فاجأني الصديق الأستاذ (نزار جاف) الكتاب الكردي المعروف برسالة إلكترونية يطلب فيها إجراء حوار متنوع معي مخصص للإعلام الكردي عبر صحيفة كوردستان ريبورت التي تصدر في أربيل العراق، لبيت طلبته شاكراً وممتنناً له وللصحيفة المذكورة، وقد ترجم الحوار إلى اللغة الكردية وتم نشره في الصحيفة بتاريخ 11 / 3 / 2007. وهذه هي الحلقة الثانية من الحوار..
* هناك إنفتاح سياسي و فکري حذر في دولة الکويت، وبرغم ما يقال و يکتب عنها فقد رأت بعض الدوائر السياسية المهتمة بأمور المنطقة أنه يشکل بداية طيبة لحرکة لا تنتهي إلا بالانعطاف بزاوية کبيرة. ککاتب کويتي کيف تفسرون هذا الأمر، وما حقيقة ما يجري في الکويت؟
ـ الانفتاح السياسي والفكري في الكويت مسألة لها جذور تاريخية وليست طارئة أو جديدة على الحياة الكويتية أو على المشهد الثقافي والسياسي الكويتي المعاصر، فمنذ القدم والكويت لم تعرف التعصب السياسي أوالفكري، بل كانت ساحة مفتوحة لتجاذبات ثقافية وفكرية وسياسية عديدة ومنفتحة، وساعد بطبيعة الحال على نشأة وتطور هذه الساحة، الحياة الدستورية التي عرفتها الكويت كبلد ديموقراطي وقانوني يحتكم إلى الدستور منذ نصف قرن تقريباً وإلى الآن، والطبيعة المجتمعية في الكويت بصورة عامة ومنذ عقود خلت تتمتع بالانفتاح الفكري والثقافي وتقدس الحياة الديموقراطية الدستورية وتحترمها وتجد فيها أساساً ودعامة حقيقية للتطور والتقدم وتجد فيها تعزيزاً حقيقياً للأمن الداخلي، وتجد فيها خيارها الأمثل للتنمية والتطور وحل المشكلات السياسية وغيرها، ولكن المشكلة تبقى في بعض المحاولات التي تستميت في تفعيلها بعض التيارات الدينية الاستحواذية وبالتعاون مع بعض قوى التخريب الحكومي في الكويت من خلال تفريغ الحياة الدستورية والديموقراطية من مضامينها الحقيقية عبر القفز على القانون والدستور أو الارتداد لحالة الطائفية والمذهبية والقبلية أو التقوقع في الانغلاق والتعصب الفكري وتغليب المصالح الحزبية والتنظيمية على مصلحة الوطن، وفي المقابل علينا أن لا ننكر ثمة حقيقة وهي أن الكويت تبقى تتأثر من بعيد أو قريب بحالة الهيجان والاحتقان السياسي والثقافي اللتين تعصفان بالمنطقة من وقت إلى آخر، ولكن في المقابل ليس وارداً في نظر القيادة السياسية الكويتية بأي حال من الأحوال الخروج عن المجتمع الدولي في ما يخص موقفها السياسي من التداعيات السياسية التي تعصف بالمنطقة، وتجد القيادة في المجتمع الدولي الشرعية التي يجب أن تنتصر في النهاية، وليس وارداً أيضاً في نظر النظام السياسي ولا حتى في نظر المجتمع الكويتي بشكل عام الانجرار وراء المشاريع القومية والدينية الخاسرة التي جلبت للكويت الخراب والصداع في وقت سابق من تاريخها، وكذلك على مستوى الاتجاهات الوطنية المخلصة للبلد هناك اتفاق يكاد أن يكون كاملاً بينها لمحاربة الانغلاق والتعصب وعدم جر الكويت هذا الوطن الصغير إلى هاوية المغامرات القومية والدينية المؤدلجة، ولذلك ففي الكويت هناك صراع بين اتجاهين، أحدهما متآمر على التاريخ الانفتاحي للكويت يريد أن تكون الكويت طالبانية المظهر والمحتوى ويريد أيضاً أن يزج بالبلد في منظومة المشاريع القومية والدينية الأصولية وهذا الاتجاه تتزعمه تقريباً كافة أحزاب الاسلام السياسي وأولئك المؤدلجون دينياً وقومياً، وهناك اتجاه وطني حر ومتحرر وانفتاحي يريد أن تبقى الكويت كما هي دائماً مثالاً للانفتاح الثقافي الفكري وتجسيداً لمباديء الحرية والحياة الدستورية وحكم القانون..
* بعد التاسع من نيسان عام 2003، تجسدت حالتان في العراق، واحدة إيجابية تبشر بالخير و الاستقرار وهي الحالة الکوردية، أما الثانية فسلبية وتحمل الکثير من علامات الشؤم و الخوف و الخطورة وهو ما يتجسد في وسط العراق بشکل خاص و بقية أجزائه”ماعدا إقليم کوردستان”، لماذا هذا التناقض؟؟
ـ ليس خافياً على أحد ما عاناه الأكراد في العراق من عنصرية عروبية بغيضة تجسدت في نبذهم بطريقة أو بأخرى من النسيج الاجتماعي العراقي، وكذلك ما عانوه من الاستبداد والقمع والقهر من قبِل النظام البعثي المقبور، وشخصياً أجد أن من حق الأكراد الإنساني والسياسي والحياتي أن يتمتعوا بحالة كاملة من الاستقرار السياسي والاجتماعي بما يتناسب وتطلعاتهم السياسية والوطنية وبما يتناسب بالتالي ومصلحتهم الوطنية التي يرون إنها يجب أن لا تصطدم بمصلحة العراق بصورة عامة وخاصة بعد عهود من الاضطهاد والقمع والتشريد التي عانوها، الاستقرار والانسجام في الحالة الكردية لهما أسباب عدة، أحدها يتمثل في الاستفادة بشكل خاص من مرحلة ما بعد نظام البعث، واستثمار هذه المرحلة استثماراً حقيقياً يعود بالفائدة عليهم في كافة المجالات ، والسبب الآخر أعتقد أنه هناك درجة كبيرة من التوافق السياسي في الحالة الكوردية فيما يخص نظرتهم السياسية الحالية والمسقبلية للوجود الأمريكي على أرض العراق، فلم ينظروا إلى (الغزو) الأمريكي على أنه احتلال وعليهم بالتالي أن يقاوموه ويسخروا كل امكانياتهم لمقاومته، بل نظروا إليه تحريراً من أكثر الأنظمة الشمولية في المنطقة، وتعاملوا مع الوجود الأمريكي وفق هذه الرؤية الواقعية والمنطقية والعقلانية مع احتفاظهم بكامل هويتهم الوطنية وتراثهم التاريخي وخصوصيتهم الحياتية، وهناك سبب آخر ساعدَ كثيراً على استقرار الحالة الكردية ونموها سياسيا واقتصادياً وهو أن الأكراد نبذوا عقلية الثأر والانتقام من الفئات الأخرى وخاصة من ( السنة ) العرب الذين لم يبالوا بجرائم التنكيل والقتل التي جرت عليهم وتساموا فوق الجراح والآلام وتوجهوا لبناء داخلهم السياسي والاقتصادي والثقافي بعيداً عن عقلية العنف والثأر والانتقام، وما يخجل له أن الكثيرين من المثقفين القوميين العرب إلى هذه اللحظة ينكرون ما حصل للأكراد من جرائم قتل وتشريد، وأكثر من ذلك ذهبَ البعض منهم لمباركة العمل الإجرامي بحقهم، لكل تلك الأسباب وربما لغيرها أيضاً نجد أن الحالة السياسية التي عليها الأكراد الآن في العراق تقف على العكس من الحالة العراقية في الوسط وفي الجنوب، فالحالة العراقية في الوسط والجنوب تعاني من التشرذم الطائفي والانقسام المذهبي، ومن الارتداد لثقافة الماضويات الدينية والقومية القبيحة ومتأثرة بشكل كبير بالتدخلات السياسية والمصلحية والأيديولوجية والثقافية لكل من إيران وسورية وبتدخلات التنظيمات الدينية الإرهابية وتيارات الفكر القومي الافتراسي، فالحالة العراقية في الوسط والجنوب مصابة بلوثة العروبة والاستعراب، وبداء القومية والتقوقم كما يقول الدكتور شاكر النابلسي، ومصابة بلا شك بداء التعصب الديني المؤدلج، ولذلك هناك تناقضاً بين الحالتين، فالحالة الكردية تسعى للاستقرار بينما الثانية تسعى للفوضى والهدم، والأولى تهتم بالحاضر أما الثانية منصرفة لتصفية حسابات الماضي، والأولى تبني جسوراً من التواصل مع العالم الحر بينما الثانية تجد في العالم الحر عدواً يجب معاداته ومقاومته ..
* ماهي نظرتکم للقضية الکوردية بشکل عام، وکيف تفسرون تداعياتها بعد إنهيار التجربة السوفيتية والدول السائرة في فلکها ؟
ـ شخصياً نظرتي للقضية الكردية تنطلق من الاطار الإنساني العام بعيداً عن فكر التخندقات العرقية والمذهبية والعنصرية وبعيداً عن شرور الهويات الضيقة، فالقضية الكردية من الخطأ أن نختزلها في حالة عرقية أو هوياتية أواثنية، بل يجب أن ننظر إليها كقضية إنسانية شاملة يجب أن تتمتع بكافة الحقوق المدنية والدينية والثقافية والسياسية ..
* کيف هي نظرتکم لما يجري في إقليم کوردستان العراق، البعض يسمونها جهلاً اسرائيل ثانية، من دون أن يعلموا أن اسرائيل دولة تمثل حاليا قمة الديمقراطية و التطور التقني، والبعض الآخر يستبشر بها خيراً ويتوقع لها أن تصبح مثل “هونک کونک” الصين أو “دبي” الامارات، کيف ترى ذلك؟
ـ بالطبع هناك مجموعة من العوامل الداخلية في إقليم كوردستان العراق كالتي ذكرتها وهناك كذلك ربما عوامل أخرى هي التي من شأنها أن تدفع بهذا الإقليم نحو مدارج التقدم والازدهار السياسي والاقتصادي والثقافي، وأنا من الذين يستبشرون خيراً بإقليم كوردستان العراق وأتوقع أنه سيواصل السير حثيثاً في مجالات التقدم والتطور، ليصبح بالتالي كياناً مميزاً لأنه يتمتع بالنظرة الواقعية والعقلانية والعصرية للحياة ويتميز بالعلاقات المتينة مع العالم الأول الحر، وبالنظرة المتفائلة التي تعكس ثقافة حب الحياة ولأنه أيضاً يركز على التعايش الإنساني مع مختلف الأطياف المجتمعية الأخرى التي تريد عراقاً قوياً ومتقدماً ومزدهراً وحراً..
tloo1@hotmail.com
*كاتب كويتي
حوار في المشهد المعاصر 1