عادل حبه غدا من الواضح أن سبب استشراء الإرهاب وتصاعده في الآونة الأخيرة، واستمراره في نشر شروره بين العراقيين وتحطيم ما بنته الأيدي العراقية عبر الأجيال، لا يعود إلى قدرة وإصرار المجاميع الاجرامية الإرهابية للاستمرار في غيها، بل إنه يعود أيضاً إلى انحراف بعض المسؤولين العسكريين والمدنيين في السلطة التنفيذية عن أداء مهمتم الأساسية في الدفاع عن أمن البلاد وحماية المواطن العراقي وممتلكاته من هذا الشر اللعين.
ولعل أبرز ما يمكن البرهنة على هذا التجاهل هو أن السلطة التنفيذية لم تعد من هم لها سوى ولوج درب التقييد على الحريات العامة والحملة على مقرات الاتحادات المهنية وبعض الصحف والنوادي العامة، وهي جميعها لا تدخل ضمن البؤر الإرهابية، كوسيلة للتستر على فشلها في مجال تحقيق الأمن والأمان للعراقيين. وكانت قوات مسلحة يرتدي إفرادها زي الشرطة الاتحادية قد هاجمت، في يوم 4 أيلول 2012، العديد من النوادي الاجتماعية في بغداد وقامت بالاعتداء على مرتاديها بالضرب وإطلاق الرصاص في الهواء لإرعابهم. وقد أشار مصدر أمني في وزارة الداخلية إلى أن :” الشرطة الاتحادية والفوج التابع لمحافظة بغداد هما من كلفا بأمر الهجوم والإغلاق، لكنهم فوجئوا بدخول اللواء 56 ويسمى لواء بغداد على خط تنفيذ الأمر، وقام بأعمال وحشية حيث كسر الأثاث وضربوا العمال وزبائن النوادي، كما اعتدوا على العاملات في فندق فلسطين”. وفي نادي المشرق في الكرادة الشرقية أكد اصحاب النادي وعماله الكلام نفسه، حيث صرح أحد المسؤولين عن النادي إن “القوات الأمنية التي كسرت وضربت العمال والزبائن لم تترك لنا مجالا للحديث معهم …وكانوا يؤكدون أنهم تابعون لمكتب اللواء فاروق الأعرجي مدير مكتب القائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي”.
ومما يؤكد مسؤولية مكتب القائد العام عن هذه الحملات هو ما أعلن في بيان لهذا المكتب جاء فيه:” إن أمر إغلاق النوادي جاء استنادا لأوامر قضائية واستجابة لشكاوى المواطنين المتضررين من تواجد الحانات والمطاعم والنوادي الليلية غير المرخصة في مناطق سكناھم وبما يتنافى مع التقاليد والأخلاق والقيم الاجتماعية السائدة”. وأضاف البيان أن “بقاء هذه النوادي أصبح مثارا للقلق والإزعاج وتجاوز على الحريات العامة، والأجهزة الأمنية المسؤولة عن تطبيق القانون وحماية الأمن نفذت الاوامر الصادرة من القضاء بمهنية وانضباط عالٍ”.
ولكن السلطة القضائية كانت آخر من يعلم عن هذه الخروقات لسلطتها. فقد نفى مجلس القضاء الأعلى علمه بإصدار أمر قضائي ينص على إغلاق النوادي الاجتماعية والثقافية في بغداد. وقال الناطق الرسمي باسم مجلس القضاء الأعلى السيد عبد الستار البيرقدار إن “المجلس يدير 164 محكمة في عموم العراق، ولكنه ليس له علم في قضية إصدار أمر قضائي لغلق النوادي الثقافية والاجتماعية في بغداد”. ومن جانبه نفى مصدر أمني رفيع المستوى في وزارة الداخلية استحصال القوات الامنية التي قامت بعملية اغلاق النوادي في بغداد أمرا قضائيا، بل تنفيذا لأمر مباشر من رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي. كما ونفى مجلس محافظة بغداد علمه بخطة الجهات الأمنية بمهاجمة النوادي الاجتماعية، معتبراً أن هذه الخطط لا تنفذ إلا من قبل السلطات الدكتاتورية، فيما حذر من هجرة الأقليات إلى الخارج. الى ذلك اوضح أصحاب النوادي الاجتماعية والمطاعم وأصحاب محال بيع الكحول في بغداد أن القوات العسكرية التي قامت بمهاجمتهم لم تبرز ورقة او امرا قضائيا او اي مستند رسمي. وفي السياق نفسه أكد رئيس اتحاد الادباء والكتاب في العراق فاضل ثامر إن العنصر الأمني الذي طلب إغلاق نادي الاتحاد في مساء الثلاثاء لم يكن يحمل ورقة او امرا قضائيا.
وهنا فنحن أمام واقع حذّر ويحذّر منه الكثير من أصحاب الرأي والحركات السياسية من أن تستثمر السلطة التنفيذية الفوضى السياسية في البلاد كي تكرس استفراد السلطة التنفيذية ورئيسها بالقرارات، وتشل وتتجاهل وتستحوذ على صلاحيات السلطة القضائية والتشريعية. وهذا النهج سيؤدي بالتأكيد إلى تشويه العملية الديمقراطية والإخلال بها وحرفها خلافاً لما صوت عليها الشعب العراقي. كما إن هذه الأساليب هي مسعى لفرض نمط من الاستبداد الديني، وعودة العراق إلى ممارسات معادية للديمقراطية عاشها العراقيون ورفضوها لعقود من الاستبداد والعسف والظلم والأساليب المريعة في التعامل مع المواطن العراقي.
ولنا في أسلوب تنفيذ قرار السلطة التنفيذية كلمة أيضاً. إن هذه النوادي الاجتماعية هي ليست ثكنات عسكرية وقلاع إرهابية مدججة بالسلاح غير التقليدي، وهي لا تمثل تهديداً للأمن وللأجهزة الأمنية والمواطنين. فعلام اللجوء إلى قوات مكتب رئيس الوزراء المدججة بالسلاح التي قامت بتدمير الممتلكات العامة وبأسلوب فوضوي متخلف يذكرنا بأساليب الجيش الشعبي ومفارز أمن صدام. ألم يكن من الأفضل والأكثر حضارياً أن يتوجه شخص مدني وقور وبدون سلاح للتحدث مع أصحاب النوادي كي ينفذوا أمر السلطة التنفيذية غير المشروع؟. هل هذا الأسلوب هو تكرار للحملات الإيمانية لعهد مشين في تاريخ بلادنا؟. أوليس من الأجدى بالسلطة التنفيذية ومكتب القائد العام أن تعبىء هذه القوة المسلحة لمداهمة بؤر الإرهاب الذي يتفاقم هذه الأيام بدلاً من هذه الأساليب المدانة في اقتحام النوادي والمطاعم؟.
أما الذريعة التي استند إليها بيان مكتب القائد العام من أن هذه النوادي “أصبحت مثارا للقلق والإزعاج وتجاوز على الحريات العامة”، فهي لا تصمد أمام الواقع. فهذه النوادي لا تغلق الشوارع ولا تفرض عطلاً للدوائر ولأسابيع وبشكل متكرر، ولا تستخدم نقليات الدولة مجاناً ولا تعرقل عمل المؤسسات الصحية ودوائر الدولة ودور العلم كما تفعله تلك المراسيم الطائفية المفتعلة والبعيدة عن الإيمان الديني واحترام المقدسات كالتي تشجعها التيارات الدينية الحاكمة الآن في البلاد. فمن ذا الذي يتجاوز على الحريات العامة؟ هل هو من يجلس في نادي مغلق أم ذاك الذي يخرج إلى الشوارع ويغلقها ويمارس أعمل عنف كالتطبير واللطم والتسبب في إشاعة القاذورات في الأماكن المقدسة وفي شوارع البلاد والتي تتعارض مع الحريات العامة.
ولا بد لنا أن نستفسر عن سر وجود مكتب القائد العام للقوات المسلحة الذي يحتفظ بتشكيلات عسكرية خارج إطار القوات النظامية؟؟؟. هل هو تكرار للتقليعة السابقة للنظام المنهار الذي كان يحتفظ بتشكيلات عسكرية كالحرس الجمهوري والحرس الخاص للحفاظ على كرسيه من السقوط وفرض سطوته إلى الأبد. ومتى نتعلم من الدول الديمقراطية المتحضرة التي لا تلجأ إلى تشكيل وحدات خاصة وبمسميات متعددة، بل تعمد إلى تكريس المؤسسات الديمقراطية وتوفر الحريات العامة لمواطنيها بدلاً من فرض نمط من العيش لا يستسيغه المواطن العادي. ومتى يعي ويسترشد هؤلاء بالآية القرآنية التي تقول: “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . .”( سورة الكهف- الآية 29).
إن اللجوء إلى هذه الأساليب التي ثبُت فشلها في السابق، لا يمكن أن توضع إلاّ في إطار الهجوم على الحريات الفردية والعامة. وهذا التوجه الخطير يمثل تهديداً للديمقراطية والحرية والدستور . فالممارسات التي تخدش العفة والتقاليد الاجتماعية، لا تعالج بهذه الطريقة، أي عن طريق اشاعة الفوضى وخرق القانون . إن ما يحصل الآن هي محاولة لحرف الناس عن الازمة الحقيقية، والتستر على أزمة الكهرباء المستعصية والخدمات المتعثرة ومعالجة مشكلة الفساد التي تنخر في جسد المجتمع وتدمر أخلاقه وقيمه ومعتقداته، ومعالجة الاحتقان الطائفي وانعاش الاقتصاد والكف عن هذا الصراع غير المجدي بين التيارات السياسية “الريعية”. إن هذا اللجوء إلى هذه الأساليب القسرية هو تعبير عن عجز الحكومة عن توفير أبسط مستلزمات العيش والخدمات للمواطن العراقي الذي نُكب بهذه النخب السياسية الفاشلة، فهو لا يؤسس لدولة مستقرة حديثة، ولا يوحد الشعب ويغرس فيه روح الرحمة والتكاتف بين أبنائه ومكوناته، بل يشرذمهم ويجبرهم على الهجرة من البلد كما هو حاصل منذ عقود وحتى الآن.
كاتب عراقي
adel.haba@ymail.com