تعيش فيها هي أحكام واجبة سارية المفعول على الجميع”. هذه الحكمة التلمودية يمكن أن تكون مبدأ مؤسسا لفقه إسلامي أوربي أقلوي يجعل المسلم الأوربي يشعر بأنه مواطن أوربي وليس مجرد مقيم مؤقتاً في “دار الحرب”.
في الواقع يقدم اندماج الاقلية اليهودية، ثقافيا، في قيم الجمهورية الفرنسية سابقة جديرة بالاحتذاء من مسلمي فرنسا وأوروبا لتحقيق اندماجهم ثقافيا في قيم الجمهورية. في 1807 جمع نابليون في بلدية باريس المؤسسة الدينية ليهود فرنسا السانهدرين Sanhedrin لتحويل يهود فرنسا إلى “مواطنين صالحين”، وذلك عبر تكييف أحكام الشريعة اليهودية مع القيم الفرنسية العلمانية، ليصبح اليهود جزءًا من الأمة الفرنسية بعد أن كانوا في العهد البائد مجموعة دينية منطوية على نفسها. ردّ السانهدرين بالإيجاب على مطلب نابليون وقامت سنة 1808 مؤسسة الكونسيستوار (consistoire) وأعلنت أنّ المظاهر السياسية للتوراة لم تعد صالحة (valides)، لأنّ اليهود لم يعودوا يشكلون أمة (nation). لذلك تمّ التخلّي عن كل شكل من الاستقلال الشرعي اليهودي، وفعلا لا يجوز أن يعقد الزواج أو يصدر الحكم بالطلاق إلا حسب دفتر القيد المدني (enregistrement civil)، واُعتُرِف بالزواج المختلط حسب القانون المدني الفرنسي. وهكذا تم اندماج (assimiltion) يهود فرنسا ثقافيا في المجتمع الفرنسي الحديث. وكانت النتيجة مفيدة لليهود وفرنسا معا كما برهن الواقع التأريخي وكما اعترف به عقلاء يهود فرنسا وعلى رأسهم جويل مرغوي (Joël Mergui)، رئيس الكونسيستوار الإسرائيلي لباريس وضواحيها الذي قال مؤخرا عن ميثاق السانهدرين 1808 مع نابليون: “هذا الميثاق المؤسس ثبّت (institua) المجموعة اليهودية كجزء مندمج في الجمهورية وبقي صالحا طوال مائتي عام (…) وبرهن يهود فرنسا في كل الظروف على وفائهم الثلاثي المتضمّن في جواب السانهدرين في مارس 1807: ألوفاء لقوانين الجمهورية، فلم يحدث قط أن شكّك فيها يهود فرنسا أو ناقشوها. بل أكثر من ذلك (…) إنهم المدافعون عن هذه القوانين وهذه القيم. ألوفاء للوطن، لم يحدث قط أن تخلّف يهود فرنسا عن الدفاع عن بلادهم (…). ألوفاء لإيمانهم وتأريخهم”.
جدير بالأقليات المسلمة الفرنسية تقليد السانهدرين فلتعلن هي أيضا التخلي عن الآيات المتقادمة التي لم تعد تصلح لمكانهم وزمانهم وأن يتخلوا عن الشريعة وأن يقبلوا بالزواج المختلط وأن يتبنوا “عقد الوفاء الثلاثي”. يبدو أنّ استلهام الأقلية اليهودية الفرنسية بدأ يأخذ طريقه إلى النخب المسلمة الفرنسية. فقد أعلن غالب بن الشيخ، أحد أعيان النخبة الفرنسية الدينية: “من البديهي أنه توجد في القرآن مقاطع ذات أسلوب حربي وعدواني (…). [يجب] إعلان بلى وتقادم النتائج السوسيولوجية لهذا القسم من القرآن”. وأول الغيث قطر.
مناحم ميلسون: لماذا يدعم بعض المثقفين الأوربيين وبعض الصحف الأنجلوساكسونية الاتجاه المعادي لاندماج المسلمين ثقافياً في المجتمعات الأوربية؟
العفيف الأخضر: هذه فعلا ظاهرة غريبة ولها في نظري ثلاثة أسباب:
1- سبب شعائري؛ إذا اتخذ اليمين قراراً سياسياً، عندما يكون في الحكم، أو موقفاً سياسياً، عندما يكون في المعارضة، فعلى اليسار تلقائياً أن يعارضه، ليس عن قناعة بخطأ القرار أو الموقف، وإنما فقط ليميز نفسه عنه. وأحيانا العكس صحيح.
2- الشعور بالذنب، قطاع عريض من مثقفي أوربا مصاب بما يسميه علم النفس المازوكية الأخلاقية، أي الشعور الذي لا مبرر له بالذنب. الاستعمار حصل منذ قرون وكانت له، ككل ظاهرة تاريخية ايجابياته وسلبياته، ولا يوجد مبرر موضوعي لهذا القطاع من المثقفين لكي يؤيد الحجاب، أو ذبح كبش عيد الأضحى في حوض الاستحمام أو ختان البنات أو إخراج الجن من المصاب بالصرع بالقرآن والضرب حتى الموت أحياناً كما حصل فعلاً في فرنسا… هذا الدعم هو رد فعل سقيم يعود تحليله إلى الطب النفسي.
3- النسبوية الثقافية، وهذا الاتجاه هو أخطر بما لا يقاس من الاتجاهين السابقين، لأنه ينطلق من قناعة فلسفية تقريباً سائدة في أوربا بل في الغرب كله والعالم الإسلامي؛ ودعاته هم الإسلاميون الذين يبررون تمسكهم بقيم وممارسات العصور الوسطي الدينية الهمجية، مثل الادعاء بأن “المرأة ناقصة عقل ودين” كما يقول حديث محمدي، وأنها غير جديرة بالحكم لأنه “لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” كما يقول حديث محمدي آخر، وأن المرأة “قاصرة أبدية” كما يقول الفقه الإسلامي، وأن التفاوت بين الرجل والمرأة والمسلم وغير المسلم جوهراني، أي أنه قرار إلهي مكتوب في اللوح المحفوظ قبل خلق الرجل والمرأة والمسلم وغير المسلم، لذلك فهذا التفاوت، الذي هو من صنع الثقافة والتاريخ، يقدمه أنصاره على انه أمر طبيعي بل ناموس كوني يسمو على كل نقاش وعلى حياة المرأة وغير المسلم.
مناحم ميلسون: ما هي ركائز فلسفة النسبوية الثقافية وتداعياتها؟
العفيف الأخضر: فلسفة النسبوية الثقافية، خاصة عندما تنصِّب نفسها حقيقة مطلقة، فلسفة عدمية تقوم على:
1- نفي وجود كل قيمة ثابتة، وخاصة القيم الأخلاقية والإنسانية المؤسسة للاجتماع البشري.
2- على تساوي جميع القيم، وتساوي جميع الثقافات: ثقافات الشعوب البدائية الآكلة للحوم البشر، وثقافات الأمم المتحضرة المعاصرة.
النسبية الفلسفية والعلمية والأخلاقية والدينية واقعة لا شك فيها لأمرين:
1- لأن المطلق العلمي والفلسفي والأخلاقي والديني تخييل: الإنسان، سواء استخدم العقل أو التجربة اليومية أو التجربة العلمية، لا يدرك إلا الظاهرات، أي إنه لا يفهم جواهر الأشياء، إن كانت لها جواهر، ولا التفسير النهائي لها إن كان لها تفسير نهائي؛
2- لأن العقل البشري، الذي يؤطر معارفنا النظرية وتجاربنا العلمية، محدود. إذن أداة معرفتنا نفسها، العقل، نسبية وخاضعة لقانون التطور، أي التجربة والخطأ. صحيح إذن أن جميع الثقافات والقيم الأخلاقية والدينية نسبية، أي نتيجة لدرجة تطور الحقبة التاريخية التي أنتجتها، كما هي محصلة تطور دماغنا المعرفي وهو نسبي. تعددية الثقافات هي إذن نتيجة لتعددية درجة تطور الحقب التاريخية والأدمغة البشرية التي أنتجتها. لكن النسبويين الثقافيين يحولون النسبية التاريخية إلى نسبوية إديولوجية مطلقة. وهذا خاطئ وخطر.. العقل السليم يعترف بوجود قيم إنسانية كونية، مثل قيم حقوق الإنسان التي بدون الاعتراف بها واحترامها حتى بتعريف الحد الأدنى، يتحول كل مجتمع إلى مجتمع دارويني، البقاء فيه للأقوى، ويتحول العالم كله إلى غابة يحكمها قانون الغاب، وتتلاشي الحدود بين قيمتي الخير والشر. وهكذا تنهار الوصايا العشر المؤسسة للحضارة الإنسانية كما لاحظ فرويد..
نسبية القيم الأخلاقية والدينية لا تعني تساويها جميعاً في القيمة الإنسانية، بل يعني فقط تنزيلها في سياقاتها التاريخية. لكنها حتماً غير متساوية في الشرعية الأخلاقية. ثقافة اعتبار صوت المرأة عورة، وجسدها عورة، [يجب سترها بالحجاب]، ونصف رجل في الشهادة والميراث، والأمر بضربها ورجمها حتى الموت، وتميز بين المواطنين حسب الجنس والدين، هذه الثقافة التي هي ثقافتي الأصلية، لا يجوز أبداً اعتبارها مساوية للثقافات التي تحرم ضرب المرأة ورجمها وتقر بمساواتها في العقل والدين وفي حقوق المواطنة كاملة ولا تميز بين مواطنيها على أساس الجنس والدين؛ ثقافة احترام الحق في الحياة لا تساوي ثقافة أكل لحوم البشر، الطامطام لا يساوي، في القيمة الفنية، الأركسترا السامفونية، ثقافة التعصب لا يساوي ثقافة التسامح، قيمتا الحلال والحرام الدينيتان لا تساويان، في الشرعية، القيم الإنسانية والعقلانية،الخير لا يساوي الشر، السحر لا يساوي العلم، الهذيان لا يساوي العقل. لا توجد ثقافة تستمد شرعيتها الأخلاقية والعقلانية من نفسها. بل جميع الثقافات تستمد شرعيتها من معايير خارجية كونية تسلم بها جميع العقول السليمة في كل مكان. من دون هذه القيم الكونية تسقط البشرية من جديد في الحالة الطبيعية، أي حرب الجميع ضد الجميع كما تخيلها هوبز.
وباختصار أقترح على مسلمي فرنسا وأوروبا وأيضا على مسلمي العالم التخلي من تقاليدهم وذهنياتهم العتيقة للاندماج في القيم الإنسانية والعقلانية: قيم حقوق الإنسان، ومنع التمييز ضد المرأة، وحماية الأقليات والبراء من ثقافة الكراهية التي هي وقود التعصب والإرهاب، هذا السرطان الإسلامي الذي يوشك أن يدمّر سمعة المسلمين والإسلام نفسه.